مظاهر الأزمة الصامتة بين المغرب وفرنسا
توصيفات مختلفة تعطى للعلاقات المغربية الفرنسية بأنها علاقات تاريخية واستراتيجية واستثنائية وثقافية وعميقة، وما اختيار ملك المملكة المغربية للجمهورية الفرنسية في أول زيارة دولة خارج الوطن إلا عنوانا بارزا على أهمية فرنسا في الدبلوماسية المغربية، كما أن الرئيس ماكرون أثناء زيارته للمغرب سنة 2017 اعتبر المغرب بالبلد الصديق والشريك الاستراتيجي.
ولكن ما الذي يجعل اليوم من هذه العلاقات تمر من حالة الجمود والفتور والتي توصف من طرف المحللين والإعلاميين بالأزمة الصامتة، وما التوصية التي صدرت عن البرلمان الأوروبي وتصويت نواب ونائبات حزب ساكن قصر الإليزيه والمتعلقة بحرية الصحافة بالمغرب إلا مؤشرا على هذه الأزمة.
تريد فرنسا إرسال رسائل مبطنة إلى المغرب عن عدم رضاها على المسار الجديد الذي رسمه لنفسه في بداية القرن الواحد والعشرين، والقائم على تنويع الشركاء وتوسيع دائرة الأصدقاء والعودة القوية لعمقه الإفريقي ضمن مقاربة سياسية استراتيجية ترسخ تعاون جنوب جنوب لمواجهة التحديات المختلفة التي تفرضها التغيرات الجيوسياسية وحالة اللايقين التي يعرفها الاقتصاد العالمي والنظام الدولي.
واختارت فرنسا استخراج الأدوات التي تتوفر عليها للضغط على المغرب ليعود لبيت الطاعة، والركون إلى مرتكزات العلاقات التقليدية التي ترسخت على مر نصف قرن من استقلال المغرب القائمة على التبعية والتسليم بحتمية هذه التبعية.
وكانت سنة 2014 المحطة التي بدأت فيها فرنسا تجريب وسائل ضغطها وذلك عندما أبلغت السلطات القضائية الفرنسية نظيرتها المغربية بقرار ملاحقة مدير المخابرات المغربية، وإرسال الشرطة الفرنسية لمنزل السفير المغربي في باريس لتبليغ مدير المخابرات المغربية بقرار قاضي التحقيق بمتابعته، الشيء الذي أدخل البلدين في أزمة دبلوماسية غير مسبوقة ترتب عنها قرار المغرب استدعاء السفير المغربي بباريس وتعليق اتفاقية التعاون القضائي بين الدولتين.
وتعاملت الدبلوماسية المغربية بصرامة مع هذا الموقف، بشكل جعل السلطات الفرنسية تتدخل للتلطيف من حدة التوتر، والتعبير عن أسفها على ما صدر من السلطات القضائية الفرنسية، وتوج ذلك بالمكالمة الهاتفية التي جرت بين الملك محمد السادس والرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند لتهدئة هذا التوتر وتعديل اتفاقية التعاون القضائي التي تربط البلدين وتوشيح الحكومة الفرنسية مدير المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني بوسام جوقة الشرف الوطني.
واستمر مسلسل الضغط عندما قامت محكمة باريس باستدعاء صحفيين مغاربة للمثول أمامها في دعوى التشهير، وهو ما أثار حفيظة السلطات القضائية المغربية حيث استدعت وزارة العدل والحريات قاضي الاتصال الفرنسي المقيم في المغرب وإبلاغه احتجاج المغرب لعدم احترام فرنسا لاتفاقية التعاون القضائي التي تربط البلدين.
وازدادت حالة الغيوم في العلاقات المغربية الفرنسية بسبب ما يعرف بتسريبات “القرصان كريس كولمان” لوثائق الخارجية المغربية في توتير حيث تم التلميح إلى وقوف الاستخبارات الفرنسية وراء هذه التسريبات كرد فعل على تسريب اسم مسؤولة المخابرات الفرنسية في الرباط إلى الصحافة المقربة من الدوائر الحكومية المغربية.
ولم تقف الضغوطات على المغرب عند هذا الحد بل اتخذت السلطات الدبلوماسية الفرنسية قرارا من جانب واحد بتخفيض منح التأشيرات إلى المواطنين والمواطنات المغاربة بنسبة 50 في المائة بحجة رفض السلطات القنصلية المغربية بفرنسا منح تصاريح لترحيل مهاجرين غير نظاميين إلى المغرب، وهو القرار الذي نظر إليه المغرب بعدم الرضا، وحتى عندما أعلنت وزيرة خارجية فرنسا عند زيارتها للمغرب عن انتهاء أزمة التأشيرات التي دامت أكثر من سنة، اعتبر وزير خارجية المغرب “أن قرار العودة إلى الوضع الطبعي قرار أحادي الجانب يحترمه المغرب ولن نعلق عليه رسميا”.
وواصل منقار الديك الفرنسي نقره باتهام المغرب بالتجسس على الشخصيات السياسية الفرنسية وعلى رأسها رئيس الجمهورية، فيما عرف بقضية بيغاسوس دون قيام أي دليل على تورط الأجهزة الاستخباراتية المغربية في هذا العمل والذي لم تكن الغاية منه إلا المساس بسمعة المغرب والتشهير به أمام الرأي العام العالمي، وهو ما دفع بالمغرب سنة 2021 إلى رفع دعوى قضائية بتهمة التشهير أمام المحكمة الجنائية ضد الجهات التي كانت وراء اتهام المغرب والمنابر الإعلامية التي تروج له، وهي القضية التي لا زالت رائجة أمام القضاء الفرنسي.
إن هذه الضغوطات المختلفة التي تمارسها فرنسا على المغرب، هو نتيجة مباشرة عن انزعاج فرنسا من المسار الجديد الذي خطه المغرب لنفسه من أجل تقوية تموقعه في الخريطة الجيوستراتجية لمحيطه الإقليمي والدولي، والتحرر من القبضة الفرنسية التي ترهن قراراته السيادية وتجعله أكثر قدرة على المناورة والتفاوض على مصالحه الاستراتيجية وفي مقدمتها قضية الوحدة الترابية.
ولم تهضم فرنسا كيف أن المغرب استطاع أن يدخل في حوار سياسي ودبلوماسي هادئ بعيدا عن الأضواء حول قضية الصحراء المغربية والعلاقات المغربية الإسرائيلية التي أثمرت إبرام اتفاقية أبراهام لعودة الاتصال بين الدولتين واعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، وكيف استطاع المغرب أن يربح معركة كسر العظام مع كل من ألمانيا قائدة الاتحاد الأوربي وإسبانيا المنافس التجاري والاقتصادي القوي لفرنسا بإعلانهما أن الحكم الذاتي هو الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية لحل قضية الصحراء.
هذه التطورات جعلت فرنسا في وضع مرتبك أمام الاختراقات التي حققها المغرب على المستوى الأوروبي والدولي فيما يخص قضية الوحدة الترابية، التي أصبحت كما أعلن ملك البلاد النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط الذي يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات.
ويبقى خروج فرنسا من منطقة الراحة، فيما يخص موقفها من قضية الصحراء المغربية محدد أساسيا في حلحلة حالة الفتور الذي تعرفها العلاقات بين البلدين على الرغم من أن وزيرة الخارجية الفرنسية صرحت عند زيارتها للمغرب أنه “بخصوص الحكم الذاتي فإن موقفنا يدعم المغرب، وقد أظهرنا ذلك في الأمم المتحدة حتى في الوقت الذي كنا فيه الوحيدين الذين لديهم الإرادة لتطوير بعض الأفكار بشأن خطة الحكم الذاتي، وأن المغرب يعرف أن بإمكانه أن يعول على فرنسا”.
وعلى الرغم من نفي الناطقة الرسمية للخارجية الفرنسية بوجود أزمة بين المغرب وفرنسا، فإن إنهاء مهمة السفير المغربي بباريس وإصدار توصية جديدة مستفزة من البرلماني الأوروبي تمنع ممثلي المغرب من ولوج مقراته وغياب أي مؤشر عن وجود ترتيبات لزيارة الرئيس الفرنسي للمغرب تعيد التوازن للعلاقات التي تربط فرنسا بالجارين المتخاصمين فهذه كلها تؤكد أن العلاقات بين البلدين تمر بحالة من الفتور.
د عبد العالي بنلياس: استاذ القانون العام بكلية الحقوق السويسي
إن الآراء الواردة في هذه المقالة، لا تـُعبّر بالضرورة عن رأي موقع "بديل"، وإنما عن رأي صاحبها حصرا.