بوعشرين يحكي.. هكذا كنت “احتفل” بنهاية السنة في السجن
أستيقظ في اليوم الأخير من السنة باكرًا على غير العادة، وكأنني أريد أن أمدد ساعات اليوم الأخير عمدًا ومتعمدًا، لكي أقوم بجرد كافٍ لسنة مرت وراء الإسمنت والحديد، ولأقوم بما يكفي من التسخينات الذهنية لتوقع أحداث سنة مقبلة لعام جديد. هذه لعبة كنت دائمًا أحترفها في حياتي الخاصة كما في حياتي المهنية… في داخل الإنسان غريزة فطرية لمعرفة ما يخبئه المستقبل، وما يوجد في طيات الغيب من خير أو شر. لهذا، أكثر الكتب مبيعًا في كل المعارض في العالم العربي هي كتب التنجيم وتفسير الأحلام التي تنبئ بما سيأتي في المستقبل. مع أن عالم النفس الكبير سيغموند فرويد قال: “الأحلام تخبرنا عن ماضي الإنسان وليس عن مستقبله”، لكن من يسمع اليوم لفرويد أو غيره من علماء النفس أو الاجتماع؟ الناس تستمع لرغباتها، لقلقها، ولأوهامها…
منذ كان النبي يوسف، عليه السلام، يقضي وقته في السجن يفسر أحلام رفاق الزنزانة ويتنبأ بمستقبلهم داخل المعتقل وخارجه، والسجناء في كل العالم يستعملون الأحلام والإشارات في المنام للتنبؤ بشيء واحد: الإفراج، وإدارة الظهر لقبر الحياة، والعودة إلى النور والحرية والاختيار…
المهم، أبدأ اليوم الأخير في السجن، وهذا تمرين قمت به سبع مرات بنفس الطريقة تقريبًا، بالمناداة على رئيس المعقل (رئيس الأمن والانضباط في المسمى الوظيفي الجديد)، وهو الرجل الثاني في السجن بعد المدير، فأسأله: “هل من حلوى للاحتفال برأس السنة؟”
رئيس المعقل لا يجيب عادة على أي سؤال مباشر، بل يحتاج إلى الرجوع إلى المدير، والمدير يرجع إلى الإدارة، والإدارة ترجع إلى المندوب، وهكذا…
بعد ساعات، يأتي الجواب: “لا توجد حلوى للاحتفال بنهاية السنة هذا العام.”
هنا يأتي السؤال الأصعب وهو: “لماذا؟”
إدارة السجن مبنية لتعطي الأوامر للسجناء وليس للإجابة على أسئلتهم، فما بالك بإعطاء تفسيرات وتبريرات لقراراتها؟ هذا تقليد لا يعرفه موظفو المؤسسات العقابية…
لكن، للإنصاف، في حالتي وحالات قليلة أخرى، كانت الإدارة تعطي بعض التفسيرات أو التبريرات حسب الظروف والأحوال. قال لي رئيس المعقل: “إدخال الحلوى للسجن من pâtisseries أمر معقد، ويحتاج إلى ترتيبات أمنية ومجهودات وموظفين، وكل هذا غير موجود الآن. لا توجد حلوى هذه السنة.”
(مرة أو مرتين حصلت على حلوى للاحتفال برأس السنة، مؤداة طبعًا من حسابي المالي الخاص لدى مقتصد المؤسسة).
قلت لموظف السجن، فيما يشبه الجدال: “لا يوجد محل لبيع الحلويات سيرفض طلبيات لإحضار الحلوى للسجناء، خاصة وأن هؤلاء من يدفعون ثمنها وبالسعر الذي يطلبه صاحب المخبزة. هذا رقم معاملات إضافي، من يهرب منه؟!”
لم يرد رئيس المعقل على سؤالي جديًا، بل لجأ إلى المزاح، عله يسعفه في الهروب من الجواب. فأجاب عن سؤالي بسؤال، وكأننا فلاسفة من العهد اليوناني يجيبون على السؤال بسؤال، ولسنا في سجن قديم لا مكان فيه لفلسفة أو تفلسف:
“وهل أنت مسيحي لتحتفل برأس السنة الميلادية الجديدة؟”
أجبته بآية من الذكر الحكيم: “لا نفرق بين أحد من رسله”، وأردفت بين الجد والهزل: “عندما تكون في السجن، فأنت مع أي نبي أو رسول يدخل إليك حلوى (tarte) إلى الزنزانة. تُنسيك مرارة السجن ورتابة الوقت، ولو لدقائق تشعر فيها أنك كبقية خلق الله تحتفل وتنخرط في صفوف الأحياء الذين يشعرون بأن سنة مضت وأخرى قادمة، موعودة بآمال أفضل من سابقاتها، ولو على سبيل الرجاء أو الظن أو الوهم. فالإنسان لا يعيش فقط باليقين والحقيقة والملموس.”
ضحك الموظف من الجواب، أما أنا فكتمت غيظي وغيرت الموضوع. رجعت إلى بعض حبات الشوكولا الرديئة التي ما زلت أحتفظ بها، وانكببت على إحصاء خسارات السنة التي سأودعها لوحدي بين ثلاثة جدران وبوابة حديدية صدئة…
* خسرت سنة من عمري كما يخسر الهاتف طاقة الشحن.
* خسرت سنة من العيش قرب عائلتي كما يخسر الدب شهورًا من حياته في سباته الشتوي.
* خسرت جزءًا من صحتي وكأني في معركة لا رحمة فيها.
* خسرت بعض الكيلوغرامات من وزني، وهذه هي الخسارة التي لا يأسف عليها أحد في عمري.
* خسرت بعض الأمل ممن كنت أعلق عليهم آمالًا واهية، كما تخسر العنكبوت معركة صمود بيتها في أول هجوم عليه.
* خسرت مشاهدة عدد من الأفلام التي أقرأ عنها دون أن أشاهدها، لكن أرشيف “نيتفليكس” قد لا يعدم أمل الرجوع إليها.
* خسرت رؤية البحر والشجر والنحل يطوف على الزهور، كما يطوف المؤمنون حول الكعبة.
* خسرت متعة النزول في مطارات جديدة، ومطاعم جديدة، ومسارح وسينمات، ومكتبات، ومقاهٍ، وحدائق، وشوارع جديدة. فليس بالخبز وحده يعيش الإنسان.
* خسرت مشاهدة مباريات كرة القدم في ملاعب جميلة، وعوضتها بالاستماع إلى مباريات المصارعة الحرة من عنابر سجناء الحق العام. وهي مباريات لا تنقصها الإثارة والواقعية، ولا تستغني عن التحليل والتعليق بعد ظهور النتائج عند طبيب المصحة في اليوم الموالي.
* خسرت فرص التعرف على زملاء جدد وأصدقاء جدد ومعارف جدد، لكني لم أخسر تمرين “الحمية الاجتماعية”، حيث يعمد السجين إلى حذف لائحة كاملة من ذاكرته ممن كان يعتبرهم أصدقاء أو زملاء أو أحبة.
لنوقف عداد الخسارات هنا وننتقل إلى سجل الأرباح. نعم، حتى في السجن هناك مكاسب صغيرة، وأحيانًا تافهة، لكن من قال إن الإنسان يستغني عن توافه الحياة الاجتماعية؟
* ربحت قراءة عشرات الكتب والمؤلفات، والتعليق عليها في الكتاب نفسه أو خارجه، وكأني أوقع على افتتاح ورش للبناء؛ بناء الفكر والعقل والوجدان.
* ربحت الاستماع إلى ساعات طويلة من الموسيقى. ألم يقل إدوارد سعيد: “الموسيقى وسيلة للهروب من الحياة ووسيلة لفهم الحياة”؟
* ربحت ساعات طويلة من التأمل والتفكر في شؤون الحياة والإنسان والكون والأقدار. ولم أقتنع بمقولة شوبنهاور: “إن الحياة مشروع لا يغطي تكاليفه.” بل وجدت أن مقولة درويش أقرب إليّ: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة، إذا استطعنا إليها سبيلًا.”
* ربحت سكونًا وسكينة في الصلاة في مكان صغير، لكن بقلب كبير وخشوع عميق في الدعاء، وتعلق برحمة الله وحده، لا برحمة بشر سواه.
* ربحت ساعات طويلة من الصمت، كنت فيها أحترف المونولوغ مع النفس والفكر والذاكرة وتجارب الحياة. وصلت إلى جواب افتراضي عن سبب تغطية رجال الطوارق الزرق أفواههم. يظن الناس أن أبناء الصحراء هؤلاء يغطون أفواههم اتقاءً للعواصف الرملية، لكن ليس هذا هو السبب الأول. يغطي الطوارق أفواههم لكي لا يتكلموا كثيرًا، لأنهم فهموا من تجربتهم في العيش في فلوات الصحراء أن الصمت أكبر حكمة يمكن للبشر أن يسديها لأخيه الإنسان.
أنا في عزلتي الكاملة صرت محترف صمت كبير. حتى وإن كان اضطراريًا، مع الوقت صار اختياريًا. فالحياة أحيانًا تقدم لك هدايا في الأماكن التي لا تتوقعها والأوقات التي لا تحسب حسابها.
* ربحت علاقات أعمق وأثرى مع عائلتي، مع زوجتي وطفلي. فأحيانًا البعد يقرب بين البشر أكثر مما يفعل العيش اليومي بمن نحب. إنها حكمة القنافذ التي تعيش مع بعضها، لكن على مسافة كافية حتى لا تؤذي بعضها البعض بالأشواك الملتصقة على فروتها. إنها مسافة الأمان (Safe Distance).
ربحت تجارب جديدة وغنية في الكتابة والتعبير واختيار الأسلوب. كتابة السجن من أصعب أنواع الكتابة على الإطلاق، لأنها كتابة بالإبر على اللحم الحي في المكان والزمان الصعب؛ فالسجن مخصص للعقاب وليس للكتابة.
ربحت هدايا كثيرة كانت زوجتي الرائعة تحملها إلى السجن عند كل زيارة وعند كل مناسبة. هذه هي السياسة الحقيقية لـ”أنسنة السجون”، ورمي حبل نجاة للمعتقل وربط عالمه الضيق المخنوق بأرض الله الواسعة والفسيحة خارجه.
بعد جرد الأرباح والخسائر، أكون قد تسمرت خلف القناة الأولى والثانية لمتابعة سهرة الليلة الأخيرة من السنة. ورغم الكثير من الحموضة التي تبثها برامج القناتين، اللتين يطلق عليهما السجناء “الحلاقم”، فإنني أبدأ في رسم صورة ما أتوقعه للعام القادم، وأكتب في الأجندة الجديدة للسنة تنبؤاتي.
الكثير مما كنت أراه قادمًا في السنة الجديدة يتحقق بشكل أو بآخر، وكلها في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي. لكن ما لم يكن يتحقق هو خروجي من السجن. كنت في السنوات الأولى، وتحت ضغط التفكير بالأماني وليس بالحقائق على الأرض، أتوقع أن تتسع الصدور، ويغادر الانتقام العقول، وتفتح الأبواب لهواء جديد ومناخ جديد ومراجعات جديدة للتصالح مع السلطة الرابعة. لكن بعد تكرار الخيبات، ما عدت أتوقع لنفسي شيئًا، وركنت إلى نصيحة “عدم الوقوع في التفكير الرغائبي، أو بلغة القانون، الابتعاد عن تضارب المصالح ولو على مستوى التوقعات والتخمينات.”
هكذا كنت أعبر من سنة إلى أخرى بغير قليل من الألم والحسرة؛ فالسجن أسوأ ما اخترعه البشر في مسيرتهم على هذه الأرض.
هذه السنة أمضيت نهايتها مع عائلتي، وفي بيتي، وأمام حلويات كثيرة وأطعمة متنوعة. لكن أبدًا لم تختفِ مرارة السنوات السبع العجاف من حلقي وذاكرتي، كما لم أستطع أن أمنع نفسي من التفكير في من بقي وراء القضبان، يتجرع الألم والخيبات واليأس الذي يحفر عميقًا ويترك ندوبًا لا تمحى على الجسد والقلب والعقل.
توفيق بوعشرين
1/1/2025