غويانا: جهنم الخضراء.. وخطاب المدانين
مفدمة
سأتناول في هذه المقالة طرق التواصل والإبداع في صفوف المدانين (les bagnards ) والثروة الفنية والأدبية التي خلفوها. فرغم انعدام شروط التفكير والإبداع في معسكرات الأسر، كانوا مجبرون على تطوير أساليب المقاومة الذاتية، من بينها التواصل مع العالم الخارجي حتى تصل رسالتهم إلى الضمير الإنساني. هذا الجانب لم يحضَ بما يكفي من الاهتمام على صعيد الكتابة والبحث رغم بعض الإشارات هنا وهناك.
ضمن ما شاهدته خلال زيارتي إلى سجن (معسكر) سان لوغان دوماروني، في غرب المستعمرة العقابية، العديد من المقتنيات واللوحات والرسوم والرسائل والكتابات، على القماش وأوراق الأشجار، لهؤلاء المدانين، مستعملين في ذلك أغصان الأشجار(الريشة)، والنبتات والفواكه الطبيعية كحبر. عندما كنا في جولة على نهر لاماروني، توقف الملاح ‘جون’ عند إحدى الشواطئ لزيارة بعض العائلات من الهنود و’الأفارقة’، قطف ثمارا برتقالي اللون وأخذ غصنا صغيرا، وبدأ يرسم ويكتب على كتفيه.
وفهمت من حديثه أن محتوى هذه الفاكهة اعتمده الأقدمون كمادة للرسم والتعبير والكتابة. هذا اللون موجود بكثرة في أعمال المدانين (اللوحات، الرسومات..)، التي لا تقدر بثمن، مازالت مخزونة، ولم تعرض إلى يومنا هذا للعموم لعدم توفر مكان آمن لذلك حسب المسؤولين هناك. وعندما سمح لي برؤيتها طُلِب مني مشاهدتها عن بعد نظرا لهشاشتها، بعضها تجاوز عمره 170 سنة. رغم مرور 70 سنة على إغلاق معتقلات غويانا، لم يجدوا بعد مكانا ملائما لعرض هذه اللوحات!!!
خطاب المدانين
قبل أيام قليلة اتصلت بي سيدة فرنسية، باحثة في سلك الماستر، سمعت بزيارتي لغويانا عن طريق جامعة كييان. طلبت مني مساعدتها في فك شفرة بعض الكلمات الواردة في رسائل لمدانين مروا من غويانا منذ أكثر من قرن، وهي مكتوبة بخليط من العربية والدارجة الجزائرية، إحداها تعود إلى سنة 1916. الرسائل كلها لجزائريين كانو محتجزين في سجون غويانا.
السيدة الفرنسية الباحثة بشعبة اللسانيات، في أشكال التعبير واللغة المستعملة بين المدانين، وعائلاتهم والإدارات السجنية، أمضت شهرين خلال هذه السنة في غويانا، وهي تبحث عن هذه الرسائل في الأرشيف.
استعملت الباحثة كلمة فك شفرة، وهي تعي ما تقول. لأن إدارة السجون كانت تمنع المدانين من الخوض في أحوال إقامتهم أو الأمور السياسية عموما، مما دفعهم لإستعمال اللغة العامية ( الجزائريين مثلا) أو المُشفّرة حتى يبلغوا رسالتهم أو جزءا منها على الأقل إلى أهلهم. ففي إحداها يستعمل صاحبها كلمات من قبيل: الحلوف والبطاطا.
أثناء زيارتي لغويانا، عثرت بالصدفة على بعض القوانين الداخلية المنظمة للمراسلات والتواصل في سجون غويانا، وهي على شكل إعلان (Avis) يتحدث بالتفصيل عن تنظيم التواصل بين المدانين وعائلاتهم. تقول إحدى فقراته :” يسمح للمدانين، غير الخاضعين للعقاب، التواصل فقط مع عائلاتهم ( الوالدين، الاخوة، الأبناء، الزوجة) في الأمور العائلية والخاصة جدا، وذلك مرة واحدة كل شهر، ويتم قراءتها عند إرسالها، ووصولها من طرف الإدارة، ويمكن حجزها حتى عند وصولها..:”.
الطالبة الباحثة طلبت مني فك شفرة الحلوف والبطاطا وأشياء أخرى. لم تكن مهمة هينة، لكن ما يمكن قوله عموما بهذا الصدد، ولو من باب الدعابة، أن أحسن مكان لاقتناص الحلوف ( الخنزير) هي غرسة البطاطس، علاقة حب أبدية. مما دفعها للضحك وهي تتساءل: هل وصل إبداعهم إلى هذا الحد؟. ربما.
إن هذه الطالبة الباحثة أدركت جيدا أهمية الموضوع الذي اختارته. قامت بمبادرة جيدة للبحث في ‘خطاب المدانين’. ومن يدري ربما سيتم تطوير ‘توجه أدبي’ خاص في التعبير عن تلك البشاعة وتلك المرحلة القاسية. وسيكون لهذه السيدة ربما السبق في ذلك، لأني لم أصادف هذا النوع من الدراسات، في المكتبات الأربع التي زرتها هناك، ومن بينها مكتبة جامعة كييان.
هذه الأخيرة تتوفر على أغلب الإصدارات والأبحاث حول المدانين. ورغم أن العديد من هؤلاء المدانين لم يكونوا يتقنون الكتابة جيدا، لكنهم عموما انتجوا وأبدعوا في “أدب التواصل” والشعر والرسم…
ففي إحدى الرسائل، يصف صاحبها حالة المدانين القاسية في غويانا بـ:”الجهنم الخضراء”. يبدو أن استعمال هذا التعبير المركب “الجهنم الخضراء”، وهي حمراء طبعا، بمثابة توافق غير معلن بين هذا المدان والسجان حول الممكن والمحضور قوله، كي لا تُحتجز الرسالة.
ففضلا عن إبداع السجين في جمع النقيضين: الجهنم والإخضرار، فقد استطاع أيضا صياغة تعبير دقيق مكثف لوصف المستعمرة العقابية غويانا؛ ظاهرها جنة وداخلها جهنم. هذا التعبير (الجهنم الخضراء)، أستعمله كذلك أحد السياح عنوانا لمذكراته :”أربعون، يوما في الجهنم الخضراء:” يصف فيها خطورة وجمالية هذه البلاد من خلال مروره بأنهارها وأدغالها ومعتقلاتها. وقد يكون استعار هذا العنوان من خطاب هذا المدان.
في إحدى الرسائل يتساءل أحد المدانين عن سبب تأخر إلتحاق زوجته به، وهو ينتظر قدومها منذ زمان. طبعا هذا غير ممكن لأن الزيارات العائلية ممنوعة على المدانين، بل إن أهلهم لا يعرفون أين توجد غويانا حتى، أما السفر إليها فمن سابع المستحيلات كما يقال. وقد يكون صاحب الرسالة أصيب بالخلل العقلي الذي كان مصير الكثير من المدانين الذين ظلوا على قيد الحياة. بالمقابل هناك رسائل أخرى مليئة بالتحدي والأمل وحتى بالانكسارات وبأسلوب أدبي راقي جدا.
وتعتبر رسائل جوزيف، كليمس أوطو، إلى عائلته نموذجية في هذا المجال. ففي رسالة إلى أخته الصغرى يقول:” أعلمي، أختي العزيزة، أنه منذ وصولي إلى غويانا في فبراير 1930، لم أعش في أي مكان آخر غير هذه الجزر، التي هي مجرد جزء صغير جدًا من غويانا. ثلاثة رقع من الصخور خرجت من المحيط، ويحيط بها من جميع الجهات هذا الحزام المتصاعد من الأمواج التي تنكسر على صخورها.
تخيلي أنها (الجزر)، مغطاة بسيقان طويلة، وهي جذوع النخيل والجوز الهندي. وأن الرياح تعذبنا وتشوش على راحتنا باستمرار (..)، أصبحنا هنا سواسية أمام هذه الطبيعة التي تستوعب كل شيء، بأفق لا متناهي من الماء (..). كثيرًا ما أحلم بأعزاء وعزيزات الزمن الجميل، والذين ظلوا معنا على العهد. أتمنى من جانبهم، أن يفكروا في بنفس القدر..:”.
المدانون بين الفن والكتابة:
الكتابة على جدران الزنازن:
كان هناك جزء من المدانين لم يُسمح لهم بالتواصل نهائيا مع العالم الخارجي عبر الرسائل. وقد اختار هؤلاء، على وجه الخصوص، الكتابة على جدران زنازينهم للتعبير عن أحاسيسهم وسخطهم ومطالبهم. فعند دخولي إلى زنازين جزيرة رويال كان أول ما أثار انتباهي هي الكتابة على جدرانها. تعبيرات بمختلف اللغات من بينها اللغة العربية. وهو ما ليس موجود، بمثل هذا الوضوح، بالسجون الأخرى بسبب تساقط سطوحها أو بسبب الرطوبة المفرطة والإهمال.
وجزء من زنازين جزيرة رويال ماتزال في وضع جيد. وعلى أسوار هذه الزنازين نُقشت العديد من الأسماء مثل: جوزيف وعبد الله. ومن بين التعبيرات جملة كتبت بالانجليزية :” Fuck you.. I want to go out to the sun:” :” تبا لكم..أريد الخروج إلى الشمس:”.
حاولت إلتقاط مجموعة من الصور التي ستجدون بعضها مرفقة بهذه المقالة. هذا فضلا عن إنتاجات المدانين الأدبية الكثيرة بعد إطلاق سراحهم أو بعد هروبهم من الاسر، وهي عديدة وعلى شكل شهادات وقصص تؤرخ لزمن مرورهم وتواجدهم بهذه السجون. هناك مثلا شهادة أحد المدانين، الذي تمكن من الهروب إلى أمريكا سنة 1935، تحت عنوان:” المقصلة الجافة”. وهو كتاب يصف وحشية هذه السجون من قبيل: الأعمال الشاقة والكاشو وقطع الرؤوس بحضور المعتقلين. وهناك أيضا الكنز الثمين الذي كشف عنه فيليب كولين ( حفيد أحد أطباء المدانين السيد ليون كولين) سنة 2012، يتمثل هذا الكنز في: 150 صورة التقطها جده للمدانين، والتقارير الطبية، ورسائل تعود للمدانين، احتفظ بها الجد الراحل في مكتبته، فعمل الحفيد على إخراجها في شكل كتاب سنة 2015 يحمل عنوانا ؛” الرجال والسجون:”.
المدانون والفن التشكيلي
العديد من الأعمال الفنية للمدانين بقيت شاهدة، على وحشية المستعمرة العقابية، وذلك على شكل أعمال أدبية ورسومات على الأقمشة وأوراق الأشجار والخشب وأسوار المباني.
ما يلاحظ على أغلب الأعمال الفنية للمدانين أنها تعبيرات مباشرة مستمدة من واقع الأسر. هناك من أطلق على هذه الأعمال مفهوم الإتجاه العبثي والواقعي في أعمال المدانين. ويعتبر الفنان التشكيلي (مدان من أصل فرنسي) ‘لاغرانج’ (المعروف بـ فلاغ) المؤسس الحقيقي لهذا الاتجاه.
‘لاغرانج” خلف لوحات مهمة ونادرة. خصص لها المتحف الوطني بمدينة كييان (العاصمة)، مكانا خاصا في الطابق الأول. 25 لوحة تؤرخ بشكل دقيق لمسار المدانين ابتداء من إبحارهم في أقفاص الكلاب على ظهر ‘بواخر جهنم’ إلى حين إطلاق سراحه، وهم يمتهنون التسول في كييان أو سان لوغان، مرورا بالأعمال الشاقة ومحاولات الهروب والإعدامات وزنازين جزر الخلاص.
‘لارانج’ فنان عصامي تم إبحاره، من ليل إلى غويانا سنة 1931، بتهمة التخابر مع المخابرات الإنجليزية. قضى ما يقارب 16 سنة، في مختلف سجون غويانا تخللتها محاولات الفرار الفاشلة. رفض العودة إلى فرنسا بعد إطلاق سراحه سنة 1946.
رحل عن هذه الدنيا سنة 1964 في بداية عقده السادس. أعماله كانت محط اهتمام العالم وخاصة الأمريكيين الذين نضموا له معارض عدة في الولايات المتحدة بحضوره، كما أصدروا كتابا حول تحربته بسجون غويانا تحت عوان: “فلاغ على جزيرة الشيطان” Flag on the Devil’s Island
وقد كتب أحد القراء بصدده :” أنهيت للتو هذا الكتاب للمرة الثانية، كان أكثر روعة مما اعتقدت. رحلة في الجحيم عبر حياة ‘جاسوس مزور’ نزيل المستعمرة العقابية الفرنسية في غويانا..:”.
دور الكتابة والفن في إنهاء السجون العقابية
إلى جانب كتابات وشهادات الذين تمكنوا من الفرار، كانت هناك حملة واسعة من طرف فعاليات سياسية وثقافية وصحفية ومدنية بفرنسا، وبباقي العالم من أجل إنهاء النفي القسري والسجون غير الشرعية خارج فرنسا. ففي سنة 1923 سيتمكن الصحفي الاستقصائي Albert Londres من زيارة المكان وكتابة تقارير في الموضوع لصالح جريدة Le matin. من خلال هذه التقارير استطاع الرأي العام الفرنسي متابعة ما كان يحدث بتلك السجون.
ومن بين ما كتبه أيضا رائعته La belle. وقد كانت بداية انتفاضة الوعي ضد الهمجية. لقد تحولت هذه القصيدة إلى أوبيرا (Columbia -la belle)، تم تقديمها على أغلب مسارح فرنسا، كاحتجاح على هذا العمل المشين واللانساني.
في سنة 1927، سيتمكن العازف الأمريكي Romberg (بيانيست)، من أصل هنغاري من عزف الرائعة الثانية التي تم استلهامها من كفاح مقاتلي الريف: the desert song أو أغنية الصحراء، وقد تم إهدائها إلى المقاتل الريفي-الألماني جوزيف كليمس أوطو (المصدر D.Sasse).
وسيتم إخراجها في بداية الخمسينات على شكل فيلم. في نفس السياق تم كتابة قصيدة معبرة ومباشرة جدا سنة 1929 عن النفي القسري إلى معتقلات غويانا تحت عنوان Cayenne. هذه القصائد، وخاصة La belle، تبصم على روح هذه المقالة في جانبها الدرامي والإنساني، وخاصة إذا ما أمعنا النظر في أسلوبها والمفردات التي تضمنتها، أقتبس منها:
La belle
La Loire a quitté La Pallice
Maintenant tout est bien fini
On s’en va vers le Maroni
Où les requins font la police
On est sans nom, on n’est plus rien
La loi nous chasse de la ville
On n’est plus qu’un bateau de chiens
Qu’on mène crever dans une île…
الجميلة (الترجمة):
لالوار غادر لاباليس
الآن انتهى كل شيء
نحن ذاهبون إلى لاماروني
حيث الشرطة مشكلة من أسماك القرش
نحن بلا اسم ، نحن لا شيء
القانون يطاردنا من المدينة.
نحن مجرد قارب من الكلاب
أن نمضي إلى الموت على جزيرة…
لالوار: أو كما كان يطلق عليها “باخرة جهنم” “، باخرة لحمل المدانين.
لاباليص: ميناء فرنسي على الاطلسي لنقل المدانين.
خاتمة
سأختتم مؤقتا هذه المقالة بنقطتين:
الأولى: ولأننا نتحدث عن الكتابة والفن في أعمال المدانين، كان ضمن المدانين المغاربة في سجون غويانا شخص إسمه ” كبور بن محمد بن أحمد “. ولد في أسفي وتمت محاكمته في محكمة الجنايات بمراكش سنة 1928 بعقوبة سجينة قاسية وصلت 15 سنة مع الأعمال الشاقة، وكان شابا في عقده الرابع. تم إبحاره في 1 فبراير 1931 من الجزائر في اتجاه غويانا على نفس رحلة المقاتل جوزيف كليمس أوطو.
“كبور”، كما يعرف أغلبنا، شخصية محورية في أغلب الأعمال السنمائية الدرامية للفنان حسن الفذ. استمعت بالصدفة قبل شهور إلى حوار معه أنه يفكر في إجراء جولة بأمريكا لوضع شخصيته المفضلة “كبور” على الخشبة كمقاوم. إن لم تخني الذاكرة. عندما شاهدت اسم المعتقل ‘كبور’ ضمن لائحة المدانين المغاربة تساءلت مباشرة عن العلاقة والصدفة العجيبة!!.
الثانية: كان ضمن المدانين مهارات وتجارب عدة، من بينهم مهندسو البناء والطرقات والقناطر والزراعة. هؤلاء من رسموا وبنوا غويانا اليوم. بنوا المدارس، والكنائس والمسارح والسجون والموانئ وأرصفة الشوارع ومجاري المياه والواد الحار والطرقات…
في مدينة كييان توجد هضبة معروفة، تلتقي في جوفها كل مجاري المياه الصالحة للشرب، وتعيد توزيعها على كامل المدينة إلى يومنا هذا، وهي من صنع المدانين. كما أن تطوير الزراعة وايجاد أماكن صالحة لها كانت من عمل مدانين الهند الصينية، وأحفادهم يسيطرون على هذا القطاع إلى يومنا هذا. المدانون كانو ينتجون بأنفسهم مايستهلكونه وإلا ماتوا جوعا، هكذا كانت بدايات الإقلاع الاقتصادي بالمستعمرة العقابية، وخاصة بعد توقيف الميزانية المخصصة للمدانين من طرف المتروبول تحت شعار :” من زرع أكل.:”.
إن الآراء الواردة في هذه المقالة، لا تـُعبّر بالضرورة عن رأي موقع "بديل"، وإنما عن رأي صاحبها حصرا.