نقاش مدونة الأسرة…


اتجه المغرب كغيره من البلدان العربية في فترة ما بعد الربيع العربي إلى إجراء كثير من التغييرات في رؤاه التدبيرية لقضايا التنمية ومدخلاتها، وخاصة أنه ينتمي إلى فئة البلدان العربية التي اختارت نمطا إصلاحيا سائلا لا قطائعيا يتجاوز من خلاله التوترات المرهقة والمستنزفة لقدرات الدولة والمجتمع معا، وخاصة أن هذه التوترات، أظهرت كثير من التجارب في بلدان عربية أخرى، أنها كانت محفوفة بكثير من المخاطر والمنزلقات بفعل هشاشة مؤسسات التأطير والتنظيم الشعبي الكلاسيكية التي لم تعد قادرة على استيعاب الاحتجاج وترشيده؛ وأن هذه التوترات جرت في سياق دولي انتقالي ساهم في انتعاش ظواهر أصولية متطرفة تغذيه تجاذبات وصراعات حول قيادة العالم والنفوذ في المناطق الجيوسياسية والهيمنة على كوكب الأرض؛ وأنها، كذلك، تجري في سياق ما عرفته منظومات القيم من ارتباك في مرجعياتها، ومفارقات في تجسيداتها الواقعية، وما اعترى بعضها هذه المنظومات من مظاهر الانحراف السلوكي الفردي والجماعي الذي أخل في بعض الحالات حتى بفطرة النوع البشري.

في هذا الإطار، وفي عمق هذه التغييرات المحدثة في الرؤى التدبيرية الاستراتيجية وطنيا، كانت تلك الحزمة الإصلاحية التي دشنها الخطاب الملكي السامي ليوم 09 مارس 2011. وهي حزمة إصلاحية استشرافية، اعتبرت، في رأي الكثير من المهتمين والمتتبعين والباحثين، أنها متقدمة في سياقها التاريخي، وقادرة على فتح إمكانيات جديدة للارتقاء في درجة إرساء منظومة الحقوق المرتبطة بالمواطنة والتقدم النوعي على مسار تكريس دولة المؤسسات.

وفي هذا السياق لا بد من الإشارة، ونحن نعالج موضوع إعادة النظر في مدونة الأسرة، إلى أن مؤسسة إمارة المؤمنين، باعتبارها مؤسسة دستورية حامية الملة والدين بمقتضى الفصل 41 من دستور المملكة، كانت ولا زالت تعد مكونا أساسيا في بنية النظام والدولة والمجتمع. وهي مؤسسة لها أدوار ووظائف أساسية في قيادة المجتمع في شؤونه الدينية. لذلك، فإن تثبيت دعائم هذه المؤسسة تحصّل من خلال مختلف التشريعات القانونية ذات الصلة، ومن خلال تثبيت امتداداتها وتفرعاتها. كما يتحصّل من خلال جملة التجديدات التي عرفها ولا زال يعرفها تدبير المجال الديني وخطاباته. وهو ما ساهم، بالفعل، في تطوير الإنتاجية في هذا المجال، وتوسيع مداراته وفعالية استثماراته وتسويقه، إن على مستوى المحلي أو القاري أو العالمي، وخاصة أن المغرب بدا تميزه واضحا على مستوى جودة تدبيره لهذا المجال، ويُشهد له بما حققه من تراكمات إيجابية، جعلته نموذجا نوعيا يُحتدى به في كثير من التجارب الدولية، وخاصة على مستوى الدبلوماسيات الناعمة والحضور الفعلي في كثير من المحافل الدولية( حفظ كتاب الله – الترتيل – الإرشاد الديني – الإمامة – الزوايا والتصوف…).

كما أنه لا بد من الإشارة في هذا المقام، كذلك، إلى أنه من أهم تجليات هذه الحركة التجديدية في تدبير الشأن الديني وخطاباته، إعادة بناء ودمج التعليم “العتيق والأصيل” بمكوناتهما المختلفة ضمن النسق التربوي المشترك والمندمج، وفق رؤية جديدة تشكل مسارا تكوينيا متنوعا ونوعيا منفتحا على مختلف الفئات العمرية بما في ذلك النوع الاجتماعي. وهو مسار واضح المقاصد والاختيارات.

بطبيعة الحال، عندما تتوجه التربية والتعليم والتكوين بشكل نوعي في هذا المجال وإلى جميع الفئات العمرية (التربية النظامية المدرسية- التربية غير النظامية- الفرصة الثانية – محو الأمية)، وإلى الرفع من نسب دمج النوع الاجتماعي ضمن فئات المستهدفين والمستفيدين، فإن ذلك لا يعني فقط الاهتمام بالرفع من نسب التعليم في ضوء مؤشرات التنمية البشرية؛ كما لا يعني المساهمة في بناء صورة رمزية هوياتية وحسب، رغم أهميتها كمؤشر من المؤشرات المعبرة على مستوى التموقع على الخارطة الحضارية العالمية؛

ولكن يعني كذلك انفتاحا عميقا على منظومة أسرية مستقبلية يؤطر خلفيتها الثقافية عقل منظم وفق منطق معين، ووفق حدود مرسّمة قيميا. وهو، بطبيعة الحال، أمر إيجابي وفعال كذلك، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار السياق الدولي وتحولاته العميقة في الدلالات القيمية. كما يعني، في الوقت ذاته، أن السلطات المكلفة بتدبير الشأن الديني والسلطات المكلفة بالتربية والتكوين تسعى بنوع من الالتقائية إلى إرساء آليات حفظ التوازن بين مجموعة أقطاب هيكلية ومسارات تعليمية، ومن بينها قطبي التعليم العتيق والأصيل بما يتلاءم والتحولات الكبرى الجارية في المجتمع المغربي، وفي العالم من حوله. كما توفر هذه السلطات من خلال هذه الأقطاب التنوع في العرض التربوي المطلوب من طرف مختلف الشرائح والفئات الاجتماعية، لتسهم من خلالها في بناء نماذج مختلفة من الوعي بالذات وبالمحيط وبالكون، وفي بناء نماذج ثقافية متنوعة. إنه سعي مقصود يستهدف الحفاظ على المنطق القائم في التوازن بين الأصالة والمعاصرة على مستوى المنظومة القيمية والأنظمة المعرفية المشكلة لبنية العقل ضمن التشكيلة الاجتماعية للمجتمع المغربي. كما هو حفظ لمنطق التفاعل الدائم والمستمر بين الثابت المشترك في المواطنة المغربية والمتغير المتنوع في أنماط العيش وفلسفة الحياة والكينونة الاجتماعية داخل هذا المجتمع. ومن ثمة، فهو توازن عميق وهيكلي لضمان استمرارية بنية العلاقات الاجتماعية ضمن ثوابتها، وضمان انفتاحها المؤطر ضمن الخصوصية والسياق التاريخي للأمة المغربية وحراكها المتزن والمراقب ضمن حدود الممكن التاريخي لتطور علاقة الدولة بالمجتمع. إنها باختصار اختيارات تدخل ضمن الهندسة الاجتماعية للمجتمع المغربي في ضوء سيرورته التاريخية ونمط تفاعلات بنياته الاجتماعية.

وعليه فإن النقاش العمومي حول مشروع إعادة النظر في بعض مقتضيات مدونة الأسرة، سواء كان مؤسساتيا أو موازيا، يظل، بشكل أو بآخر، مؤطرا بهذه الخلفية التاريخية والثقافية والحقوقية والسياسية والاجتماعية في ظل ثنائية التشبث بالأصالة والانفتاح على مستجدات العصر ومقومات التحديث والعصرنة.

كما أن مشروع إعادة النظر في مدونة الأسرة في السياق الراهن، وفي ضوء توصيات تقرير النموذج التنموي الجديد، هو في حقيقة الأمر مشروع جوهره إعادة ترتيب أدوار الأسرة بشكل عام، ضمن بنية إجراءات التجديد، وإرساء مقومات تنمية الرأسمال البشري، والمرأة على وجه التحديد، في إطار مقاربات التمكين التي اعتمدها هذا النموذج التنموي الجديد، كإجراءات للنهوض بحقوق المرأة المغربية. لأن المرأة بتعدد أدوارها ضمن الوظيفة الأسرية وضمن الوظيفة الاجتماعية والثقافية والسياسية، وضمن الوظيفة الاقتصادية، كذلك، من حيث منظومة التشغيل أو الإنتاج أو الاستهلاك، تعد موضوعا جديرا بالتفكير والاهتمام ضمن إجراءات إرساء النموذج التنموي الجديد. وهذا الأمر يجعل مدونة الأسرة تتجاوز طابعها القانوني ويلامس علاقتها بمختلف مدخلات النموذج التنموي الجديد السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية.

وهكذا يتم الانتقال من الرؤية الماكرو-إصلاحية التي جسدتها المستجدات الدستورية إلى الإصلاحات الميكو-اصلاحية التي تم اعتمادها كإجراءات وتوصيات ضمن وثيقة النموذج التنموي الجديد، وتلك التي سيتم اعتمادها لاحقا عن طريق ملاءمة وتحيين بعض مقتضيات هذه المدونة لتحقيق التحول المطلوب، إلى جانب ما يتم إنجازه على مستوى منظومة التربية والتكوين وعلى مستوى مقاربة الدولة الاجتماعية. وكلها مسارات إصلاحية تصب في نفس الاتجاه.

لكن ما يجب التأكيد عليه، كذلك، في ضوء هذه الرؤية، هو أنه إذا كانت الأمة المغربية تنخرط ضمن المنتظم الدولي، وتواجه، كغيرها من دول العالم السائرة في طريق النمو، تحديات المنظومة الرأسمالية العابرة للقارات والتي راهنت على تسويق نماذجها الاجتماعية، وصناعة الأنوثة ونمذجتها في ضوء هندسة ثقافية واجتماعية واقتصادية موجهة، وصناعة الطفولة كفضاء استهلاكي موجه نحو المستقبل يصب في عمق ثقافة هيمنة قيم السوق وتنميط الذوق العام؛ فإن هذه الأمة، كذلك، برصيدها الحضاري، وبثوابتها القيمية الجامعة وبمؤسساتها العريقة، لها ما يكفي من المناعة، لبناء نموذجها الأسري وفق خصوصيتها ووفق ما يقتضيه الانفتاح المحكم. وتعد مدونة الأسرة واحدة من أهم الآليات المؤسساتية لتدبير هذه المفارقة وإقامة التوازن المطلوب.

في هذا الإطار، تعد الرسالة السامية التي وجهها أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس إلى رئيس الحكومة المغربية في الأسبوع الأخير من شهر شتنبر الماضي والمتعلقة بإعادة النظر في مدونة الأسرة نقطة مفصلية وذات أهمية بالغة في مشوار تطوير منظومة الحقوق المغربية في ضوء المرجعية الدستورية لسنة 2011. وهي نقطة ستشكل بالضرورة لحظة نوعية في سيرورة التراكم التي عرفته القاعدة القانونية المتعلق بضبط كيان وبنية العلاقات داخل الأسرة المغربية من جهة، ووظيفة هذا الكيان الاجتماعي الذي يُعدّ النواة الأساس في بنية المجتمع من جهة ثانية. وخاصة أن التجارب والنماذج الأسرية في عالم اليوم أثبت بما لا يعتريه شك بأن الأسرة هي مشتل نموذج المجتمع والمواطنة، إن صلحت صلح هذا النموذج، وإن اعترتها الهشاشة وفسدت نواتها فسد هذا النموذج وفقد مقومات توازنه وتماسكه.

هذه الرسالة، وبهذه الأهمية، وفي هذا السياق بالذات، هي ترجمة عملية لمحور من المحاور الأساسية والاستراتيجية التي تضمنها خطاب العرش لسنة 2022. وهو بطبيعته خطاب كغيره من الخطب الملكية بمناسبة عيد العرش المجيد التي تتجه رأسا إلى القضايا والاختيارات الاستراتيجية الكفيلة بتأطير التحولات الكبرى والثقيلة التي تعرفها الأمة المغربية بمختلف مكوناتها وبنياتها. هذا يعني أن موضوع إعادة النظر في مدونة الأسرة هو أكثر من موضوع إعادة النظر في قانون كغيره من القوانين، ولا يكتفي بمدخله التشريعي كغيره من التشريعات القانونية، ولكنه يرتبط جوهريا ودستوريا بمؤسسة إمارة المؤمنين التي تعد مدخله الأساس وفاعله الرئيس.

لذلك، فإن التوجيهات السامية التي جاء بها هذا الخطاب، وخاصة حول موضوع المدونة، لا يمكن اعتبارها إلا توجيهات استراتيجية بعد عقدين من عمر التأسيس المرجعي لهذه المدونة (2004) في ضوء فلسفة العهد الجديد والخيارات الاستراتيجية الوطنية التي نهجها المغرب الجديد بهدف تجاوز ما اعترى قانون الأحوال الشخصية (1958) من قصور في الرؤية والتنفيذ. ومن خلال هذه التوجيهات السامية نستنتج:

أولا، إعادة النظر في هذه المدونة يجب أن تتم على أساس الالتزام بالمبادئ التأطيرية التي تضمنها الخطاب الملكي أمام البرلمان في 10 أكتوبر 2003. وهي مبادئ جامعة ومؤطرة، لا تحل حراما ولا تحرم حلالا.

ثانيا، إعادة النظر في هذه المدونة يجب أن تتم على أساس أنها مدونة للأسرة كمؤسسة وليس باعتبارها مدونة للمرأة أو للرجل. وأن الحديث عن المرأة المغربية والرجل المغربي، بل وحتى عن الطفل المغربي، هو حديث عن ذلك الكل المختلف والمتنوع على كل الأصعدة، من حيث المستوى التعليمي والوعي الثقافي، ومن حيث التمكين الاقتصادي والاجتماعي، ومن حيث الانتماء المجالي والترابي وما إلى ذلك. ومن ثمة فإن الحديث هنا لا يقتصر على فئة من الأسر المغربية التي تنتمي إلى نخبة المجتمع أو إلى الطبقة الميسورة أو الطبقة المتوسطة وإنما على جميع الأسر بما في ذلك تلك الاسر المعزولة في الجبال وفي المناطق النائية والهشة بما تحمله الكلمة من عمق في المعنى وليس فقط في العمق الجغرافي.

ثالثا، اعتبارها مدونة إجرائية تقيم التوازن في الحقوق والواجبات المرتبطة بمؤسسة الأسرة ونواتجها الاجتماعية في ضوء مرجعية مركبة وواضحة المعالم تستمد خصوصيتها من التوافق والتكامل بين السند الشرعي(الإسلامي) السياقي والمقصدي من جهة، والسند القانوني (الدستوري) المكثف لدرجة تطور منظومة الحقوق في ضوء النموذج المغربي من جهة ثانية. وهو ما وصفه الخطاب الملكي (يوليوز 2022) ب”مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي”.

- إشهار -

رابعا: بناء إعادة النظر، هذه، يجب أن يتم في ضوء ثلاثة متغيرات استراتيجية مرتبطة بالإمكان التاريخي وسيرورة التحولات الجارية في بنية المجتمع المغربي ثقافيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا. ألا وهي: متغير المرأة كنوع سياسي-ثقافي واجتماعي متحرك في بنية هذه السيرورة التحولية والتراكمية من جهة، وبنية الأسرة كنواة مجتمعية من جهة ثانية، ومتغير التنمية كحق جامع من حقوق الإنسان يكفل على قدم المساواة للجميع الحق في المشاركة والمساهمة في التنمية الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية والاستفادة من مردودها، ومتغير المساواة كحق من حقوق المواطنة في مستواها التراكمي في ضوء خصوصية النموذج المغربي استنادا إلى مقتضيات دستور المملكة لسنة 2011.

لا شك أن تأمل عمق هذه التوجيهات واستيعابها في ضوء الإمكان التاريخي ومتطلبات التحكم في المستقبل عن طريق تأهيل الرأسمال البشري من جهة، وتدبير المدخلات الاستراتيجية لصيانة العمق التاريخي للأمة المغربية ودعم قدراتها التجديدية من جهة ثانية، يجعل المتتبع والمهتم بموضوع المدونة يجد في هذه التوجيهات الكثير من الحرص على ملامسة المقاصد وتقدير حجم حساسية الموضوع، ليس فقط في بعده الوطني وحسب، ولكن أيضا في بعده العالمي وعلاقته برهانات تجديد الخطاب الديني من جهة، وملاءمة ومواكبة نوازع التحديث والأنسنة وعالمية الحقوق من جهة ثانية. كل هذا في سياق دولي احتدمت فيه التفاعلات الحضارية وتنوعت مدخلاتها وغاياتها وأدواتها. في المقابل فإن كثيرا من التجارب أكدت أن النموذج الغربي في تطور منظومة الحقوق لم يعد يتمتع بذلك البريق الاستقطابي الذي كان له، وأصبح بفعل تطور النظام الرأسمالي وما تعرفه الكثير من مناطق العالم من توترات وحروب لاإنسانية ، نموذجا يحمل في طياته بذور فنائه، لأنه نموذج فقد توازنه ومقومات صيانته، وأصابه فيروس فقدان المناعة الأخلاقي. إنه نموذج مبتور تحكمت في تمفصلاته الآلة الرأسمالية حتى يكون خاضعا لها، فيغدو آداة من أدواتها. وهو ما عزز أيضا تعميق انحرف الفرد عن دائرة الفطرة وحدودها باسم الحرية الفردية، وتأطير سلوكياته ضمن دائرة الاستهلاكية الموسعة خارج نطاق المنظومات الأخلاقية الكلاسيكية، وتكثيف كينونته في منظومة الغريزة والمتعة الجامحة التي يقودها الجسد المتمرد على مركزية العقل كما تبلور في المنظومة الفلسفية الإنسانية والأخلاقية. هذا الجسد الذي جعلته أنظمة الاستهلاك المتعددة الواجهات مهووسا بذاته وبفرديته وبحريته إلى أقصى الحدود. ومن ثم كان مدخلا من مداخل تقويض بنية الأسرة وتفتيت مقومات بنائها وتماسكها وإضعاف مناعتها.

وحيث إن إعادة النظر في هذه المدونة، وفق هذا المنظور، وفي ضوء هذه المتغيرات، يستلزم اجتهادا جديدا يرقى بما تضمنته من قواعد قانونية إلى مستوى الجودة في الفعالية الاجتماعية والحقوقية والإجرائية المسطرية والأثر النوعي في سيرورة النماء والارتقاء والتنمية المجتمعية، في ضوء هذا التوفيق بين المقاصد والخصوصية، أي بين مجال العقيدة الإسلامية بثوابتها الأصيلة والمؤسِّسة، وبين المواطنة بمتغيراتها وإمكانها التاريخي، فإن الخطاب الملكي، على أساس مرجعية إمارة المؤمنين، دعا إلى “اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية”. وبذلك تكون التوجيهات السامية التي تضمنها الخطاب الملكي والرسالة السامية قد أطرت، في وضوحها ودقة توجيهاتها، الموضوع ضمن حدود المقصد بدل المنطوق المفتوح على إمكانيات التأويل. وحرصت على توصيف نوع الاجتهاد ضمن ضوابط الاعتدال والانفتاح بعيدا عن المغالاة والتطرف في أي اتجاه كان، كما حرصت على مأسسة التشاور والحوار وضمنت التعددية القائمة في الآن واللحظة ضمن فعاليات بنية الأمة المغربية دولة ومجتمعا. وهو ما يفيد أن مؤسسة إمارة المؤمنين قادرة على تحديد التوقيت المناسب لصياغة وتفعيل الاختيارات، وعلى توجيه ومأسسة التفكير والاجتهاد والنقاش العمومي في ضوء الإمكان التاريخي، وعلى مراقبة هذا النقاش في مجمله من موقع مختلف ومنزه، بما يجعله نقاشا تفاعليا مفيدا ومثمرا.

في هذا الإطار، فإن الرسالة الملكية السامية لرئيس الحكومة، كما نص على ذلك بلاغ الديوان الملكي، “أسندت الإشراف العملي على إعداد هذا الإصلاح الهام، بشكل جماعي ومشترك، لكل من وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، وذلك بالنظر لمركزية الأبعاد القانونية والقضائية لهذا الموضوع”.. كما “دعا جلالته المؤسسات المذكورة إلى أن تشرك بشكل وثيق في هذا الإصلاح الهيئات الأخرى المعنية بهذا الموضوع بصفة مباشرة، وفي مقدمتها المجلس العلمي الأعلى، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، والسلطة الحكومية المكلفة بالتضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، مع الانفتاح أيضا على هيئات وفعاليات المجتمع المدني والباحثين والمختصين”.

باشرت الهيئة المكلفة بتعديل مدونة الأسرة مهمتها في جمع المعطيات التشخيصية للحالة المغربية وتجميع المقترحات الاجتهادية الضامنة لفعالية المشاركة والتكامل المؤسساتي بين مختلف مكونات الأمة المغربية وفرزها وتدقيقها وصياغتها بما يتلاءم وخصوصيات الموضوع قبل عرضها أولا على أنظار مؤسسة إمارة المؤمنين في شكل توصيات واقتراحات، وإخضاعها ثانيا لمسطرة التشريع القانوني المؤسساتي المعمول بها في إخراج النصوص القانونية. وهذا يعني أن النقاش من أجل إعادة النظر في بعض مقتضيات مدونة الأسرة بغاية إصلاحها بالملاءمة والتكييف والتدقيق المسطري والإجرائي انطلق مؤسساتيا بالفعل منذ الاجتماع الذي عقده السيد رئيس الحكومة يوم 27 شتنبر 2023 تفاعلا مع الدعوة التي تضمنتها الرسالة الملكية السامية.

بموازاة هذا التحاور والتشاور المؤسساتي الذي باشرته الهيئة تفعيلا لمهمتها انطلق، مجتمعيا، نقاش عمومي مواز ومفتوح على مصراعيه يشارك فيه الجميع. ونقول الجميع على أساس أنه موضوع فعلا يهم الجميع، ولكنه أيضا موضوع قابل لأن يصبح موضوع مزايدة وتراشق وتبادل الاتهام والاستثمار الإيديولوجي من طرف جهات متعددة لها مصلحة في ذلك بشكل من الأشكال.

إن موضوع إعادة النظر في مدونة الأسرة، موضوعيا، هو موضوع شديد الحساسية، ليس فقط في بعده الاجتماعي والثقافي والديني والسياسي وحسب، ولكنه موضوع منفتح ومؤطر بخصوصية المعرفة والسند العلمي. إنه ببساطة موضوع ليس في متناول الجميع.

ومن ثمة، فهو قبل أن يكون موضوع رأي عام، هو موضوع نخبة تمتلك عُدة نظرية متعددة الروافد والمدخلات، وعُدة منهجية محكمة، وعُدة إجرائية رصينة، نخبة إلى جانب كل ذلك متمتعة بحصانة الاجتهاد في ضوء الضوابط الشرعية لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية في ضوء معطيات الواقع ومتطلبات المستقبل. وهو بذلك موضوع يحتاج التداول فيه إلى كثير من الوعي وإلى كثير من المعرفة وإلى كثير من الهدوء والحكمة واحترام الاختلاف والالتزام بالمعايير بما في ذلك معايير النقاش العمومي المنتج.

على هذا الأساس فإن موضوع مدونة الأسرة ليس تلك الرصاصة التي يمكن أن توجه إلى رأس الأعداء الوهميين أو الحقيقيين أو حتى الخصوم السياسيين والإيديولوجيين في كذا مناسبة. وليس مجالا للاستثمار الشعبوي بمحتوى قابل للتصنيع الإعلامي وصناعة النجومية الوهمية، وفرصة لأولئك الذين أصبحت جيوبهم التحريضية ضد العقل والحداثة في حالة عطالة، ولا هو فرصة لتصفية حسابات إيديولوجية كلاسيكية بائدة، وإنما هو موضوع سؤال مفصلي يعيد ترتيب مساحة التكامل بين مقاصد الشريعة الإسلامية كثابت من الثوابت المغربية الجامعة، وبين الخصوصية الحضارية للأمة المغربية والتراكم الحاصل في منظومة الحقوق بثوابتها الدستورية. وهو بذلك سؤال مرتبط مبدئيا بمضمون المواطنة، وهذا بدوره مرتبط بمضمون الدولة. لذلك فالنقاش حول مدونة الأسرة مؤطر ضمن حدود الانتماء المشترك لمنظومة المواطنة ودولة المؤسسات مهما كانت الاختلافات الإيديولوجية والخلفيات الاجتماعية والثقافية والسياسية. ولا يمكن التداول فيه إلا ضمن هذه الحدود، لأنها الحدود الجامعة. كما لا يمكن أن يناقش إلا في إطار صلاحيات مؤسسة إمارة المؤمنين باعتبارها الضامنة لحدود التدين المؤسساتي ضمن فعالية الدولة والمجتمع معا. كما هو مؤطر بالإمكان التاريخي والسياق الحالي للأمة المغربية ودرجة نماء وتطور منظومة الحقوق الفردية والجماعية في المجتمع المغربي. وطبعا المنظومة الحقوقية لا تنفصل عن منظومة الحقوق كما تبلورت في المنظومة الإنسانية بشكل مجرد، أي ما فوق المستوى التنفيذي والتطبيقي في النماذج العالمية.

وعندما نقول بأن موضوع إعادة النظر في مدونة الأسرة مؤطر ضمن حدود الانتماء المشترك لمنظومة المواطنة، فالقصد أنها مؤطرة بمنظومة المواطنة المغربية لا غيرها. وأن هذه المنظومة لا يمكن فهمها إلا في ضوء المدخلات الدستورية ومقتضياتها كما تضمنتها وثيقة دستور سنة 2011.

وحتى لا نتواجه مع الرأي القائل بأن منظومة المواطنة، كما تُفهم في دلالتها العامة الابسيتيمولوجية والسياسية، تبلورت في ضوء الدولة المدنية، وفي النموذج الغربي. وأن الدولة المدنية لا تؤسس قوانينها على منظومة دينية بعينها. فهذا أمر صحيح من زاوية نظر معينة. لأن الدولة المدنية في النموذج الغربي تأسست بالفعل على الفصل بين الدين والدولة. وأن منظومة المواطنة تكونت على هذا الأساس المدني. وهو في الأصل كان تعاقدا جديدا بين الدولة والكنيسة، الذي هو في أصله، كذلك، جاء في سياق تطور الصراع بين طبقة النبلاء المدعومة بالعقل الكنائسي وبين طبقة الصناعيين المدعومة بالعقل الحداثي الوضعي. وهذه تجربة لها خصوصياتها الدينية والحضارية والاجتماعية والفلسفية. وهو لا يفيد بأنها تجربة غيبت الدين أو غاب عنها، بل إن حضور المكون الديني في المنظومة الغربية ما زال قائما ومؤثرا بشكل أو بآخر. وهذا موضوع آخر لا يتسع المقام للخوض فيه.

لكن، وجه الاختلاف الذي يقيم الفارق ويبعد القياس في هذه الحالة، هو أن الدولة الوطنية المغربية باعتبارها حاضنة المواطنة المغربية لها خصوصيتها. إنها دولة – أمة. نشأت وتطورت على أساس ثوابت جامعة عمادها الدين الإسلامي المنفتح والمتسامح والمعتدل، وهذه الثوابت محددة بأطر مرجعية جامعة كذلك من حيث العقيدة والمنهج والمذهب الفقهي والطريقة والإمارة التي لا تمتح مرجعها في التدين من الماضي، ولكن من خصوصية الحاضر والمستقبل ما دام الدين الإسلامي موجود في الحاضر والمستقبل كما كان موجودا في الماضي. وأن التدين كائن تاريخي وسياقي يقوم على التركيب بين حضور القطعي العقدي الثابت من جهة، والظني الدنيوي المتغير المتحرك في الزمان من جهة ثانية. وأن هذه الثوابت تعد مكونا أساسا من مكونات الثقافة والشخصية المغربية، ولا يمكن تمييز النموذج المغربي الأصيل في المواطنة إلا على هذا الأساس. لأن المواطنة ليست انتماء للأرض وفقط، أو للثقافة وفقط، أو لنظام معين وفقط، ولكنها انتماء لهوية حضارية جامعة ومشتركة، وانتماء لثقافة تكونت عبر تراكم تاريخي. ومن ثمة فالمواطنة ليست صفة مجردة متعالية، ولكنها تراكم تاريخي وتفاعل مستمر بين الذات الفردية والنحن الجماعي، وتعاقد ضمني وصريح مبني على أساس وحدة الأرض ووحدة التاريخ ووحدة الثقافة ووحدة منظومة العيش ووحدة الانتماء ووحدة المصير.

وحيث أن سؤال إعادة النظر في مدونة الأسرة مؤطر بهذه الحدود ومرتبط بالتراكم وبدرجة نماء منظومة الحقوق وبسياق التحول المجتمعي فعناصر الجواب المقترحة للإجابة عنه لا يمكن أن تكون أجوبة قطعية مهما كانت مرجعياتها وخلفياتها، ولكنها أجوبة نسبية وسياقية تقوم على التجديد في إطار استمرارية الثوابت الجامعة الضامنة لوحدة الأمة. ومن ثمة، فهي أجوبة لا يمكن أن تستمد واقعيتها بالضرورة إلا من قوة موضوعية السؤال نفسه، موضوعية تقوم على قوة الحاضر المتحرك في الزمان في مواجهة منطقة الراحة التي تطرحها جاذبية الماضي عند البعض أو إغرائية المستقبل والهروب إلى النماذج الغربية الدخيلة والمهترئة في حد ذاتها على حد سواء عند البعض الآخر. لذلك فالجواب عن سؤال إعادة النظر في مدونة الأسرة لا يمكنه أن يكون إلا بالنظر في النصوص المرجعية المؤسسة بعيون العصر، كما لا يمكن أن يكون إلا بالنظر في منظومة الحقوق والواجبات ذات الصلة بالأسرة في ضوء التراكم الحاصل من جهة، ومتغيرات الواقع وتحولاته ومتطلبات الاستقرار الأسرى بنية ووظيفة من جهة ثانية.

ختاما، وكغيري من المواطنين أتابع بنوع من الاهتمام النقاش العمومي الموازي، لكن رغم أني، مبدئيا، أنتصر للبعد المؤسساتي للتداول في هذا الموضوع تحديدا والمكفول دستوريا لإمارة المؤمنين وعمليا للهيئة المكلفة بتعديل مدونة الأسرة المشرفة على تأطير النقاش العمومي في هذا الشأن مؤسساتيا بين مختلف الجهات المعنية في الدولة والمجتمع، ورغم أن هذا الموضوع مركب في خلفياته وخصوصياته، وأن هذا الوضع التركيبي يجعل من الصعب الإدراك الشمولي لمختلف جوانبه. ولا يمكن الخوض فيه من زاوية إيديولوجية في تجلياتها الكلاسيكية، فإني، كمواطن، معني بمخرجات هذا النقاش المؤسساتي، ومعني بهذا النقاش الموازي الجاري وخاصة لما يمكن أن يسهم به في الرفع من درجة الاهتمام بالشأن العام وبدرجة الوعي بالقضايا الكبرى والمصيرية. ولكونه كذلك دعامة للتحسيس والتعبئة وتنمية الوعي الحقوقي في المجتمع.

أعجبك المقال؟ شاركه على منصتك المفضلة..
قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد