الصراع الفكري حول المدونة: بين حرية الإختيار والتمسك بالثوابت
يجب علينا أن نعترف بأننا نعيش اليوم في بلادنا انقساما فكريا حول المرجعيات، خاصة في بعديها الديني والحقوقي، وليس من حق أي فريق أن يدعي أحقية مرجعيته في السمو على إرادة فئات من المجتمع، سواء اتسعت او تقلصت في حجمها وقوة انتشارها.
وارتباطا بالنقاش السائد حول تعديلات مدونة الأسرة، ورغم الطابع التشاركي في تحضيرها، إلا أنه يبقى نخبويا بالطبع، سواء تعلق الأمر بالتيار “المحافظ” أو “الحداثي”، لكن الحقيقة أن فئات كبيرة من الشعب المغربي ليست طرفا في هذا النقاش رغم أنها معنية بشكل لا ريب فيه بهذه التعديلات، بالنظر إلى تأثير هذا الإطار القانوني على أهم عنصر في المجتمع وهو الأسرة.
فبالرغم من أن للدولة كمؤسسة، ثوابت، غير قابلة للمس أو التغيير وهي الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي.
إلا أن هذه الثوابت لا تتناقض وفق الخصوصية المغربية مع الكثير من القيم الكونية والثقافية والدينية والاجتماعية التي تتغذى منها الهوية المغربية المتعددة الأبعاد.
وكمثال على ذلك ضمان التشريع الأسري الخاص باليهود المغاربة والذي يضمن حقوقهم في مجال الأسرة، وفق تشريعات يُعمل بها لتنظيم الأسرة المغربية اليهودية، دون أن يُحدث ذلك أي تنقاض مع الثوابت وهذه ميزة مغربية خالصة، أثبتت نجاعتها.
إلا أننا اليوم وفي إطار الصدام الحداثي المحافظ بين القوسين، بالرغم أنني لا أؤمن بمبدأ الصراع الفكري، بقدر ما أدعم التكامل الفكري، في ظل ضوابط الإحترام المتبادل، دون إقصاء أو تسلط أو إستلاب، لكن لا يمكنني أن أنكر بحكم الواقع وجود أشكال وأبعاد مختلفة للصراع، البعيدة كل البعد عن التكامل أو التعايش.
فبعدما كنا نعيش هيمنة للفكر المحافظ الأغلبي، أصبحنا نعيش تسلط للفكر الحداثي الأقلي.
فلا يجوز للأغلبية أن تلغي الأقلية، ولا يمكن للأقلية أن تتعامل بفوقية، اعتبارا لمستوى وعيها وثقافتها وانفتاحها وقدرتها على تحديد معالم الحياة الأنسب والأجدر والأصلح.
لن أخوض هنا في مدى نسبية أو قطعية من يشكل الأغلبية أو الأقلية، لأن الأغلبية بكل تأكيد هي الصامتة من المجتمع، التي يَدعي كل طرف تمثيل رأيها والدفاع عن مصالحها وصون حقوقها وحفظ دينها وإنسانيتها.
ومادمنا نتحدث عن هاذين التيارين فذلك ليس حكرا على المسلمين فحسب، فهو صراع جدلي في مختلف الديانات، اسلامية كانت أم مسيحية أو يهودية، خاصة في الدول التي لا تتبنى العلمانية دينا أومذهبا، خاصة عندما نتحدث عن الديانتين الإسلامية واليهودية، وهما اللاتان تهمنا كمغاربة.
وبالتالي وفق هذا المنطق يجب أن نحدد اطارا قانونا لكلا التيارين في كلتا الديانتين، دون تفريط في الثوابت الوطنية، وبذلك نجسد الخصوصية المغربية، فننتج بذلك قوانين تضمن تماسك الأسرة المغربية، لكن دون تغليب إرادة نخب أقلية على أغلبية شعبية.
وما دامت التجربة المغربية أعطت استثناء في التشريع الأسري بالنظر لخصوصية اليهود المغاربة، وأقرت تشريعا أسريا خاص بالمسلمين المغاربة.
فلماذا لا يكون هذا المنهج أداة في فتح الخيار أمام المواطن المعني بشكل ديمقراطي، في تحديد أن يكون “محافظا” أو “حداثيا”، دون إكراه له، فيختار الزوجان المغربيان، مسلمين كان أم يهوديين، أي الإطارين أنسب لهما لتأطير العلاقة الزوجية.
بمعنى أن يكون للمواطنين المسلمين شكلان من المدونة، يختارون أي القاعدتين أنسب لهما، مدونة أسرة وفق المذهب المالكي للمحافظين، ومدونة أسرة حداثية وفق تصور الحداثيين، لكن دون أن تطغى النزعة المحافظة على جانب أساسي من الحقوق، الغير متعارضة مع الشريعة الإسلامية السمحة. وفي المقابل أن لا تخرج النسخة الحداثية عن إطار الدين الإسلامي السمحي انطلاقا مت قاعدة ” لا أحل حرام ولا أحرم حلالا”، التي رسخها أمير المؤمنين في توجيهه لمن كلفوا بإعداد تغيير على مستوى المدونة.
ونفس الشيء ينطبق على اليهود المغاربة، فيفتح ورش إصلاحي حداثي بالموازاة مع التشريع الديني الصرف للأحوال المدنية لليهود المغاربة. لأن العولمة فرضت أن في كل ديانة تياران أساسيان، “محافظ” و”حداثي” فشكل “الصراع” ليس حكرا على ديانة أو مجتمع دون أخر.
إن تبني هذا النهج لمدة معينة من الزمن سيشكل استفتاء حقيقيا لماهو أصلح وأجدر بالأسرة المغربية، وعندها فقط يمكن لكل فريق أن يبرهن عن توافق أطروحاته الفكرية مع واقع الممارسة، وإذا كانت نوايا النخبة من كلا الفريقين سليمة بالفعل، فإنها بدون أدنى شك ستستلهم الأصلح والأجدر للأسرة المغربية، وعندها فقط يمكننا أن نتحدث عن التكامل بدل التصارع الفكري، وستنجح بلادنا بلا أدنى شك في إدارة التكامل الفكري، بنفس الدرجة التي ستتكمن من خلالها من إدارة مرحلة الصراع أو التصارع، وتلك خصوصية مغربية متفردة. تؤطرها الثوابت الوطنية التي لا تفريط فيها، والتي أضيف لها مؤخرا الإختيار الديمقراطي، الذي يجب أن يؤخذ بعين الإعتبار في مدونة الأسرة كإطار قانوني، لا يستثني أحد…
بداد محمد سالم باحث في العلوم السياسية والقانون الدستوري جامعة محمد الخامس الرباط.