حسناء لحكيم تكتب.. “رحلة الروح”


في عالمنا المتغير والمليء بالصخب والتشتت والكثير من الضجيج، يتوق الكثير من الناس إلى الانغماس في لحظات من السكينة والتواصل العميق مع الروحانية الإلهية، ومن بين الأساليب التي استخدمتها البشرية عبر التاريخ لتحقيق هذا التواصل الاستثنائي، نجد السماع الصوفي والرقصة المولوية كأحد أعمق هذه الأساليب شيوعا في العالم بأسره، والتي تبرز كتجربتين فنيتين روحيتين لا تضاهى.

    يمكنكم الاشتراك في نشرتنا البريدية للتوصل بملخصات يومية حول المقالات المنشورة على الموقع

    الاشتراك في النشرة البريدية

    وللسماع الصوفي قدرة عجيبة على تهدئة العقل واسترخاء الروح بحيث يغوص المستمعون في أمواجه المتراقصة بلطف وتنتعش الحواس وتستيقظ الروح وتتواصل مع الإله في أعماق الوجود مستعملا الجسد كوسيلة لتحقيق ذلك، ينسجم الراقصون في حركاتهم المتدفقة والدوامات المتراقصة في دوران متواصل لساعات وساعات، رغبة في التحرر من قيود الواقع وبراتين فوضاه والانغماس في حالة من الوحدة الروحية في تركيز وتأمل عميقين، ليذوب الجسد في الروح في محاولة فريدة للاتصال بالذات الالاهية.

    هنا تبدأ رحلتنا والتي ستأخذنا إلى أعماق الوجود لاكتشاف بعده الروحاني والجوانب الأعمق والأكثر إلهاما في ذاته ليستشعر السلام الداخلي والتوازن الروحي العابر لكل الحدود وذلك من خلال تحليل مقطع فيديو على موقع “التيكتوك”* لصفحة “أيهم نبع”*

    في هذه المقاربة سأقوم برحلة عبر الزمان في سفر روحي لاكتشاف هذه التجارب الروحية بعمق تاريخ بدايتها، روادها وانتشارها سعيا مني لفهم تأثيرها العميق على الذات والروح، وسأناقش القوة الجمالية والدلالات العميقة التي تحملها الرقصة المولوية في ارتباطها بالسماع الصوفي.

    في الوهلة الأولى التي سقطت عيني على الفيديو مر بي على “صفحة التيكتوك” وبصدفة عجيبة شدني مشهد ساحر بموسيقى لطالما تلامس روحي وانحناءة الراقصين من مختلف الأعمار لإلقاء التحية على مقدمهم أو كبيرهم ذي العباية السوداء مقبلين كتفه الأيسر، بثوبهم الأبيض وحزام اسود وطربوش بني بحجم كبير و طويل وحذاء جلدي أسود ، مصطفين بشكل منظم ومستقيم، واحدا تلو الاخر، كل ينتظر دوره في ثبات وركوز، على منصة واسعة اعدت في قاعة رياضة مغلقة ممتلئة عن اخرها، الرجال في جانب والنساء في جانب اخر في انضباط عجيب وهدوء لا متناهي و قد كانت الانارة بعيدة عنهم وقد تمركزت في وسط القاعة مسلطة على حركة الراقصين والفرقة المرافقة لهم والتي خصص لها مكان وسط القاعة كانوا 17 عازفا موسيقيا و12 اخرون في مجموعة الكورال ،أما قائدهم فكان جالسا في الجانب الأيمن منهم خلفهم جدارية مكتوب عليها: مركز “مولانا الثقافي” باللغة التركية هنا اتضح لي أنه لم تكن قاعة رياضية ولكن كانت واحدة من أشهر المؤسسات الثقافية بتركيا وبالضبط في ولاية “قونية” في احتفالية عظيمة إحياء للذكرى 751 لوفاة مولانا “جلال الدين الرومي”. *

    مع موسيقى هادئة جدا صوت ناي رفقة الدفوف في ألحان شجية ساحرة ثم إننا نعلم جيدا ما يفعله الناي في مستمعيه، تتم تحية القائد الذي يظهر بملامح جادة وثابتة، و يبدأ الراقصون في احتفاليتهم (الرقصة المولوية وسأشير اليها في المقالة بشكل مفصل) كل في مكانه بهدوء رهيب وركوز مدروس: في المسافة وفي الحركة حتى في ملامح الوجه وكأنهم واحد، بعضهم يشد يده لكتفيه والأخر يمدها للسقف وكأنه يبحث لمعانقة السماء ليمر وقت معين تتحد فيه الحركة لتصبح واحدة: الكل يرفع يده ويدور دون توقف ثم تسلط الانارة عليهم من الأعلى ليكون المشهد أكثر وضوحا.

    طقس يجذب الروح ويذهب بالعقل الى طرح الكثير من الأسئلة:
    *ما السماع الصوفي ?
    *ماهية الرقصة المولوية ?
    *مصدرها وسياقات ظهورها و رمزيتها وتأثيرها على ممارسيها ?

    التصوف هو جزء من المنهج الإسلامي الذي لا يمكن فهمه أو اعتناق معتقداته أو فهم أساليبه إلا من خلال الانغماس فيه والاندماج به وببساطة، فإن التصوف لا يدرك أو يفهم إلا بواسطة الصوفي نفسه وبالتالي، فإن الدراسات أو الكتابات التي تتناول التصوف تعتبر مجرد لمحات سطحية تتناول ظواهره وبعض المعتقدات والتقاليد والأساليب الخاصة به، لكون أساس عمل التصوف يكمن في الروح والتفرد الروحاني الذي يتجاوز الجسد والمادية.

    فالتواصل الروحاني والوصول إلى الحضرة الإلهية لا يتحقق إلا من خلال الممارسة والاجتهاد في العبادة والطاعة، وتهذيب النفس البشرية وابتعادها عن مغريات هذا العالم الدنيوي المحدود، عندئذ، يحقق المريد الغاية المرجوة ويصل إلى حالة الاتحاد والفناء في الله. وبناء على ذلك، يصل المتصوف إلى أعلى مستويات الوجد الإنساني، وتتجلى هذه الحالة في تصرفاته وحركاته وأسلوبه.

    ويعتبر السماع الصوفي أحد الاليات التي يوظفها المريدون للوصول الى هذه الدرجة من الوجدانية الروحية في أجمل تجلياتها فهو فن روحي مرتبط بالذكر، وهو أحد مقامات التصوف التي تحقق الارتقاء الروحي للمريد هو تلك الوسيلة للتقرب إلى الله والتواصل معه ويمكن المتصوف من العودة إلى باطن ذاته، واستكشاف أعماقها، وكشف حقيقتها، وتعميق الجانب الروحي فيها، لذا يولي المتصوفة اهتماما كبيرا لهذا العنصر الأساسي في صياغة تجربتهم الروحية.

    إن الذكر والتفكر في معاني الحضور الإلهي والتعلق بالله ورسوله يوفر نوعا من الراحة النفسية والاطمئنان للأفراد خاصة في هذا العالم المليء بالمشاكل والنزاعات والتناقضات، في محاولة للهروب من الحياة المادية المليئة بالأعباء والهموم عن طريق الانغماس في معاني الحضور الإلهي والتركيز على الله ورسوله، والسماع هو الوسيلة المثلى لدى راقصي المولوية للوصول إلى الوجد، فماهي الرقصة المولوية ومن أسسها ?

    - إشهار -

    يتم وصف “الشطح “في الصوفية على أنه حالة استثنائية تعبر عن وجد فاض بقوته وهاج بشدة غليانه وغلبته، يحدث هذا الشطح في لحظة اتحاد الصوفي بالله بعد مجاهدة روحانية حارقة، وهي أعلى وأعظم حال يصل إليه الصوفي، وفي الرقصة المولوية التي أسسها مولانا جلال الدين الرومي في القرن 13، فإنها ليست مجرد تنفيس روحاني لوجد فاض بالصوفي الذي يعيش تجربة الاتحاد، بل تعبر أيضا عن فلسفة عميقة وتحمل رمزية كبيرة ، هذه الرقصة قد تعكس المحاكاة والتعبير عن وحدة الإنسان مع الإله والتواصل الروحي العميق وتتجاوز الرقصة المولوية الظلال الخارجية وتتأثر بجوهر الفلسفة الصوفية، إن الدائرة التي يتوسطها مركز هي شكل هندسي مقدس يتقرب من شكل الكعبة وحصنها في مكة، وشكل الكرة الأرضية، وأيضا شكل الأفلاك التي تدور حول الشمس، هذا الشكل الدائري يعتبر رمزا مهما في الفلسفة الصوفية ويعبر عن عدة معاني وعلاقات، في الرقصة المولوية الدائرية حيث يتشكل الصوفيون ويتحركون بشكل دوراني وإيقاعي ليمثل هذا الشكل الدائري الوحدة والتواصل بين أفراد المجموعة وتوجههم نحو الله و يتجاوز الرقص المولوي المجرد جسديا ويعكس الانصهار الروحي والروحاني للصوفي مع الإله والكون وفي الفلسفة الصوفية، تحمل الدائرة معاني عميقة ورمزية: فهي تعبر عن الوحدة والكمال والشمول، حيث لا توجد بداية ونهاية ولا انفصال في تجاوز لماهية الزمان والمكان كما ترمز إلى الانسجام والتوازن والتكامل الذي يجمع بين الله والكون والإنسان. وقد ناولت كتابات مشهورة في الفلسفة الصوفية، مثل كتابات ابن عربي في المعاني العميقة للدائرة ودلالاتها في سياق العلاقة بين الله والكون والإنسان وهذه الكتابات تعبر عن تجربة الوحدة والانصهار وفهم العلاقة الروحية العميقة في إطار الصوفية.

    رحلة للطهارة والحب والاتحاد: بالرقصة المولوية والدوائر، في سياق الطهارة والحب والاتحاد بالله، يتم التعبير عن الانسجام والتواصل الروحي بين الصوفيين والله من خلال الدوائر والحركات الدائرية في الرقصة ويشير استخدام الناي في الرقصة المولوية إلى روح الصوفي المشتاقة للاتحاد بالذات الإلهية، الناي يرمز أيضا إلى الانفصال والشوق، حيث يحن إلى شجرة الغاب التي قطع عنها، ويعبر عن الألم الذي ينشأ عن الفراق.

    في الرقصة المولوية، يتشكل مجموعة من الدوائر حول الشيخ الذي يعتبر مركز الجماعة، يدور الدرويش في دوائر حول نفسه في اتجاه عكس عقارب الساعة، مشابهة لحركة الحجاج حول الكعبة ويتكون هذا التشكيل الدائري الكبير من الدوائر المتصلة ويعكس الدوران والتوازن في الرقصة المولوية، وتعد المقارنة بين المجموعة الدائرية في الرقصة المولوية والمجموعة الشمسية انعكاس التوازن والتلاحم بين الجزء الفرداني والكلي، والشمس تعتبر المركز حيث تدور الكواكب حولها، وكذلك، في الرقصة المولوية، يتم التركيز على الشيخ كمركز وقائد للرقصة ومجلس السماع.

    يعبر الشيخ والدرويش عن علاقة الله بالإنسان والتواصل الروحي من خلال الدوران المشترك حول الشيخ والدوائر التي تشكلها حركاتهم وتوضح الأطوار والحركات المختلفة في الرقصة المولوية رموزا متعددة، بدءا من التوبة والبدء في الحب وصولا إلى التوحيد والاستنشاق الإلهي والتحرر من الشر ونشر الخير لتنتهي الرقصة بعودة الدرويش إلى العالم الحقيقي. ويعبر عن التجربة الروحية التي خاضها ويدعم فرضيتنا مقولة جلال الدين الرومي في “الرباعيات”: “أيها البشر الأتقياء التائهون في هذا العالم، لِمَ هذا التيه من أجل معشوق واحد؟ ما تبحثون عنه في هذا العالم، ابحثوا عنه في دخائلكم فما أنتم سوى ذلك المعشوق”.

    إن هذا السفر الصوفي هو رحلة الإنسان نحو الحقائق الروحية والكمال الداخلي هو وسيلة لبناء الإنسان وتحقيق الكمال المرغوب به، والذي ينعكس على السلام والتوازن الداخلي للفرد ومحيطه هو سفر ينطوي على انتقال المرء من مرحلة إلى أخرى في رحلة النمو الروحي، يشمل ذلك محاربة النفس وتجاوز الشهوات والعوائد الدنيوية، والتخلي عن العلاقات السطحية والانغماس في عالم الروح والحقائق العليا، هو انتقال من مرحلة الذنوب إلى التوبة واليقظة، ومن الحرص على الدنيا إلى الزهد فيها، ومن مساوئ النفوس إلى التحلية بأضدادها. يتمحور السفر الصوفي حول تحقيق التوازن والتطور الروحي في عدة مجالات من الإنسان، مثل العقل والروح والقلب هو تجربة داخلية تهدف إلى تحسين الإنسان وتنقية سلوكه وتفكيره، سفر يتطلب محاربة النفس وتغلب على الرغبات الشخصية والضغوط الخارجية ومحاربة النفس الامارة بالسوء والتغلب على شهواتها ومأ لوفاتها، هو اذن وسيلة لتحقيق التوازن والتطور الروحي، وإعادة ضبط السلوك والفكر والخواطر التي تعرضت للاختلال.

    المرء، وهو يقرأ كتابات الصوفية بمختلف أجناسها وأنواعها، يشعر بأن لدى الصوفية رغبة عميقة ومكبوتة في بناء مجتمع مثالي يسوده الفضيلة هو يرى أن الإنسان المثالي منعم بالقوة والأمان والحرية والمساواة والسعادة المادية والروحية في تحقيق لمعادلة التخلي فالتحلي للتجلي، ليس المقصود هنا مفهوم “السوبرمان” الذي ابتكره “نتشه”، وإنما هو تصور للإنسان المتكامل والمتوازن في أعلى حالاته. عبر العصور والثقافات، سعت الصوفية إلى رفع المرء من حالته الطبيعية والبشرية إلى مستوى القداسة، إنه يعتلي الحقوق ويتجاوز ضروريات الزمان والمكان والجسد.

    إن المشروع الصوفي يسعى لبناء مجتمع يتميز بالفضيلة والقداسة، حيث يحكم العدل والحق والمحبة والسلام، والصوفية وحدها هي السبيل لتحقيق التحسن الداخلي والتنمية الروحية وتطهير القلوب وتحقيق الانسجام والتوازن بين الجسد والروح والعقل.

    المراجع

    * ” التيكتوك”: منصة الكترونية
    *أيهم نبع: صحفي ومذيع بالتلفزيون السوري ومؤثر على مواقع التواصل الاجتماعي.
    * جلال الدين الرومي: هو شاعر وفيلسوف وعالم دين فارسي، ولد في الثاني من سبتمبر عام 1207 في بلاد فارس (الآن إيران)، وتوفي في 17 ديسمبر 1273 في قونية (الآن تركيا). يعتبر الرومي واحدا من أعظم الشعراء والمفكرين الصوفيين في التاريخ.
    1- الميلودي شغموم، المتخيل والقدسي في التصوف الإسلامي: الحكاية والبركة، مكناس، منشورات المجلس البلدي بمدينة مكناس، ط1، 1991.
    2- انا ماري شيمل، الابعاد الصوفية في الإسلام وتاريخ التصوف ،2006.
    3- فرح ناز رفعت جو، العرفان الصوفي عند دلال الدبن الرومي.
    4- عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي، الإسفار الغريب نتيجة السفر القريب، تحقيق وتعليق: بدوي طه علام، القاهرة، دار الرسالة للتراث، د.ط، 1982.
    5- أنا ماري شيمل، الشمس المنتصرة، دراسة أثار الشاعر الصوفي مولانا جلال الدين الرومي ترجمه عيسى على العاكوب – تهران – طبعة أولى.
    6- محي الدين ابن العربي، إنشاء الدوائر اعتنى به الدكتور ابراهيم الكيلالي الحسيني الشاذلي الدرقاوي،1336 هجرية.
    7- https://www.mominoun.com/ الموقع الالكتروني ل ” مؤمنون بلا حدود ” للأبحاث والدراسات.
    8- https://www.arageek.com/ موقع “أراجيك ” المتنوع.
    9- https://www.alsoufiaalyoum.com/ موقع ” المتصوفة اليوم” .
    10- https://www.researchgate.net/?_tp=eyJjb250ZXh0Ijp7ImZpcnN0UGFnZSI6InB1YmxpY2F0aW9uIiwicGFnZSI6InB1YmxpY2F0aW9uIn19 موقع الكتروني للأبحاث العلمية والدراسات اللسانية.

    أعجبك المقال؟ شاركه على منصتك المفضلة..
    قد يعجبك ايضا
    اترك رد

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

    يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد