“تفكك العقد الاجتماعي”… حين يفقد المواطن شعوره بالأمان


في السنوات الأخيرة، أصبح كثير من المغاربة يعيشون حالة من القلق الدائم، ولم يعد الأمر يتعلق فقط بغلاء الأسعار، أو ضعف الخدمات، أو صعوبة الحياة اليومية، بل تجاوز ذلك إلى ما هو أعمق وأخطر: “غياب الإحساس بالأمان”.

الأمان؛ لا يعني فقط وجود رجال الشرطة في الشوارع، ولا يتعلق بعدد الكاميرات في الزوايا.، فالأمان هو شعور داخلي بالطمأنينة، بأن هناك دولة تحمي المواطن، وقضاء ينصف المظلوم، ونظام يردع الظالم، وحين يغيب هذا الإحساس، يتحول الخوف إلى جزء من الحياة اليومية.

اليوم، قطاع واسع من المغاربة لا يشعرون بأنهم في أمان، ليس فقط من الجريمة، بل أيضا من الظلم، من التشهير، من غياب العدالة.

في المغرب اليوم هناك من يتعرض للسب والقذف يوميا على مواقع التواصل، وهناك من يتعرض للتهديد والتشهير به وبكل أصدقائه واقاربه، دون أن تتحرك الجهات المسؤولة كما يجب، وفقا لما هو مكتوب في فصول القانون.

أحد الأمثلة الصارخة هو شخص يعيش في الخارج، يظهر كل يوم على الإنترنت، يشهر بأشخاص من مختلف الفئات؛ مواطنين عاديين، صحفيين، فنانين، وحتى مسؤولين.

ورغم أن الشكايات ضده كثيرة، إلا أنه لا يزال حرا، يواصل الإساءة دون حسيب أو رقيب. هذا النموذج جعل الكثير من المغاربة يفقدون ثقتهم في العدالة، ويطرحون أسئلة مؤلمة؛ “لماذا يُحاسب البعض بسرعة، بينما يفلت آخرون من العقاب؟ هل نحن جميعا سواسية أمام القانون؟”.

هذه الظواهر ليست جديدة، فقد عاشتها شعوب أخرى قبلنا، ففي تونس خلال سنوات حكم “الهارب بن علي”، كان الخوف هو القاعدة، والصمت هو القناع اليومي للمواطن، ولم يكن الناس يشعرون بالأمان وهم يتكلمون، حتى داخل بيوتهم، ولم يكن الخوف فقط من البوليس، بل من الجار، من زميل العمل، من الهاتف، من كل شيء، وكان المواطن يعيش حياة مزدوجة: خارجية صامتة، وداخلية ممتلئة بالخوف والشك.

علماء الاجتماع يربطون هذا الوضع بما يسمونه “تفكك العقد الاجتماعي”؛ أي حين لا تعود الدولة قادرة على حماية المواطن، ولا المواطن قادرا على الثقة بالدولة، ينهار الشعور بالانتماء، ويصبح الفرد في حالة دفاع دائم عن نفسه، ينكمش الناس على ذواتهم، وتتفكك الروابط بين الأفراد، وتضيع الثقة بين المجتمع ومؤسساته.

- إشهار -

في كتابه “الحداثة والهولوكوست”، يتحدث عالم الاجتماع “زيغمونت باومان” عن كيف يمكن أن تتحول الدولة من راع للحياة إلى متفرج على الخوف، ويضيف أن أخطر ما يمكن أن يحدث في أي مجتمع، هو أن تتخلى الدولة عن دورها الأخلاقي، وتكتفي بالدور الإداري أو الأمني.

ويرى عالم الاجتماع المغربي عبد الكبير الخطيبي أن العقد الاجتماعي في العالم العربي هش بطبعه، لأنه مبني على الطاعة أكثر من المشاركة، وعلى الصمت أكثر من التعبير.

كما يرى الخطيبي، انه عندما يشعر الناس بأن صوتهم غير مسموع، وأن أمنهم غير مضمون، ينكسر هذا العقد وتظهر ردود أفعال خطيرة: مثل الانسحاب، والعزوف، والغضب الصامت.

حين لا يشعر المواطن بالأمان، ينسحب من الحياة العامة، لا يثق في الدولة، ولا يشارك في الانتخابات، ولا يؤمن بأن صوته مسموع، ليتحول إلى فرد خائف، صامت، منشغل فقط بكيفية النجاة، لا بكيفية التغيير، وبهذا، تُغلق أبواب الأمل، وتُفتح نوافذ الهروب إلى الخارج، أو إلى الداخل النفسي المنهك.

غياب الأمان ليس مشكلة عابرة، بل هو عرض من أعراض انهيار الثقة بين المواطن والدولة، وهو نتيجة مباشرة لتراجع العدالة، وغياب المحاسبة، وتكريس الإفلات من العقاب، لأنه حين يشعر الناس بأن لا أحد يحميهم، يبدأ كل واحد في حماية نفسه بطريقته، وهنا تبدأ الفوضى.

على الدولة أن تعيد للمواطن هذا الإحساس البسيط والعظيم؛ “أنك في وطنك، وأن القانون يحميك، مهما كنت ومن كنت”، فالأمن لا يُقاس بعدد رجال الشرطة، بل بعدد المواطنين الذين ينامون مطمئنين، ويستيقظون وهم مؤمنون بأن لهم مكانا في هذا الوطن، وصوتا لا يُحتقر.

أعجبتك المقالة؟ شاركها على منصتك المفضلة
قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد