صراع الأضداد داخل التيارات السياسية والأيديولوجية


بدأت الحضارة عندما قام رجل غاضب لأول مرة بإلقاء كلمة بدلاً من حجر. – سيغموند فرويد

    يمكنكم الاشتراك في نشرتنا البريدية للتوصل بملخصات يومية حول المقالات المنشورة على الموقع

    الاشتراك في النشرة البريدية

    لا تخطئ عين أي مغربي مهتم ما تعرفه الساحة السياسية والإيديولوجية من صراعات واتهامات خصوصا في الآونة الأخيرة مع الأزمة التي يعرفها العالم منذ انتشار فيروس كورونا.

    “وقد يكون لهذه الأزمة دور في التأجيج والرفع من حدة هذا الصراع والعنف اللفظي”.. ويصل الصراع والاتهامات أحيانا إلى الشتم والسب من داخل التيار الفكري نفسه.. 

    الكل يزعم أنه هو ممثل القضية والمدافع عنها حقا، لكن إلى أي حد يمكن الوثوق بهذا الدفاع؟

    المدافع عن الدين يهاجم مدافعا عن الدين.. ومدافع عن قيم اليسار يهاجم مدافعا عن قيم اليسار.. ومدافع عن الأمازيغية يهاجم مدافعا عن الأمازيغية.. والكل يدعي وَصْلا بالقضية، فإلى أي حد تقر لهم القضية بذاك؟  الله اعلم.

    ويبقى السؤال مطروحا بما أن السؤال سليل التقدم والتطور في كل شيء… هل الانشقاقات المسماة بالتصحيحية التي حدثت ومازالت تحدث في الأحزاب والحركات والأيديولوجيات كان فعلا منشؤها الدفاع عن الفكرة أو القضية بما هي تجاوز أم كان شيئا آخر، لنترك الجواب شاردا لعل مهتما ما في أرض أو سماء ما يلتقطه بالجدية اللازمة.

    قد تكون للإنسان قضية ما يدافع عنها في حياته، وهذا جميل، لكن مشكلة الإنسان الأساسية والجوهرية عبر التاريخ الإنساني ليست الدفاع عن قضية ما، وإنما الإشكال العويص والمدمر أحيانا هو عدم تحديده وإدراكه بشكل عميق لمفهوم تلك القضية ومعنى القضية أصلا وعبرها تأصيل الأسباب والنتائج.

    وقبل الإسهاب لا بأس من التذكير أن القضية أولا هي التجاوز، تجاوز الذات الفردية والجماعية، تجاوز المصالح والغرائز، تجاوز الطبيعة الحيوانية للإنسان والتسامي بها إلى مستوى الثقافة، فمصدر الحضارة والثقافة هو ضبط للغريزي العنيف فينا كما يؤكد عالم النفس فرويد، فسبب نشوء القانون هو ضبط للحرية المطلقة لتدبير الاختلاف والمصالح المتضاربة وإلا فأذن وانتظر من الجميع أن يحارب الجميع كما يبين الفيلسوف توماس هوبز في عقده الاجتماعي.

    - إشهار -

    هذا التجاوز هو الذي يعطي تفسيرا ومعنى للدفاع عن القضية؛ وإن لم يستطع الإنسان أن يتجاوز فسيسقط لا محالة في مطبات وعثرات تذهب به حد الإضرار بالقضية نفسها من حيث يريد الدفاع عنها، وفي بعض الأحيان قد يذهب به الأمر إلى مسخها وتشويهها، فكما أن الإنسان حيوان مبدع فهو أيضا حيوان ماسخ.

    وبخصوص المسخ الذي يطال القضية، قد نجد المتدين الذي يدافع عن الدين متعصبا واستئصاليا فيكون بذلك ودون وعي منه، أو بوعي، ضد الدين الذي جاء أصلا للربط والتضامن وتوطيد العلاقات الإنسانية ضد التعصب والاستئصال، فيمسخ القضية عوض الدفاع عنها، وكذلك اليساري المقتنع بالجدلية الهيكلية والمادية تجده يرسل سهام الاتهام والشتم إلى من يختلف معه داخل نفس التيار وينسى أن ماركس نفسه قال أنا لست ماركسيا، وكذلك يفعل الناشط الأمازيغي حين يدافع عن القضية الأمازيغية لتصفية الحسابات الشخصية والذاتية، لماذا؟ لأن هناك أزمة تجاوز وتسامي.. أو لنسمها أزمة أخلاق.

    صحيح أن الدفاع عن قضية ما يستحيل أن يكون ممتدا طول الوقت وفي أي مكان ويستحيل أن يكون تجاوزيا مثاليا، نظرا لأن الإنسان نسبي ومربوط بانشغالات ذاتية وأسرية يصعب الفكاك منها بتلك النظرة التجاوزية المثالية، فلا يمكن أن تدافع عن التعدد والاختلاف في اللحظة التي يكون فيها ابنك مريضا، لأن الأولوية أن تأخذ ابنك على وجه السرعة للمستشفى، وهذا  المستعجل مهم، ولكن التجاوز يعني  الدفاع عن القضية  *باعتبارها المهم غير المستعجل والدفاع عنها  تساميا وترفعا عن كل الحزازات الشخصية والحسابات الضيقة والإطلاقية الفوضوية.

    كل هذا لا يعني أنه لا وجود ليساري محاور وإسلامي محاور وناشط أمازيغي محاور يتقبلون الاختلاف ويترفعون وإلا سيكون المقال إطلاقيا أيضا وسيكون ضد النسبية الإيجابية التي ينادي بها مند الوهلة الأولى، فقط أن الإشكال مطروح.

    لو كان اليساري على حد تعبير جيل دولوز هو الذي يدافع فعلا عن العالم من خلال دفاعه عن الوطن أولا ثم المدينة ثم الحي ثم الأسرة ثم نفسه.. فما أجمل اليسار ومن سيكون ضده قد يكون جاهلا، وإن كان المتدين كما هو عند محمد شحرور وجلال الدين الرومي هو الذي يدافع فعلا عن القيم الإنسانية والأخلاق من حب وعدل وإخاء بين الناس جميعا، فما أجمل الدين أيضا ومن يقصيه قد يكون فاقدا للبوصلة، وإن كان الأمازيغي كما هو عند خير الدين وصدقي ازايكو وآخرين هو الذي يدافع عن التعددية الهوياتية الثقافية والاختلاف، فما أجمل الأمازيغية ومن يكون ضدها قد يكون أحمقا.                                                    

    آن الأوان، في اعتقادي، للنظر والاشتغال على آليات الحوار وتغيير العقليات الدوغمائية وكسر التمثلات والمفاهيم الجامدة التي تحول دون تحرك العقل بجدلية مستمرة لا منتهية.. آن الأوان لإعادة النظر في الأجوبة الجاهزة وجعل السؤال غاية والجواب أداة نافعة نسبية نتجاوز بها النقائص والعيوب لعلنا نتقدم يوما ما.

    [email protected]

    أعجبك المقال؟ شاركه على منصتك المفضلة..
    قد يعجبك ايضا
    اترك رد

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

    يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد