يا أهل البيجيدي.. تعالوا إلى كلمة سواء ألا بكاء بيننا وبينكم
إن المتتبع للشأن السياسي المغربي، منذ فجر الاستقلال إلى الآن، أي طيلة التاريخ السياسي للدولة المغربية الحديثة، يقف مشدوها أمام المستجدات التي طفت على سطحه خلال العشرية السالفة، أقصد الغلاف الزمني الذي تسنم فيه حزب العدالة والتنمية زمام حكومة البلاد لولايتين متتاليتين تسييرا وتدبيرا. ولعل أبرز ما استحدث واستجد خلال هذه الفترة هو اقتران وربط شخصيات بعض زعماء هذا الحزب (السادة: بنكيران، والرميد، والعثماني، وغيرهم) بالبكاء.
تجمع القواميس والمعاجم اللغوية على أن البكاء هو ببساطة استجابة لحالة عاطفية أو ألم أو غيره، والتي قد تكون بسبب الغضب أو السعادة أو الحزن. فما الذي يجعل زعماء اللامبة يبكون؟ وفي أي خانة يندرج بكاؤهم؟؟ ولماذا انفرادهم بهذه الحالة النفسية دون غيرهم من الخصوم السياسيين؟؟ هي أسئلة شائكة وملغزة، لكن استعراض بعض الحالات ومحاولة الوقوف عندها وتأملها قد يذلل بعض الصعاب التي تحول دون الفهم، أو أقول قد تميط بعض اللثام عنها.
لم يثبت قطعا أن بكى الزعماء السياسيون المغاربة طيلة مسارهم السياسي، سواء أكانوا أغلبية أو معارضة، ولم يتيحوا للتاريخ أن يسجل عنهم هكذا مواقف، حتى في السنوات العجاف من الناحية الحقوقية، أو كما يحلو للبعض نعتها بسنوات “الجمر والرصاص”، زمن النفي والاعتقال والتعذيب،… ولست هنا في حاجة للتدليل على ذلك، فالأمثلة كثيرة ومتنوعة.
لن أبالغ إذا قلت بأن هؤلاء الزعماء البيجيديون يبكون في مناسبتين اثنتين: أولا، إبان الحملات الانتخابية ولعل السيد بنكيران أوضح مثال على ذلك، حتى أنني أجزم بأنه يستحق لقب “بكاء الحزب”؛ وثانيا، وعلى ما يبدو، إبان التمظهر بالشعور بأزمة ضمير في بعض المواقف (حالتي السيد الرميد والسيد العثماني)؛ والمؤكد أن الاثنتين تصبان في استدراج وتهييج عواطف الكتلة الانتخابية. فمن منا لا يتذكر السيد بنكيران إبان الحملتين الانتخابيتين الأخيرتين (2015 و2016) وصوته المخنوق بعد أن ألجمته عيونه المدرارة دموعا، وهو الذي يستحضر ويوظف خطابا له من الحمولة الدينية ما يجعله يدغدغ مشاعر أبرياء الشعب البسطاء، حتى أنه شبه نفسه بابن تيمية خلال خطبة له بأحد المهرجانات الانتخابية بمدينة تارودانت يوم الأحد 02 أكتوبر 2016، وقد ردد على مسامع الجميع المقولة التي اشتهر بها هذا الشيخ الذي عاش في فترة لها خصوصيتها التاريخية ولا علاقة لها البتة بواقعنا المعيش، وصيغتها (المقولة) هي “ما يصنع بي أعدائي؟ إن جنتي وبستاني في صدري، أين رحت: فجنتي معي ولا تفارقني، إن حبسي خلوة، وإخراجي من بلدي سياحة، وقتلي شهادة”؛ وبطبيعة الحال يمزجها بالبكاء بل بالشهيق، ولم تكن المناسبة الوحيدة بل غيرها كثير، فقد أعاد الأمر نفسه خلال حديثه عن وضعية ذوي الاحتياجات الخاصة بقبة البرلمان وهو آنذاك رئيسا للحكومة، أو خلال حضوره لقاء بمناسبة فاتح ماي من نفس السنة، حيث بدا متأثرا بالمكانة التي خصه بها أنصاره. ونفس الأمر يكرره السيد مصطفى الرميد الذي غالبته دموعه صباح خميس من سنة 2016 حين قيامه بإجراءات تسليم السلط بينه وبين خلفه السيد محمد أوجار على رأس وزارة العدل، وكان سبب بكائه –حسب ادعائه- أنه قرر الابتعاد عن الحكومة، لكن السيد رئيس الحكومة تشبث باستوزاره؛ وقبل ذلك وفي حادثة ثانية، فقد انهار بالبكاء خلال انعقاد إحدى أشغال لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب، مردفا بقوله: “ما تألمت مثل ما آلمني وأنا وزير، محمد بوزوبع توفي بعد شهرين من ولايته، والناصري بعد مدة، وأنا يبدو لي أنني لن أكمل ولايتي”؛ وقد أكملها، ونطلب الله أن يطيل في عمره ويرزقه نعمة الصحة والعافية. ودرءا للإطالة، فإنني سأكتفي بما حصل للسيد سعد الدين العثماني حينما أطلق لعينيه العنان، لتنهمر دموعا إبان إحدى جلسات المجلس الوطني لحزبه المنعقد مؤخرا، والمناسبة لم تكن إلا بعد اشتداد وطيس النقاش بسبب المستجدات التي عرفتها بلادنا، وبالأخص ما تزامن ورافق اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بمغربية صحرائنا.
لست من المتجنين على صدقية ” بكاء” هؤلاء، ولن أكون؛ ولكنني سأحتفظ لنفسي وللقارئ الكريم ببعض الملاحظات الجوهرية، والتي هي بمثابة موجهات ناظمة للتحليل:
- إن بدعة “البكاء” التي ابتدعها بعض زعماء البيجيدي، لا تعدو أن تكون طريقة ارتضوها وجربوها، وقد أثبتت فاعليتها وجاذبيتها في استمالة الناخبين، خصوصا وأنها مغلفة برداء ديني، وأضيف أنهم ينفردون بتوظيفها دون غيرهم من الخصوم السياسيين، إنها طريقة ابتكروها في حقل التواصل السياسي والانتخابي، ميزتها أنها خاصة بهم وعلامة مسجلة باسمهم.
- إن السياسة لا تساس وتدار بالبكاء، بل تحتاج إلى عزيمة وخبرة وحنكة وتجربة وبرامج ومشاريع قادرة على ضمان حقوق كل فئات الشعب، من شغل وتعليم وتطبيب،… إن إدارتها بشكل جيد هو صمام أمان لضمان كرامة المواطن.
- إن الذي يستحق البكاء هو البون الشاسع بين ما يرفع من شعارات ووعود فارغة ووهمية، وأحلام وردية إبان الحملات الانتخابية، وبين ما يستفيق عليه المواطن البسيط من حرمان لحقوقه البسيطة، من مسكن ومأكل وشغل. إن ما يستحق البكاء، هو ما يلحظه ويلاحظه المواطن، بأن بكّائي الأمس هم من استفادوا ويستفيدون من ريع لا أحقية لهم فيه (7ملايين سنتيم مثلا).
وفي الأخير، وبمناسبة اقتراب انطلاق الحملة الانتخابية القانونية، وإن كنا على يقين بأنها لم تتوقف قط، نقول لهؤلاء ولمن تسول له نفسه نهج نهجهم، بأننا كشعب بكل فئاته لسنا في حاجة لبكائكم، فهو لا يفيد لا في العير ولا في النفير؛ ولمثل هؤلاء نقول: “كفكفوا دموعكم عنا”، وإن كنتم ولابد ستبكون، فأنتم تبكون لمصلحتكم، أما الشعب فلا بواكي له.