مَصري عْروبي والجنسية الأمريكية
شاءت الأقدار الإلهية أن يتزامن حدث إطلاق سراح الناشط شفيق العمراني (أو بالأحرى انتهاء مدة محكوميته) مع برمجتي لمشاهدة فيلم ”عسل أسود” لأحمد حلمي، فالنقط المشتركة بين الحدثين لا تُعدّ ولا تُحصى، لكننا سنكتفي بالأهم منها.
”مَصري العربي”
“مَصري”، شاب في الثلاثين من عمره، غادر مِصرَ قبل عشرين سنة فقرر بعدها أن يعود ليستقر بها، وبذلك قرر العودة بجواز سفر بلده الأم، تاركاً الجواز الثاني بأمريكا. لكن ما إن نزل بمطار القاهرة حتى بدأ حبل المشاكل والمضايقات يَلُفُّ عنقه، بدءًا من شرطة المطار التي استنزلت من شأنه بنظرات مُحتقِرة، مرورًا بموظف الفندق الذي أخبره كاذبًا بعدم شغور أية غرفة للمبيت، فموظف شركة بيع السيارات الذي ما إن عرف جنسية الجالس قبالته حتى غيّر من طريقة معاملته.
بعد الذي حصل، قرر “مَصري” أن يطلب جواز السفر الأمريكي، فرمى بالجواز المصري في نهر النيل، ومنذ تسلّمه، أصبح الكل يحترمه، حتى كلب الحراسة كَفّ عن النباح وخرّ صاغرًا أمام قدميه بمجرد أن أشهَرَ في وجهه جواز السفر الأجنبي، في مشهد ساخر عبّر بشكل بليغ عن عمق أزمة المواطنة بمصر وبكل البلدان المتخلف.
“عْروبي في ميريكان”
شفيق العمراني أو ”عْروبي في ميريكان” كما يسمي نفسه، مهندس مغربي مقيم بأمريكا، غاضه ما يحصل ببلده الأم من ظلم وجور، فقرر أن يُعبّر عما يخالج صدره عن طريق منصة يوتيوب، بذلك أصبح على مدار عشر سنوات من النشاط الإعلامي (أصبح) أحد أبرز صناع المحتوى الرقمي على الويب.
قبل ثلاثة أشهر، قرر أن يزور البلد، وأثناء نزوله بمطار الرباط سلا تم القبض عليه ووضعه تحت الحراسة النظرية، بعدها تم إيداعه سجن عكاشة بتهم؛ ”إهانة هيأة منظمة”، ”التبليغ عن جريمة يعلم بعدم وقوعها”، ”إهانة مؤسسة دستورية”، ”بث وتوزيع ادعاءات ووقائع كاذبة بقصد المساس بالحياة الخاصة للأشخاص والتشهير بهم”.. وهي تُهمٌ قد تزجّ بصاحبها لسنوات في غياهب السجن وليس ثلاثة أشهر، وهذا لا يمكن تفسيره إلا بسُطوة جواز السفر الأمريكي والجنسية الأمريكية.
واحتجاجاً على اعتقاله التعسفي أضربَ عن الطعام ل89 يوما كاملة فور اعتقاله، لم يوقفه إلا وهو خارج أسوار سجن عكاشة.
بين” شفيق” و” مَصري””
إن المتأمل بين الشخصيتين، الواقعية والمتخيلة، سيلاحظ بجلاءٍ أهمية جواز السفر/الجنسية الأمريكي/ة في سيرتهما، مقابل ازدراء كل مواطن لم يحالفه الحظ بأن يكون من ضمن مزدوجي الجنسية، وبالتالي حرمانه من من السطوة والضغط الذي يمارسه جواز السفر الأجنبي والحظوة التي يحظى بها كل ذي صفة ”خواجة”، ليس للحصول على حقوق تفضيلية، وإنما لجعله مواطنا يتمتع بكل الحقوق المضمونة ”كتابةً”، المحروم منها المواطن وحيد الجنسية ”واقعاً”، الهارب من مسلسل الإهانات والمضايقات كلما همّ بقضاء مصلحة بإدارة عمومية أو مؤسسة من مؤسسات البلد، عامة كانت أو خاصة.
عسل أسود وعسل التامك
بعد ثلاثة أشهر التي قضاها شفيق في السجن مضرباً عن الطعام، خرج مُنهكاً خائر القوى شاحب الوجه، إذ فقد أكثر من 33 كيلوغراما من وزنه، فلم يملك محمد صالح التامك، المندوب العام لإدارة السجون وإعادة الإدماج، إلا أن يصحح الخبر، إذ تحدّثَ بلاغُه عن فقدان شفيق ل 19 كيلوغراما فقط بدل 33 كيلوغراما.
بل بلغ به الأمر حد تكذيب خبر دخول شفيق في إضرابٍ عن الطعام جملة وتفصيلا، والمبررات التي صاغها لتعزيز ادّعائه هي أنه ”استفاد من قنينتي عسل من الحجم الكبير جلبهما له القنصل الأمريكي بالدار البيضاء”، وأنه ”اقتنى مجموعة من المواد كالعسل واللويزة وزيت الزيتون من متجر المؤسسة”، وأنه ” عند إخراجه من المستشفى تناول وجبة غذائية عبارة عن سلطة ومعجنات، “
لكن السيد التامك نسي أن يخبرنا إن كان العسل الذي تسلمه من القنصل أسوداً كسواد الزنازين التي يشرف عليها؟
إن السيد التامك يكشف بخرجاته هاته عن جهل مطبق بأدبيات الإضراب عن الطعام، فمعلومٌ أن الإضراب عن الطعام هدفه الضغط على الواقفين وراء الاعتقالات التعسفية مع الحفاظ على الحد الأدنى من قدرة الجسم على مقاومة تَبِعات الإمساك عن الطعام، وهذه المقاومة تأتي بتزويد الجسم بخليط من الماء والعسل.
إن أمثال السيد شفيق العمراني باقون وفي اطّراد ما بَقيتِ المظالم، فشفيق بأمريكا، محمد حاجب بألمانيا، زكريا المومني بفرنسا وكندا، علي أعراس ببلجيكا.. كلهم ضحايا انتهاكات وتعذيب صرّحوا بأنهم تعرضوا لها داخل السجون المغربية، فوجدوا في الجنسية المزدوجة ملاذاً يحمي ظهورهم ويرد عنهم الظلم.
لقد علمتنا دروس التاريخ، أن ممارسات مثل هذه جعلت بلدانا تهوي على رؤوس أصحابها، وأنظمة تقوّضت أسس حكمها، فهل من مُتّعِظ؟