فرنسا… هدوء “هش” يخفي جراح السكان العميقة


مر أكثر من أسبوع على مقتل الفتى نائل في نانتير، ضاحية باريس، برصاص شرطي، والتي كانت أول منطقة تهتز تحت وقع احتجاجات عنيفة تطورت إلى أعمال عنف في عدة مناطق بفرنسا.

    يمكنكم الاشتراك في نشرتنا البريدية للتوصل بملخصات يومية حول المقالات المنشورة على الموقع

    الاشتراك في النشرة البريدية

    ورغم عودة الهدوء -الذي ساهمت في تثبيته أطراف مختلفة، إلى هذه المدينة الهادئة عادة- إلا أن جراح هذه الأحداث كانت عميقة، ويخشى بعض السكان من انفلات الوضع من جديد مستقبلا لعوامل لم تمح بعد.

    على واجهة مركز البريد، القريب من مقر محافظة نانتير والمقابل لساحة نيلسون مانديلا، ثبتت أخشاب بأحجام كبيرة لتعويض زجاج هذه المؤسسة المكسر نتيجة الاحتجاجات العنيفة التي أعقبت مقتل الفتى المأساوي، يوم الثلاثاء 27 يونيو الماضي.

    وعلى غرار مركز البريد، انتهجت محلات أخرى متضررة نفس الطريقة في “ترميم” أجزاء من واجهاتها المكسرة، بعد أن تعرضت بدورها للتخريب، كما هو شأن مصرف “كريدي ميتيال”، ومتجر “مونوبري”، وغرفة التجارة ومؤسسات أخرى بالمدينة، حاولت أن تداري جراح أحداث أليمة، خلفت ندوبا واضحة، في انتظار إصلاح ما يجب إصلاحه.

    وقبل أن تستعيد المدينة هدوءها نسبيا، استمرت الأحداث بالمنطقة ثلاثة أيام لتنتقل شرارتها إلى مناطق أخرى من فرنسا. وكان عمدة المدينة باتريك جاري من أول الداعين إلى التهدئة.

    وأكد في كلمة له أنها كانت أياما “صعبة على السكان”، الذين يزيد عددهم عن 96 ألف نسمة، منددا بـ”أعمال غير مقبولة”.

    وإن عاد الهدوء إلى المدينة، إلا أن هذه الأحداث خلفت جراحا عميقة لدى سكانها.

    كوليت البالغة 85 عاما من العمر، لا تخفي غضبها مما حدث، وتستنكر بقوة أعمال العنف. “أنا غاضبة جدا. عندما مررت من هنا آخر مرة وجدت نفسي محاطة بالنيران من كل جانب”، تقول هذه المرأة التي كانت في طريقها الأربعاء نحو حديقة “أندري مالرو”. قبل أن تضيف بإلحاح كبير: “على الآباء تربية أبنائهم. ضربتان على الردفين لا تقتلان. نحن تربينا هكذا. كيف يعقل أن نجد أطفالا في 13 و14 عاما من العمر خارج البيت مساء”.

    وكحل لذلك، تقترح المرأة الثمانينية “عودة الخدمة العسكرية لمدة عام”، وتدين استخدام الشرطي للسلاح في حالة نائل، معتبرة أنه “كان عليه إطلاق النار على عجلات السيارة”، كما عبرت عن امتعاضها من أعمال التخريب التي تعرضت لها العديد من المحلات. “متجر هو عصارة مجهود شخص لربما لسنوات طويلة من العمل. والمؤسسات العامة هي في خدمة الجميع. لماذا يتم إحراقها؟”.

    لقد “قضينا ثلاثة أيام صعبة، النداءات التي أطلقت للتهدئة من قبل البلدية والمساجد والجمعيات تم التجاوب معها. ونحن سعداء بأن الهدوء عاد إلى نانتير”، تقول لبنى بنعزي مديرة جمعية “أوثنتي-سيتي” العاملة في حي بابلو بيكاسو أحد الأحياء الشعبية بالمدينة الذي تقطن به جدة الضحية.

    دور الجمعيات في التهدئة

    ترى بنعزي أن “الجمعيات عموما تلعب دورا مهما جدا في التربية. لكن للدولة مسؤوليتها خاصة في التربية والتعليم. فالتمويل الذي تحصل عليه الجمعيات يتناقص يوما بعد يوم. والتمويل هو عصب الحرب. حتى بحسن إرادة الجميع، في لحظة من اللحظات نجد أنفسنا عاجزين بدون تمويل. وتعمل هذه الجمعيات في الأحياء الشعبية بجانب الشباب والعائلات، وتحتاج لموظفين لأجل ذلك. والكثير من الجمعيات تنشط بفضل العمل التطوعي”.

    وحسب مديرة الجمعية، تقوم “أوثنتي-سيتي” التي يبلغ عمرها 30 عاما، “بمصاحبة التلاميذ في مساراتهم المدرسية. وتقدم لهم خلال العطل عدد من الأنشطة. وتقترح على الأهل نزهات عائلية بصحبة أطفالهم للقيام بأنشطة سواء ثقافية أو ترفيهية، وترافق كذلك الأشخاص الذين يحتاجون للمساعدة في إجراءاتهم الإدارية، لتجديد بطاقة الإقامة مثلا أو تحضير ملف التقاعد وطلب المساعدات الاجتماعية وغيرها. وكذلك تقوم بالكثير من عمل الوساطة لدى الشباب، ولدينا عمل تضامني ينظم مرة أو مرتين خلال ثلاثة أشهر بفضل منظمة “لايف” التي يوجد مقرها الرئيسي في باريس، والتي تقدم لنا مساعدات غذائية يستفيد منها الأكثر حاجة في الحي”.

    - إشهار -

    وتتقاسم الفعاليات الجمعوية في نانتير عموما الشعور بـ”الألم” إزاء ما حصل. وهذه الأحداث تعكس، حسب كمال العبد رئيس جمعية الشباب الرياضي الثقافي بنانتير، أن “فرنسا مريضة مع ما عاشته من مصاعب في السنوات الأخيرة: احتجاجات السترات الصفراء، فيروس كورونا، مظاهرات القطاع الصحي، التضخم وغلاء المعيشة، الكثير من الناس يعيشون برواتب أقل من الحد الأدنى للأجور، قضية التقاعد”.

    ويضع الأحداث الأخيرة في سياق رد فعل فئة من الشباب “عبّر بها عن وضعه في أحياء شعبية هشة. هي طريقة للتعبير بالنسبة لهم، ولو أنني لا أتفق معها. لكنهم يبقون شبابا، ولا يمكن أن نطلب منهم أن يتصرفوا كالكبار. هو تعبير عن أن السيل بلغ الزبى”.

    دور الآباء؟

    بالنسبة لكمال العبد، المربون في الجمعيات الرياضية كما بقية الجمعيات، “قاموا بدورهم رغم أن الأحداث جاءت مع نهاية الموسم الرياضي، ومرروا رسالة الدعوة إلى التهدئة. لكن ما حدث يتجاوزهم بكثير، لأن هذه الأحداث ساهم فيها تأثير المجموعة على الفرد وأمور أخرى، وكما تعلمون أن الشباب قابل للتأثر بسرعة والدخول في دوامة مثل هاته. وفي الأخير، نبقى نحن مجرد مربين رياضيين نساعد إلى جانب الآباء في التربية، لكن الآباء يبقى دورهم أساسي ومهم”.

    والرياضة، يستطرد العبد، “يمكن أن تساعد كثيرا في التربية وتصريف طاقة الشباب بالاتجاه الصحيح. ولذلك أنا أناضل في هذا الميدان. فالجمعية الرياضية تقدم قيما تربوية للشباب منذ الصغر. لأن كرة القدم يمكن بدء ممارستها في سن الخمس سنوات. وهي رياضة جماعية تعلم الطفل احترام الآخر بدءا من الخصم، الحكم والمربي وغيرهم. وهذه قيم يحاول ترسيخها المربون بالأطفال في كل حصة تدريب وفي كل مباراة طيلة العام”.

    ويشيد العبد بما أنجزته بلدية نانتير من بنية رياضية تحتية وما تقدمه للجمعيات الرياضية من دعم. “إننا محظوظون بتواجدنا في نانتير. هناك ملاعب وقاعات مغلقة. والبلدية قريبة من الجمعيات الرياضية. حقيقة هناك عمل كبير قامت به منذ سنوات”.

    هذه الأحداث ستبقى راسخة، لا محالة، في ذاكرة المنطقة “ولا يمكن أن تنسى”، حسب أحمد المولود في نانتير قبل أكثر من خمسة عقود. “هي جريمة بكل المقاييس ارتكبت بحق طفل، لكنها لا تبرر كل هذه الأعمال من العنف”، متسائلا في الوقت نفسه “كيف يسمح الآباء لأبنائهم بالخروج من المنازل رغم الظروف الصعبة” التي مرت بها المنطقة خلال الأيام الأولى عقب مقتل نائل.

    وبرز اسم الآباء في هذه الأحداث بشكل لافت، حتى أن الرئيس ماكرون توجه في خطاب مباشر لهم، دعا فيه “الأولياء إلى التحلي بالمسؤولية” إزاء أطفالهم، حيث أن أعدادا كبيرة من المعتقلين خلال الأحداث على الصعيد الفرنسي كانوا من صغار السن. وشدد على أنه “تقع على عاتق الوالدين مسؤولية إبقائهم في المنزل… الجمهورية ليست مكلفة أن تحل محلهم”.

    “غضب ثم عنف”

    لكن برأي بنعزي هذا العنف كانت له أسباب عدة. “العنف جاء بعد حالة ظلم. شاب قُتل برصاص شرطي في ظروف نعرفها اليوم كلنا. في البداية تشكل غضب سرعان ما تحول إلى عنف إضافة إلى الصورة السيئة التي تروج على شباب الأحياء. إنه تعبير عن أن السيل بلغ الزبى، ليس هو الحل لكنها الطريقة التي وجدها هؤلاء الشباب لإسماع صوتهم. طبعا أنا لا أبرر هذا العنف”.

    وتعتبر الفاعلة الجمعوية حبيبة بيكضاض “حتى لو كان هناك هدوء ظاهريا، فالانتفاضة الاجتماعية صماء”، موجهة اللوم للحكومة بالقول: “على الرغم من تحذيرات الجمعيات والمنتخبين المحليين، ليست هناك أجوبة عن الشعور بالضيق الذي يشعر به بعض السكان ممن لا يرون بصيص أمل في حياة كريمة: فرصة عمل، سكن وتعليم”.

    وتضيف بيكضاض: “نعم، عاد الهدوء إلى الشوارع حتى حادث آخر يجسد العنصرية والظلم الذي يعيشه الصغار والكبار بشكل يومي”، حسب تعبيرها. وهذا “لا يعني نانتير لوحدها بل كل المناطق التي يكون فيها الوضع الاجتماعي هشا”.

    أعجبك المقال؟ شاركه على منصتك المفضلة..
    قد يعجبك ايضا
    اترك رد

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

    يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد