التنوير.. ناشيد: النفس تقنتع قبل العقل (حوار)
يُعد مفهوم “التنوير” من المفاهيم الأكثر تداولاً، في الحياة الفكرية والثقافية والسياسية، في المغرب، وفي عددٍ من دوّل المنطقة، ومن أكثر المفاهيم إثارة للجدل، نظرا لاختلاف زوايا النظر لدى مكونات المجتمعات المغاربية والمشرقية.
وعلى هذا الأساس، يطرح مفهوم “التنوير” عدداً من الإشكالات، عند كل محاولة لتنزيله على أرض الواقع، أي عند كل محاولة لتجسيده كتصرفات عملية داخل مجتمعات الدول المذكورة.
وفي الحوار الآتي، مع الكاتب المغربي الباحث المهتم بقضايا التجديد الديني والشأن الثقافي سعيد ناشيد، نحاول مقاربة الموضوع من عدة زواية.
ويقول ناشيد، إن “السلاح الأهم، أمام قوى التنوير هو أخلاقيات التواصل العمومي”، موضحا أنه يقصد “الأسلوب الذي نتكلم به، نكتب به، ونتصرف به”.
ولمزيدٍ من التوضح، استدل بواقعة جرت معه على أرض الواقع؛ إذ جاءت تفاصيلها كالتالي: “قبل أيام التقيت بشاب مغربي.. بدأ يكلمني عن مفكر مغربي معروف، فقال، كنت أنفر منه إلى أن التقيت به، وتكلمت معه، فلاحظت أن الله “أعطاه القبول”.
وأردف سعيد: “هو تعبير يقوله المغاربة عن الشخص الذي ترتاح إليه النفوس.. أي نعم، إن النفس لتقتنع قبل العقل.. لا تنسوا هذا الأمر يا أصدقائي”.
فيما يلي نص الحوار:
بعد مراكمتك الواسعة في باب التنوير، ما هو التنوير بالنسبة إليك، بغض النظر عن رسالة كانط في التنوير؟
أود التنويه في البداية، إلى أن عبارة “بغض النظر عن..”، التي استعملتَها في سؤالك، هي بالتمام منطلق التنوير.
التنوير هو أن تفكر “بغض النظر عن..”، بغض النظر عن كل ما قيل لك، أو يُقال لك، من طرف أي كان. التنوير هو أن تفكر بنفسك في كل ما يدخل إلى رأسك، من آراء وأخبار وأفكار، فلا تسلم بأي أمر من الأمور التي يُحتمل أن تُؤثرَ على حياتك، ولا تترك أحدا يفكر بدلا عنك، كيفما كان؛ بمعنى، التنوير هو أن تكون سيد نفسك.
هل أنت راض على نتائج مسارك التنويري مع مثقفين مغاربة آخرين طبعا؟
مساري التنويري، راض عنه كل الرضا. عديد من المؤسسات العربية صنفت كتبي، ضمن الكتب الأكثر انتشارا في مجتمعات الشرق الأوسط وشمال إفريقية. وقد تم إنجاز أطروحات جامعية حول بعضها، سواء فيما يخص الإصلاح الديني أو الفلسفة العملية. كنت دائما على قناعة، بأننا لن نبني التنوير حين نغلق أبواب المغرب عن المشرق ونتكلم مع أنفسنا، حتى ولو في الإطار المغاربي.
صحيح أن الهجوم المحافظ الأكثر شراسة قادم من المشرق، لكنه شامل للعالم الإسلامي بأسره، وبالتالي فالهجوم المضاد المرتقب، لا يمكنه أن يكون إلا شاملا للعالم للإسلامي برمته، وقد يكون قادما من المغرب في المقابل، ما المانع؟! لذلك أشعر بكامل الرضا عن ذاتي، ودوري.
يرى بعض الملاحظين والمهتمين أن المجتمع المغربي لم يتشبع بعد بعقلية الحداثة والتنوير رغم الجهود؛ وهو لم يدخل بعد حتى إلى بابه؛ لماذا في رأيك؟ هل المشكل في المجتمع المغربي المعقد أو هو في الكيفية أو الأسلوب الذي خاضه التنويريون بخصوص معاملتهم مع المجتمع المغربي؟
في سياق الانتقال الحداثي الشائك والمعقد، طبيعي أن تكون هناك فترات مد وفترات جزر. إذا كانت السياسة هي فن الممكن، فالممكن أمام الفاعل السياسي الحداثي، هو العمل على تسريع المد واستثماره لأقصى الحدود، وتبطيء الجزر، والحد من تأثيراته ما أمكن ذلك.
في تاريخ المغرب الحديث، كانت هناك فترة مدّ أعقبت الاستقلال، على أثرها تبلورت نخبة حداثية وطنية، لكنها لم تُستثمر كما ينبغي، ثم أعقبتها مرحلة جزر استغرقت سنوات طويلة، إذ تزامنت مع ظروف الحرب الباردة، وصعود التيار الوهابي الأكثر تشددا، والثورة الإيرانية، والجهاد الأفغاني، إلخ، وصولا إلى ما كان يسمى بـ”الربيع العربي”، والذي لم يقُد إلى الديمقراطية، كما توقع الكثيرون، لكنه كان بمثابة الصخرة التي انكسر عليها تسونامي المد الأصولي.
الآن، أعتقد أننا نعيش مرحلة مد يمكن استثمارها في ترسيخ قوانين حداثية قادرة على تحصين المكتسبات في وجه أي انتكاسة محتملة.
ألا تلاحظ أن الجائع لن يبني حداثة ولا نصف تنوير كما قال بعض الباحثين في الموضوع؟ خصوصا وأن المجتمع المغربي ما زال يتخبط في تفاوتات اجتماعية شاسعة؟ والمعطى هذا سيمنع أي نهضة تنويرية بالمغرب؟
الجائع يحتاج إلى الخبز أولا. الجائع لا يفكر. اليوم بسبب تداعيات حرب أوكرانيا، يمر العالم بظروف عصيبة تهدد بوقوع المجاعة في عددٍ من مناطق العالم. هذا غير مطمئن لقوى الحداثة والسلام، لكن عندما لا يصل الفقر والحرمان إلى درجة المجاعة، كما هو واقع الحال اليوم، فيبقى التفكير ممكنا، بل يكون التفكير في سبب الفقر، هو التمرين الأساسي للتفكير، على أن التفكير السيء، قد يفضي إلى تأويلات فاسدة لسبب الفقر.
مثلا، هناك تيارات إيديولوجية تختصر الإجابة عن سبب الفقر في تأويلات بالغة الخطورة، من قبيل أن سبب الفقر هو لباس النساء، أو سبب الفقر هو “الكفر”، أو “الشرك”، أو “المهرجانات الفنية”، فهنا يتعلق الأمر بتأويلات فاسدة تُثير غرائز الكراهية وتعطل العقل.
هل يمكن أن يُبنى التنوير رغم أن المستوى الاقتصادي للمغاربة متدني جدا؟
هناك درجة من التدني، لا يمكن الحديث -خلالها- عن أي تنوير. يجب ألا نصل إليها. نعم لقد بلغ الفقر حدا جعله يضرب القدرة الشرائية، لكنه لم يضرب القدرة على التفكير، إلا أن القدرة على التفكير مضروبة أصلا لعوامل ثقافية، تتعلق بالتربية، التنشئة، المدرسة، الإعلام، والخطاب الشائع بين الناس.
ما السابق بالنسبة إليك؛ نهضة ثقافية تنويرية أو نهضة وتنمية اقتصادية؟
عندما تصل التنمية الاقتصادية إلى مستوى معين يجب أن يبدأ التنوير، وعندما لا يصل التدهور الاقتصادي إلى درجة معينة يجب أن يبقى التنوير. أعتقد أننا، الآن، في المغرب تقف عند هذه النقطة بالذات. هناك مكتسبات اقتصادية مرتبطة بالانفتاح على إفريقية وآسيا، وإعادة رسم خارطة العلاقات مع الدول الغربية، ومع الشرق الأوسط، وهو ما يحتاج إلى نهضة ثقافية موازية. إن التنمية البشرية، هي تنمية ثقافية بالأساس.
صحيح أن هناك بوادر إرادة سياسية، من أجل تحديث المجتمع سواء على مستوى الشكل أو المضمون؛ ولكن هل هو كاف بالنسبة إليك؟
الإرادة السياسية معطى مهم. شخصيا أعتقد أن الحداثة، لم تعد مجرد مطلب للتقدم، بل أصبحت مطلبا لتحقيق الأمن والاستقرار. في تقديري فإن الإرادة السياسية، واعية بهذا الرهان، وهي تواجه نوعا من القوى التقليدية المتغلغلة، والتي تتبنى معادلة واحدة، “المصلحة الشخصية فوق المصلحة الوطنية”.
كما أن الإرادة السياسية، لا تزال تفتقد إلى تيار اجتماعي للتنوير. ذلك أن قوى التنوير عندنا، لا تزال تشتغل كأفراد معزولين، رغم أنهم يمثلون طاقة هائلة.
غالبا ما تطرح في كتاباتك أن العمل على الذات له أهمية عظمى خصوصا في ما يخص الانتصار على النزوات الخبيثة؛ وهذا له أهمية كبيرة في مسار تحديث وتنوير الفرد والمجتمع؛ هل الذاتي ينتصر على الموضوعي دائما إن حصلت الإرادة والوعي؟
عادة ما نقول، لا ديمقراطية من دون ديمقراطيين. ما معنى أن يكون المرء ديمقراطيا؟ معناه أن يحترم أدبيات الحوار والتوافق والرأي الآخر في كل تجارب العلاقات اليومية.
يتعلق الأمر بتمارين يومية واشتغال دائم على الذات، طالما نوازع النفس ميالة بطبعها إلى الطغيان، والاستئثار بالكلام، ورفض الاختلاف. وهذا ما يقتضي الاشتغال على الذات. لأجل ذلك، يقول سبينوزا، لا نُولد مواطنين، لكننا نصير كذلك. بمعنى أن المواطنة شيء نتعلمه.
كان أفلاطون يرى أن الحكيم، أحق بالحكم لأنه يحكم نفسه. ولا يمكن أن يحكم الآخرين إلا الذي يحكم نفسه.
اليوم، في عصر الديمقراطيات، حيث صار المواطنون كافة شركاء في القرار، ولو بهذا القدر أو ذاك، فيجب أن يكون كل مواطن قادرا على أن يحكم نفسه، بمعنى أن يحكم انفعالاته ورغباته. إن التوافق والتنازل والتسوية لهي آليات تتطلب القدرة على التحكم في نوازع النفس. هنا يتعلق الأمر بتمارين في الفلسفة العملية.
كلمة أخيرة للنخبة التنويرية وكذا المجتمع المغربي من أجل وطن يقبل الجميع؟
السلاح الأهم أمام قوى التنوير هو أخلاقيات التواصل العمومي. أقصد بها الأسلوب الذي نتكلم به، نكتب به، ونتصرف به.
إنها الكيفيات الثلاث: كيف نكون؟ كيف نقول؟ وكيف نتصرف؟
قبل أيام التقيت بشاب مغربي، بدأ يكلمني عن مفكر مغربي معروف، فقال، كنت أنفر منه إلى أن التقيت به وتكلمت معه، فلاحظت أن الله “أعطاه القبول”. وهو تعبير يقوله المغاربة عن الشخص الذي ترتاح إليه النفوس.
أي نعم، إن النفس لتقتنع قبل العقل.
لا تنسوا هذا الأمر يا أصدقائي.
حاوره: خالد بوخش