اللحظة السورية بين الأولويات الحارقة والأسئلة المستعلية
لعل مما يلفت نظر كل المتابعين طبيعة الأسئلة التي يأتي بها الصحافيون الغربيون إلى قادة الثورة السورية، ومثالها الطافح طريقة ونوعية أسئلة صحافي بي بي سي لأحمد الشرع وهو يفتتح حواره معه ويلح ويزيد في الإلحاح حول مدى سماحهم بشرب الخمر وبتعليم المرأة. هي أسئلة تكشف بوضوح عن تجذر العقلية الغربية الاستعمارية الاستعلائية في الخطاب الإعلامي الغربي، والذي بدوره يعكس العقلية السياسية الغربية في نظرها إلى الشعوب المسلمة.
لا بد بداية من التأكيد على أنه لا يمكن التقليل من أهمية الأسئلة المتعلقة بالمرأة وبالحريات، فهي قضايا محورية تستحق النقاش والتخطيط في أي مشروع وطني. لكن ما يثير الاستغراب، ويكشف خللا في ترتيب الأولويات، هو أن يلح صحافي على هذه القضايا في لحظة مفصلية لم يمض على الإطاحة بنظام مستبد سوى أيام معدودة، بينما تقف البلاد على أعتاب مرحلة مليئة بالتحديات الوجودية، بل الأكثر من ذلك يصر على البدء بتلك الأسئلة والإلحاح عليها أكثر من غيرها.
وحتى إذا أردنا مسايرته في منطقه، فأين المنطق يا ترى وهو لم تُثره أوضاع النساء السوريات الحرائر المحررات للتو من سجون الأسد الهارب، وقد عانين الويلات من التعذيب والانتهاكات ويحملن معهن نذوب تلك المعاناة، أو النساء اللواتي عانين من الاغتصاب خلال الحرب؟ كيف غابت عن اهتمامه أحوال النساء السوريات في المهجر، اللواتي يتسولن في الطرقات في بلدان كثيرة بعد أن قُتل معيلوهن أو أُرغمن على النزوح؟ بل أين كانت مشاعره الإنسانية وهو يشاهد على الهواء مباشرة نساء غزة وهن يقتلن ويفقدن أبناءهن ويستصرخن العالم من تحت الأنقاض؟ أليست هذه الأسئلة أولى بالإلحاح والإجابة عنها إذا كان حقا معنيا بالمرأة وقضاياها؟
هذا يؤكد أن العقلية الغربية، كما عبر عنها هذا الصحافي، تفتقر إلى إدراك خصوصية اللحظة التاريخية التي يعيشها الشعب السوري، أو ربما الأصح أنها تعرف ولكن لا يهمها ما يهم الشعوب العربية المسلمة. فبدلا من التركيز على الأسئلة الكبرى التي تشغل القيادة الجديدة، مثل تحقيق الأمن والاستقرار، ولملمة جراح المجتمع، وإعادة المهجرين، وبناء جسور الثقة بين مكونات الشعب، انصب اهتمامه على قضايا، رغم مشروعيتها، لا يمكن معالجتها في سياق عدم الاستقرار.
إن الانتقال من مرحلة الاستبداد الأسود، الذي خلف خرابا عاما، إلى بناء دولة مستقرة عادلة هو عملية معقدة ومتشابكة، تتطلب تأسيس أرضية صلبة للحوار الوطني والمؤسسات التي يمكنها أن تضمن طرح هذه القضايا ومعالجتها ضمن إطار شامل ومستدام. إن القفز فوق الأسئلة الكبرى المتعلقة بإنقاذ الوطن إلى النقاش حول قضايا تحتاج بطبيعتها إلى سياق مستقر ومؤسسات فعالة، يُظهر غياب حس الأولويات لدى هذا الخطاب الإعلامي، أو ربما هي رغبة مستترة في تشتيت الأنظار عن القضايا الملحة التي تواجه الشعب السوري.
من المهم أن نفهم أن الإجابة على أسئلة الحريات لا يمكن أن تكون عابرة أو مؤقتة، بل يجب أن تكون نتيجة لحوار وطني حقيقي يعكس الإرادة الجماعية للسوريين في إطار دولة عادلة ومستقرة. هذا لن يتحقق إلا إذا تم توجيه الجهود أولا نحو معالجة القضايا العاجلة المتعلقة بالوجود والبقاء، ثم الانتقال لاحقًا إلى باقي قضايا الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتعليمي ضمن ظروف طبيعية وآمنة.