مدن بدون روح و مدينة بلا مدنية

مدننا لا تُعبّر عن رؤية هندسية، أو طابع ثقافي، أو خصوصية مجالية، ولا تنطوي على أيّ فنّ معماري يُلهم أو يُدهش. إنها تترجم واقعًا اجتماعيًا، واقتصاديًا، وسياسيًا، وإداريًا أكثر مما تترجم فكرة أو معنى.
هي ببساطة:
ترجمة وظيفية لعلاقة السلطة بالمجتمع،
وعلاقة الإنسان بالمجال،
وعلاقة المال بالإسمنت المُدرّ للدخل.
مدن بلا روح… بلا ملامح.
هي إذن قوالب جاهزة، أكثر مما هي عمارة مُخطّطة.
قوالب بأشكال متكررة، مكرورة حدّ الضجر.
وكل تكرار يُفرغ المدلول من دلالته، ويولّد النفور والإحساس بالضيق والرتابة.
لهذا، تجد أن جُلّ الناس تهرب من الفضاء العام إلى الفضاء الخاص؛ من الشارع والساحة والزاوية، إلى البيت أو الفيلا أو الشقة، أو حتى “البراكة”.
نهرب من الفضاء العام… إلا في ما ندر.
لا أتحدث هنا عن كورنيش عين الذياب، ولا عن مارينا طنجة، ولا عن الرباط التي تستعيد هذه الأيام شيئًا من روحها.
أتحدث عن بني ملال كما صوّرها المبدع عبد الكريم الجويطي في روايته كتيبة الخراب.
أتحدث عن مدن الهامش: الفقيه بنصالح، والخميسات، والحاجب، ومكناس التي نُكِبت، وآسفي، والعرائش، ووجدة، والناظور، وتيفلت، وسلا التي تكبر في غفلة من الجميع، وتمارة التي تُعتَبر من ضحايا الرباط؛ الرباط التي ضاقت بسكانها، فصدّرتهم إلى جوارها.
أتحدث عن قصبة تادلة، وميسور، وميدلت، وتازة، وسيدي سليمان، وسيدي قاسم، جرف الملحة…
وعن كل المدن التي لن يزورها المونديال… ولا حتى في الحلم.
هذه كلها مدن بلا روح، بلا بنية تحتية، بلا فضاء أخضر، بلا ترفيه، بلا جمال عمراني.
تجمعات إسمنتية تحكمها سلطة غير منتخبة،
بواسطة “أشباه ممثلين” للسكان في المجالس الجماعية،
يخوض أغلبهم حربًا انتخابية شرسة، فقط ليخدم مصالحه الذاتية، أو ليؤسس قاعدة انتخابية تضمن له دخول البرلمان.
أما السلطة الحقيقية، فهي في يد الوالي، والعامل، وأعيان المدينة، وأغنيائها.
المدن اليوم في المغرب مجرد اسم بلا مُسمّى؛
صناديق إسمنتية بطوابق مغلقة،
للفقراء أحياؤهم وشوارعهم وحاراتهم وأسواقهم،
وللأغنياء أحياؤهم المغلقة، وفيلاتهم الفسيحة، وفنادقهم البهية، وطرقهم التي تنقلهم عادة إلى المطارات، لا إلى قلب المدن ولا إلى التجمعات السكانية المكتظة بالعشوائيات ودور الصفيح،
حيث نُقِلت ثقافة البادية إلى المدينة… لا بشكل طبيعي، بل بشكل مشوَّه.
* وبين القاعدة العريضة للفقراء، والقمة الحادة للأغنياء، تضيع الطبقة الوسطى بين الاثنين.
* البشر أشتات، لا يجمعهم سوى اسم جغرافي يُطلق مجازًا على “مدن” لا تمتلك مقومات المدينة.
تجمعات سكنية لا أكثر، ولهذا تجد الناس يغيرون أسماء الأحياء
- إشهار -