كلفة التفريط في الثقافة وإشاعة السخافة…
معالي وزير الثقافة المحترم:
“لأن المناسبة شرط، ففي الوقت الذي أنهيت فيه إعداد روايتي الثالثة “صحراؤنا يا الغالية”، وتأهبت لتوقيع عقد الطبع والنشر والتوزيع، علمت من دار النشر أن سعر النسخة الواحدة من الرواية ارتفع إلى ما يعادل الضعف، وأن ما كان يغطي طبع 1000 نسخة، بات بالكاد يكفي لطبع 500 نسخة…
ولأني احتملت نفقات طبع ونشر وتوزيع روايتي “الضريح” و”نوار الفول”، فإني وجدت عسرا ومحنة في تحمل هذا الغلاء الفظيع، لكن لأن رواية “صحراؤنا يا الغالية” تهم الوحدة الوطنية، وتمزج التاريخ بالأدب لتفنيد الأكاذيب التي اكتنفت القضية، فإني سأواصل نزيفي ومغامرتي، يقينا مني أن العالم يغيره الحالمون…
قررت أن أرفع كتابي هذا إليك، أليك معالي وزير الثقافة أساجلك وأحادثك وأكالمك …”
السيد وزير الثقافة:
أبعث لك كتابي هذا في الوقت الذي اشتعلت فيه نيران الغلاء في كل شيء، وقتٌ غلت فيه الأشياء وثمنت، وبخست فيه الإنسانية ورخصت، وقتٌ هام فيه الناس يذودون عن المعيش اليومي من خبز وزيت وشاي وبنزين، هو نفس الوقت الذي ألفت فيه انتباهكم إلى تطاير جمرة من نيران الغلاء صوب غابة وزارتكم التي تحمل الثقافة اسما وعنوانا، فقد التهبت نيران الورق وتأججت واحتدمت، حتى بانت حمرتها، وسمع أجيجها، تحرق كل رغبة في الإبداع، وكل جميل في الفنون، وكل بديع في الابتكار، بعيدا عن منهاج ثقافتكم الذي ألزمتم به الناس إلزاما، وحقنتموهم به كرها وغصبا في العروق والعقول..
بادئ ذي بدء دعوني أهمس لكم أن “قطاركم” زاغ عن سكة الثقافة، وأن عربة ثقافتكم تجرها خيول مسعورة تسير بها نحو بالوعة بلا قاع، وأنكم خلقتم بها ولها قوما ممسوخا تخالهم العين بشرا وما هم بالبشر، يلهثون خلف التفاهات كما يركض الصغار وراء الفقاعات، ابتدعتم لهم ثقافة مشوهة قبيحة صارت رديفا للمجون والبغي والتهتك والعُهر، ولصيقة بإيقاعات تكفر بالمقامات، وتحدث لها موازين خارجة عن صلب الموسيقى، فكانت موسيقاكم التي بشرتم بها الناس لقيطة نغلة مجهولة، تقوم على تنظيم الضجيج، ونفختم في البذاءة من روحكم في مهرجاناتكم التي جعلت روادها مدمنين مستلبين غاوين لا يدري المهتز فيها لاهتزازه سببا، ولا يدرك المضطرب فيها لاضطرابه عللا، مهرجاناتكم التي تعلف أموال الشعب علفا، ولا تترك وراءها غير أطنان الأزبال والأتربة وقطعان الكلاب المشردة تبحث في مخلفات ثقافتكم التي لا يربح من ورائها غير باعة الأكلات الخفيفة، بعدما استبان لكم أن التعليف يغني الإنسان عن التثقيف، وألهاكم التفريط والتواني والارتخاء عن صون النجيع الناجع من الفنون والآداب، حتى برز لكم ذات سنة جيل الغلو والإرهاب، جيل يحمل داء نقصان المعرفة المكتسبة، جيل يؤمن أن هذا العالم سفينة لا تسعه إلا هو ومن على ديدنه، وما دون ذلك من مخالفيه في قتلهم عقبى ومثوبة وأجر عظيم، جيل عاف ثقافتكم المغشوشة، فاحتضنته ثقافة هدامة تتربص بالجامحين النافرين، والحصيلة منقوشة في تذكار الضحايا قبالة ساحة الأمم المتحدة في قلب الدارالبيضاء لمأساة 16 ماي 2003 ، لنؤكد لكم أن كلفة التفريط في الثقافة، وإشاعة السخافة، هي باهضة شاقة، يسددها الشعب من أمنه وسلمه ودمه وثروته ومستقبله…
يا معالي وزير الثقافة:
إن منصبكم كوزير للثقافة يعفيني من الخوض في مغانم الثقافة المجدية، والآداب المغذية، والفنون البانية، والحاجة لإذاعتها بين الناس، وجعلها سراجهم المنير، فكأني أحدث عابدا زاهدا عن منافع العبادة، فيكفي الفنون والثقافة والفكر والأدب أنهم جميعا نقيض للجهل والطيش والغفلة والغباء، وكفى بالتاريخ شاهدا أنه من رحم الأدب والفن ولدت أفكار بدلت العالم تبديلا، وإني أراكم كأنكم ترتعبون من وعي الإنسان ومعرفته ودرايته، حتى لا ينفضح سر الكمائن السياسية التي تنصب للأمة مرة كل خمس سنوات في موسم الصيد الانتخابي الجماعي، تتلى فيه مشاريع الدجل والتنويم، وصناديق في شكل فخاخ لاقتناص المغفلين والانتهازيين والجهال والواهمين الذين يبيعون الذمم ويرهنون البلد…
وأختم معالي الوزير، لا تخنقوا الإبداع في دواخلنا، فإننا عازمون على أن نبدع ونبتكر ونجهر بالقول، ولن نشبع من الأدب كتابة وقراءة، كما لن نشبع من حب الوطن، فإن رفعتم سعر الورق خدشنا رواياتنا وقصصنا وأشعارنا بأظافرنا على جلودنا، لتخلدها الندب، فالإبداع كالدخان قد يختفي لكنه لا يموت، ونحن لا نستجدي الصدقات، والعهد بيننا فضل المنتوج وثماره وفائدته ونفعه، وحسبنا لجنة تنظر في الأمر نظرا…
الكاتب: محمد الشمسي
إن الآراء الواردة في هذه المقالة، لا تـُعبّر بالضرورة عن رأي موقع "بديل"، وإنما عن رأي صاحبها حصرا.