البادية المغربية بين الرأسمال الرمزي الحضري وتحديات التنمية القروية
لحسن حداد
برلماني ووزير مغربي سابق
لعبت البادية المغربية دوراً محورياً في تطور المغرب عبر التاريخ، حيث كانت، إلى حدود فجر الاستقلال في الخمسينات من القرن الماضي، تلعب دوراً كبيراً في تزويد البلاد بالموارد الاقتصادية، خصوصاً الفلاحية والزراعية منها، وكان لها دور سياسي مهم لكونها ظلت موطناً أساسياً للقبائل والزوايا التي لعبت دوراً محورياً في ضبط التوازنات (من عدمها) في البنية السياسية التقليدية للمغرب الأقصى
أضحت «القبيلة» إلى حدود قريبة كياناً «مستعصياً» على الدولة الوطنية، أو بالأحرى على من كانوا يقولون بمقولة «الدولة الوطنية»، ولكنها صارت في حقبة الصراع على السلطة الذي ظهر إلى الوجود بُعَيْدَ الاستقلال، واستمر إلى حدود عقد التسعينات من القرن الماضي خزاناً لدعم تيار محافظ أعاد إنتاج البنيات والثقافة التقليدية لمناهضة المد «الوطني/البورجوازي» المتمدن والقائل بالدولة الحديثة (انظر ريمي لوفو، «الفلاح المغربي مساند للعرش المغربي»، 1985).
كان العالم السوسيولوجي المغربي، بول باسكون يقول بأن البادية المغربية لا تعكس نمطاً فيودالياً «آسيوياً» للإنتاج (بالمعنى الماركسي للكلمة)، والذي روج له المهدي بنبركة وأحمد لحليمي وإدريس بنعلي وعزيز بلال وغيرهم، بل كان يؤكد على أن البادية المغربية هي بنية مركبة تعتمد على مرجعيات مختلفة، وقد تكون مصدر دعم للمخزن (الحكم) المركزي، كما أنها قد تكون موطن حركات مناهضة له. هذه البنية المعقدة والتي أكدتها الأنثروبولوجيا الأنجلوساكسونية التي درست المغرب (على يد إرنيست كيلنر وكليفورد جيرتز ومنتكوماري هارت ودايل إيكلمان ولورانس روزن وبول رابينوف وغيرهم) لا يمكن فهمها، حسب باسكون، إلا عن طريق قراءة سوسيولوجية لتفاعل السلطة «القايدية» (حكام المناطق المحليون ذوو النفوذ الكبير) والإيكولوجيا وجغرافية الاقتصاد في علاقتها مع السكان وسلوكاتهم الإنتاجية والثقافية. هذه القراءة المعقدة هي التي جعلت باسكون يقول بأن المجتمع المغربي «ليس هذا أو ذاك من الأنماط، ولكن عدة أنماط من الإنتاج تساهم في تشكيلته الاجتماعية: البطريركية، والقبلية والفيودالية والرأسمالية» (بول باسكون، «حوز مراكش» 1983). حين يتكلم باسكون عن المجتمع المغربي فهو يأخذ البادية نموذجاً ويُسقِطُها على المجتمع المغربي برمته.
الدور المعقد للبادية المغربية عرف فترة فتور ما بعد الاستقلال مع حركة التمدن والهجرة وصعود نخبة حضرية شبه بورجوازية نهلت من الخطاب القومي والوطني التحرري والتقدمي، وكونت رأسمالاً رمزياً صارت له قيمة معيارية جعلت البوادي لفترة تعيش في موقف دفاعي رغم تحالف الأعيان والسلط التقليدية والمخزن ضد زحف ما يمكن تسميته الآيديولوحيا الحضرية/البورجوازية/الوطنية؛ وجعلها تعيش تبعية سياسية واقتصادية للمدينة اقتربت من الإجهاز على المكونات الثقافية لصيرورتها كفضاء للانتماء والعيش.
المدرسة والتلفزيون لعبا دوراً مهماً في «التسلط الرمزي» الحضري أو غلبة الرأسمال الرمزي الحضري على الرأسمال التقليدي للبوادي. محاولات إعادة إحياء المواسم الدينية ودور الزوايا ومحاولة بناء التقسيم الجماعي على أساس قبلي وليس ترابياً، و«أريفة» المدن نتيجة الهجرة المتواصلة من الأرياف إلى المدن، فَرْمَلَتْ تقوقع دور البادية بعض الشيء، ولكن الصيرورة الثقافية والتحول السوسيولوجي أعمق من أن تؤثر فيه سياسات ترابية أو ثقافية تحاول إعادة إنتاج البنيات التقليدية.
إعادة الإحياء كانت لأسباب سياسية محضة في إطار صراع مرير على السلطة، ولم تكن عميقة بالشكل الذي يتم من خلاله الاستثمار في نهضة ثقافية حقيقية ترافقها تنمية كفيلة بضمان شروط تقوية علاقة الإنسان بالإيكولوجيا، والتاريخ والذاكرة وصقل قدراته على الخلق والإبداع والابتكار.
إن دور الأعيان والزوايا في ظل عملية الإحياء الشكلية والفوقية بقي منحصراً في حضور رمزي/ اسمي لا يعبئ جيوش الشباب المتعطش لمجتمع أقل تراتبية وأقل ارتباطاً بسلطة الزوايا والأعيان التقليديين. كما أن الشرعية لم تعد تستمد قوتها لا من السلطة المعنوية، ولا من الثراء المادي، ولا من «الكاريزمية الدينية» للزوايا، التي سيطرت على العقول والطقوس والممارسات منذ القرن الخامس عشر.
لهذا كان من الضروري التجديد في إطار الاستمرارية، وفي إطار البحث عن مكونات للثقافة البدوية تكون أكثر جاذبية للأجيال الجديدة المتعلمة، والتي أصبحت مُسْتَلَبة (بالمعنى اللوكاشي للكلمة/ نسبة إلى الفيلسوف المجري جورج لوكاش) لأنها تعيش بأجسادها في منظومة إيكو – ثقافية بدوية بينما عقولها تنهل من سَنَن ِجديد، تسيطر عليه مكونات الرأسمال الرمزي الحضري والعولمة الناشئة.
لهذا باءت كل محاولات التنمية القروية بالفشل، لأنها لا تأخذ بعين الاعتبار الاستيلاب الثقافي الذي عاشته البادية المغربية منذ فجر الاستقلال.
إن المدخل الأساس لأي تنمية حقيقية هو إحياء ثقافي حقيقي لمكونات الكينونة البدوية بالمغرب. ولكن هذا الإحياء يجب ألا يكون فولكلورياً، كما وقع ابتداءً من ستينات القرن الماضي، بل يجب أن يكون عميقاً مرتكزاً على بحث سوسيولوجي وثقافي عميق يعيد إحياء علاقة الإنسان البدوي بالطبيعة والإيكولوجيا والذاكرة والتاريخ، وإعادة إحياء قدراته على الإبداع، سواء على مستوى الصناعة التقليدية أو الغناء أو الرقص أو النظم والشعر، وكذا على مستوى العمران واللباس والطبخ وأوجه الحياة اليومية. الكل لا يتم في إطار إضفاء طابع فولكلوري إثنوغرافي على الحياة البدوية، بل في إطار تصور أنثروبولوجي جديد يحدد فيه الإنسان البدوي، شيوخاً وشباباً، نساءً ورجالاً، كيف يتصورون صيرورة حياتهم في علاقتها مع واقعهم وطموحاتهم وقدراتهم وأشكالهم التعبيرية الناشئة والمستمرة، على حد سواء. هذه العلاقة الجدلية للذات مع الفضاء والذاكرة والزمن هي أصل تحقيق نظرة نقدية للانتماء يتم بموجبها التصالح مع الآخر، سواء كان الرأسمال الرمزي للمدينة أو العولمة أو الثقافة الغربية أو غيرها.
من جانب آخر، يجب تجاوز ثنائية المدينة والبادية في سياسات التنمية في المغرب وخلق جسور حقيقية بينهما، ولكن في إطار المحافظة على وجود وقوة وحضور الثقافة البدوية. وهذا يقتضي إعادة النظر في التقسيم الترابي المبني على الباشويات (ممثل وزارة الداخلية في المدن) من جانب، ورئاسات الدوائر (ممثلو وزارة الداخلية في القرى المجاورة للمدن)، من جانب آخر.
إن دمج هذين المكونين الترابيين من شأنه أن يقلص من الفوارق التنموية، ويعطي فرصاً لتنمية مندمجة مبنية على النجاعة في استعمال الموارد، ولكن كذلك على نوع من التكامل في لعب الأدوار الاقتصادية والثقافية والسياحية والإيكولوجية بين المدينة والبادية. كما لا يمكن تجاوز ثنائية المدينة/البادية إلا في إطار تعامل تدبيري وترابي منصف وتكامل ذكي، وذلك في إطار احترام شروط الانتماء الثقافية للمدينة والبادية، على حد سواء.