جلبير الأشقر يكتب.. خواطر متشائمة على عتبة عام جديد
يكتمل في هذا العام الجديد الربع الأول من القرن الواحد والعشرين في الحقبة العامة، والمشرق العربي على أخطر أحواله. فقد شهد العام المنصرم أول حرب إبادة تخوضها الدولة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني، وهي أخطر بعد من “‘التطهير العرقي” الذي تأسست عليه هذه الدولة خلال نكبة 1948. هذا فيما تخوض إسرائيل في “تطهير عرقي” مكمّل للإبادة في الشطر الشمالي من قطاع غزة، وفيما يمهّد المستوطنون الصهاينة لعملية مماثلة في الضفة الغربية بمؤازرة أقصى اليمين الصهيوني المشارك في الحكومة الإسرائيلية الراهنة.
وقد توسعت رقعة الاحتلال الإسرائيلي لتضم مساحات جديدة في لبنان وسوريا، بعد أن دمّرت إسرائيل القسم الأعظم من طاقة “حزب الله” اللبناني العسكرية إثر قطع رأسه. وقد أضعف ذلك بالتالي قدرة النظام الإيراني على تدعيم نظام “آل الأسد” في سوريا بعد انسحاب القسم الأعظم من القوات الروسية الساندة للنظام عينه، بما أدّى إلى انهياره بسرعة فائقة تاركاً بلداً ممزقاً، لا زال يقبع تحت أربعة احتلالات أجنبية وينقسم إلى ما لا يقلّ عن أربع أو خمس مناطق خاضعة لنفوذ قوى محلّية متنافسة، ناهيك من منطقة واسعة وسط البلاد لا تخضع لسيطرة معيّنة. وقد دمّرت إسرائيل القسم الأعظم من الطاقة العسكرية السورية في إجراء وقائي إزاء مصير سوريا الذي بات مجهولاً إثر انهيار نظام آل الأسد، بعد أن كانت مطمئنة لضبط النظام المنهار لأي تهديد لها في الجولان المحتل، وذلك بمعونة القوات الروسية وعلى حساب الجماعات المرتبطة بإيران.
فإن إسرائيل اليوم في أوج سيادتها الإقليمية، تسود متغطرسة في محيط يتجاور فيه الخراب والدمار عند من خاصمها مع الاستقرار الظاهري عند من استسلم لها من المطبّعين القدامى والمستقبلين، وتستعدّ لتسديد ضربة حاسمة برفقة عرّابها الأمريكي لعدوّها الإقليمي الرئيسي، ألا وهو النظام الإيراني الذي استخدم قضية فلسطين سلاحاً أيديولوجياً لتبرير توسّع نفوذه الإقليمي حتى ارتدّ الأمر عليه في العام الماضي وغدا ينذر بأن يجلب عليه الهلاك. ويكفي أن نتذكّر “الوعود الصادقة” التي تتالت علينا، من “حزب الله” وإيران بعد وعد عملية “طوفان الأقصى” الذي فجّر الأوضاع بما أدّى إلى ما وصلنا إليه، لنقدّر مدى الهزيمة وخطورة الحسابات الخاطئة التي سارت عليها كافة الأطراف المذكورة. فلنتذكّر خطاب محمّد الضيف الذي رافق انطلاق عملية “طوفان الأقصى”، ولنقارن ما جاء فيه بما بلغنا:
إسرائيل اليوم في أوج سيادتها الإقليمية، تسود متغطرسة في محيط يتجاور فيه الخراب والدمار عند من خاصمها مع الاستقرار الظاهري عند من استسلم لها من المطبّعين.
“يا إخواننا في المقاومة الإسلامية، في لبنان وإيران واليمن والعراق وسوريا، هذا هو اليوم الذي تلتحم فيه مقاومتكم مع أهلكم في فلسطين ليفهم هذا المحتل الرعديد أنه قد انتهى الزمن الذي يعربد فيه ويغتال العلماء والقادة، قد انتهى زمن نهب ثرواتكم، قد انتهى القصف شبه اليومي في سوريا والعراق، قد انتهى زمن تقسيم الأمة وبعثرة قواتها في صراعات داخلية، وآن الأوان أن تتحد كل القوى العربية والإسلامية لكنس هذا الاحتلال عن مقدساتنا وأرضنا”.
الحقيقة هي أن كل بند من بنود الاقتباس السابق تحوّل إلى عكسه تماماً. فإن المحتل الرعديد غدا يعربد أكثر مما في أي وقت مضى منذ أن ألحق الهزيمة في عام 1967 بمصر وسوريا والمملكة الهاشمية، واستولى على الأراضي الفلسطينية التي كانت قد بقيت خارج قبضته في عام 1948، فضلاً عن شبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان. وقد اغتال من القادة في العام المنصرم أكثر مما اغتال منذ قيام دولته. أما القصف شبه اليومي في سوريا والعراق، علاوة على لبنان، فقد جرت ممارسته بعنجهية فاقت كل ما عرفناه سابقاً. وأما تقسيم الأمة وبعثرة قواتها في صراعات داخلية، فقد بلغ ذروته!.
ومن المرجّح أن يشهد العام الجديد مزيداً من المآسي من خلال المساعي الرامية إلى استكمال العدوان الصهيوني في فلسطين. فها هي “السلطة الوطنية” تنقضّ على شباب جنين في هذا الوقت بالذات، كي تحاول أن تثبت للمحتل ولعرّابه الأمريكي أنها قادرة على لعب الدور الذي أناطته بها اتفاقيات أوسلو، ألا وهو دور وكيل الاحتلال في لجم الشعب الفلسطيني على بعض رُقع وطنه، وهي تتوخّى ممارسة هذا الدور في جزء من قطاع غزة علاوة على ممارستها له في أجزاء من الضفة. وها هي المملكة السعودية تستعد للانضمام إلى قافلة “التطبيع” بعد مصر والأردن والإمارات المتحدة والبحرين والمملكة المغربية. وها هي “هيئة تحرير الشام” تكشّر عن أنيابها ظنّاً منها (وهي واهمة للغاية) أن ذلك سوف يُرعب القوى الأخرى على الساحة السورية ويُسهّل إحكام سيطرتها على الأراضي السورية، غير تلك التي تحتلّها إسرائيل (وقد أبدت حرصها على التعايش مع الاحتلال الصهيوني مؤكدة أن لا نوايا عدائية لديها إزاءه). كل هذا والعراق واليمن على كفّ عفريت، وسوف يشهدان بالتأكيد تطورات خطيرة خلال العام الجديد، خاصة إن تمكّن بنيامين نتنياهو أن يجرّ إدارة دونالد ترامب الجديدة إلى الانقضاض على إيران. وبالطبع يبقى في قلب الهموم خارج المشرق العربي مصير السودان، حيث يلوح التقسيم في أفق حرب أهلية طاحنة، وكذلك مصير ليبيا حيث يتكرّس التقسيم مع مرور السنين.
وكل سنة وأنتم وأنتنّ، أيها القراء وأيتها القارئات، سالمين وسالمات.
كاتب وأكاديمي من لبنان.