الجريمة السياسية.. “أوفقير.. في بحث عن المجد من الهند الصينية إلى أعالي جبال الريف”
الجريمة السياسية: الحلقة السادسة.
ضمن سلسلة حلقات الجريمة السياسية التي نشرتها السنة الماضية، سأقتسم معكم اليوم الحلقة السادسة منها، إنها عبارة عن دراسة وتحقيق، تحاول تسليط المزيد من الأضواء على انتفاضة الريف 58/59، في اعتماد كلي على الأرشيف الأمني الإسباني وشهادات شهود عيان إسبان كذلك.
اخترت لهذه الحلقة العنوان المذكور أعلاه، لأنه يلخص الخلفية الأساسية في الحضور الشخصي لأوفقير على رأس فرق عسكرية إلى الريف من أجل “إعادة تربية” أهلها واسترجاع أمجاده. مع الإشارة إلى أنه سبق لي أن تناولت في الحلقة الخامسة بعض تفاصيل اندلاع الأحداث، منذ أكتوبر 1958، على ضوء شهادة أحد العاملين آنذاك في عمالة الحسيمة (الفحصي). وسيكون موضوع الحلقة السابعة حول “مدرسة جنان الرهوني وكتائب الموت” بتطوان، والحلقة الثامنة حول ” تصفية عباس المساعدي” التي كانت من تنفيذ كوماندو تخرج من هذه المدرسة.
• مقدمة.
في ليلة 10 يناير 1959 كان النادي الرياضي club deportivo كعادته مليئا بزوار النخبة الإسبانية بالحسيمة، كانوا يأتون إليه من مختلف الأحياء والفئات للترويح عن النفس وتناول المأكولات والمشروبات بأثمنة مناسبة، منها المشروبات الروحية، خاصة أن يوم 10 يناير صادف عطلة نهاية الأسبوع (السبت). كان يترأس النادي حينها خوان الرومان الأب، هذا الأخير يعتبر من رجال الأعمال الإسبان المعروفين بالحسيمة والذي ساهم في تشييدها وتسيير شؤونها وبناء نهضتها الاقتصادية. قبل هذه السنة كان الإسبان قد بدأوا في الرحيل، لكن مفاصل الأمن وتسيير المدينة كانت ما تزال تحت سيطرتهم، ولم يتم تسليم المدينة رسميا إلا بعد زيارة محمد الخامس إليها شهر يونيو سنة 1959.
في هذه الليلة المشؤومة، 10 يناير، سيظهر رجل بلباس عسكري ونظارات سوداء، نزل من سيارة جيب صغيرة مرفوقا بأربعة جنود مسلحين، دخلوا إلى النادي بسلاحهم، على طريقة الكوبوي، بشكل أثار انتباه الزوار من بينهم أفراد القوات المسلحة الإسبانية (الليخيون) الذين كان بعضهم حاضرا بلباسهم العسكري.
بدأ أوفقير مباشرة في تناول الكحول بشراهة كبيرة حتى فقد توازنه في وقت قياسي يقول شاهد عيان إسباني لا يزال على قيد الحياة، بل تطور الأمر إلى اعتداء جسدي من طرفه على رئيس الشرطة (جيلالي) المعين حديثا بالحسيمة، وكذا إسقاط صورة رئيس إسبانيا فرانكو على الأرض مع إطلاقه صراخ ووعيد بالقضاء على الريفيين.
أوفقير كان قد وصل إلى الريف على رأس كتيبة عسكرية، أرسلت إلى إقليم الحسيمة من أجل قمع المنتفضين بداية سنة 1959، اتخذت من قنطرة وادي النكور مكانا لتواجدها. كانت هناك كتيبة أخرى أخذت مكانها داخل المدينة وأطرافها على رأسها الضابط الشرقاوي.
ترك حادث النادي الرياضي هذا استياء كبيرا في نفوس سكان الحسيمة من إسبان وأهل الريف عموما، بل وصلت أصداءه إلى الجهات العليا بمدريد وحتى لدى الجهات العليا بالرباط، كما أن الحدث صار مادة هامة للصحافة والجهات الأمنية الإسبانية، لقد تناسلت على ضوئه عدة تقارير أمنية إسبانية شملت حتى “سير المعارك” بين المنتفضين والقوات العسكرية المغربية.
من خلال هذه التقارير وشهادات شهود عيان سأحاول إعادة صياغة هذه المشاهد مع بعضها. وفي مسار هذا النبش التقيت ثلاث إسبان ضمن هؤلاء الشهود الذين كانوا حاضرين أثناء الواقعة السالفة الذكر أو قريبين منها، غير أن التقارير الأمنية الإسبانية كانت أكثر دقة وحملت معطيات إضافية انفلتت من ذاكرة هؤلاء الشهود. حملت هذه التقارير العديد من الحيثيات والتفاصيل التي رافقت انتفاضة 58-59، من بينها سلوك أفراد القوات المسلحة المغربية أثناء دخولهم لأول مرة مدينة الحسيمة سنة 1959، ومحاكمة المنتفضين، توشيح المتعاونين، السطو على أملاك الناس، والاعتداءات…
• ليلة أوفقير .la noche de oufkir
قبل الخوض فيما تناقلته التقارير الأمنية الإسبانية وحكايات الشهود حول حادث النادي الرياضي أو أمور أخرى ، أود التطرق بإيجاز إلى خلفيات وسلوك الضابط أوفقير (أو قيادة الجيش) وهو يتوعد الحاضرين داخل النادي الرياضي ب: “القضاء على أهل الريف”، وسأحاول تناول سلوكه هذا في نقطتين.
-النقطة الأولى: أن أوفقير كان معروفا عنه تناوله المفرط للخمر ولعب القمار، هذا الوضع أوصله مرارا إلى حافة الإفلاس عندما كان بمكناس. استمر في فعل نفس الشيء بالهند الصينية كمجند في الجيش الفرنسي، وكان كلما دخل الحانات المتواجدة على طول الشريط البحري ما بين بحر الصين الجنوبي وسايغون، إلا وأخرج مسدسه ضد الزوار متهما إياهم تارة بعملاء هوشي منه وتارة أخرى بعملاء الصين.
هنا توقفت فاطمة أوفقير(زوجته) قليلا من خلال مذكراتها، “حدائق الملك”، لتتحدث عن وجه أوفقير في الهند الصينية: “كان آنذاك في الثلاثين من العمر وفي قمة مجده، وقد خبر الحياة وعرف إلى جانب الحرب، الكازينوهات والملاهي والنساء والمغامرات وعاشر نخبة مجتمع آسيا الجنوبية الشرقية وغدا من رواد قصر الإمبراطور باوداي.. “. وتضيف بعض القصاصات، ” هناك في الهند الصينية كان يدخل إلى الحانات بمسدسه ليحتسي كؤوس الخمر (..) وفي الكازينوهات، بين نخبة البلاط، قدم خدمات جليلة للمخابرات العسكرية الفرنسية”.
إنه نموذج الضباط الذين استلموا زمام الأمور الامنية فجر مغرب ‘الإستقلال’ وعين مرافقا خاصا للملك منذ عودته سنة 1955 قبل أن يعين مرافقا عسكرية “للجنرال دوفال” قائد القوات الفرنسية بالمغرب بعد عودته (أوفقير) من الهند الصينية، تضيف فاطمة أوفقير.
عندما زرت الفيتنام نهاية السنة الماضية، مررت بالميناء الذي كان يتواجد فيه كضابط في اللفيف الفرنسي، وكان من خلال هذا الميناء يسهر على إرسال الجنود المرتزقة الى جبهات القتال من أجل مواجهة ثوار “فيت مين” في فيتنام الشمالية.
-النقطة الثانية: كما قلنا، مع تسارع وتطور الأحداث بالريف تم إرسال فرق عسكرية تحت قيادة أوفقير من أجل قمع المنتفضين سنة 58/59، كانت أغلب هذه الفرق وقادتها من بقايا الجيش الفرنسي العائد للتو من الهند الصينية.
الهزائم المدوية التي تلقاها الجيش الفرنسي في الفيتنام، من ضمنها “ديان بيان فو” سنة 1954، حولت العديد منهم إلى عناصر عدوانية. لقد شاهدنا هذه العدوانية من خلال جرائمهم بالريف ومناطق أخرى، وذلك في بحث عن انتصار وهمي لتعويض هزيمتهم.
فضمن هذه الشروط النفسية والمادية تم إرسال فرق لمواجهة ” المتمردين” في أعالي جبال الريف، وكانت أرض عبد الكريم مكانا خصبا لمحاولة استرجاع طهارتهم المفقودة، والانتقام منه على دوره في حرب الفيتنام حين طالب جنود شمال إفريقيا مغادرة اللفيف الفرنسي والإنضمام إلى صفوف ثوار الفيتنام بطلب من “هوشي منه” سنة 1947. لقد استجاب لهذا النداء المئات من المقاتلين، وكان أوفقير يعدهم بالقتل لو عادوا إلى المغرب، بعد خروج فرنسا من الهند الصينية ابتداء من سنة 1954. فعلا، لم يتمكن بعضهم من الرجوع إلى المغرب إلا بعد رحيله (أوفقير) سنة 1972، وانتقال الملف إلى حميدو لعنيكري.
هذا التماثل زاده (أوفقير) عدوانية للفتك بأهل الريف، حتى أنه استعمل بالريف تقريبا نفس الأساليب القذرة التي جربها في الهند الصينية، كحرق المحاصيل، قتل المدنيين أحياء وسرقة أرزاقهم، اغتصاب الرجال والنساء، حرق المنازل…
في ذات السياق تقول والدتي الراحلة، أنهم أغاروا على منزلنا ذات صباح باكر في بداية شهر يناير 1959، شاهرين السلاح في وجهها في رعب شديد للأطفال الصغار، مطالبين أهل المنزل بتوفير الطعام لهم حالا وإلا قتلوهم، سارعت الوالدة إلى إحضار بعض الطعام لهم وكان مخصصا لأبنائها الصغار. هذه الإغارة كانت بداية لمحنة الهجرة نحو المجهول بحيث أن الوالد أخذ الوالدة والأطفال إلى مكان هاجره أصلا أهله خوفا من البطش. كل الأماكن كانت غير آمنة.
الشهادة التي تلخص هذه الجرائم مجتمعة سجلتها السيدة الراحلة “فاطمة ب”، عملت شخصيا على إخراج ونشر شهادتها هاته سنة 2017 تحت عنوان:” شهادة سيدة من عام إقبارن (الخوذات) “، رغم أنها كانت حينها طفلة صغيرة لا يتعدى عمرها ثماني سنوات، لكنها استطاعت أن تتذكر تفاصيل عدة حول فظاعات حصلت، وملخص شهادتها كالتالي:
“.. بدأ الإنزال العسكري بقريتنا، تم إرغامنا على المكوث ببيوتنا، كنا نتوفر على ست رؤوس من المعز، اختار العسكر منها اثنتين لذبحها، من بعد ذلك بدأوا يبحثون عن والدي حتى سلم نفسه لهم، كما أرغم العسكر والدتي على طهي الخبز لهم، وفي اليوم الثالث رجع العسكر على الجياد وطلبوا منا إحضار العلف لهم، فلبينا طلبهم مباشرة. أخذوا ما يكفي من الشعير ورجعوا إلى المسجد الذي اتخذوه مأوى لهم، من بين المعتقلين شخص عذبوه على مسامع الجميع حتى مات قبل رميه في بركة ماء، رجعوا مرة أخرى في بحث عن قطعة سلاح ( جويجة)، عندما نفينا ذلك انهالوا بالضرب على زوجة أبي الثانية، ضربوها بركلاتهم بقسوة على بطنها وهي حامل في نهاية شهرها الرابع، بقيت تنزف حتى توفيت بعد أربعة أيام من هذا الحدث، العسكر أخذوا ما تبقى من المعز والتين المجفف والزرع، كما هددونا بإشعال النار في منزلنا، مما اضطررنا إلى الهروب نحو الجبال المجاوة للعيش بين الأشجار والأحجار لمدة شهرين تقريبا، أما والدي أخذوه إلى معتقل ‘باينتي’ (القلعة الحمراء) حيث تعرض لتعذيب وحشي…”. في بداية سنة 2018 استطعت التواصل مباشرة مع الشاهدة فاطمة رحمة الله عليها، وأضافت الكثير من التفاصيل إلى شهادتها الأصلية، وأعاد موقع Arrifino نشر هذه الشهادة كاملة.
من جهته أورد المخرج طارق الإدريسي في فيلمه ” كسر الصمت” شهادات عدة حول هذه الفظاعات. كسر الصمت فيلم وثائقي يرصد جرائم الجيش، أثناء انتفاضة الريف 58/59، من خلال شهادات الضحايا.
كما أورد الحقوقي سعيد العمراني في شهادة والده الراحل ” انتفاضة 58/59 بالريف، كما رواها لي والدي” نماذج من الجرائم ضد الإنسانية قام بها جيش أوفقير.
وضمن القصاصات التي قرأتها عن أوفقير عندما كان في الفيتنام أنه: “كان يستخدم قاذفات اللهيب ليلا لحرق المداشير الفيتنامية والناس نيام، فيتم حرقهم أحياء، مما جعل الفرنسيين يلقبونه le monstre الوحش”.
• التقارير الأمنية الإسبانية حول الأحداث.
التقرير الأول: حادث النادي الرياضي.
“هيئة الأركان العامة للجيش الإسباني في شمال أفريقيا”.
مذكرة إعلامية.
التاريخ: 11 يناير 1959.
الموضوع: ليلة أوفقير، إهانة خطيرة لإسبانيا وللسكان …
“وصل يوم أمس حوالي الساعة العاشرة ليلا القائد أوفقير، رئيس الطابور الآلي، إلى النادي الرياضي بهذه المدينة. كان مرفوقا بعدد من ضباط الجيش المغربي.
عند دخوله إلى النادي عبر بصوت عال وباللغة العربية على الانتصار الذي حققته القوات المسلحة المغربية على المتمردين، وطلب من جميع الحاضرين أن يستجيبوا لطلبه في ترديد هتافات “عاش الملك”، مضيفا أنه يجب تدمير الريف وأهل الريف لأنهم جميعاً سيئون، ويبدو أن هذه الكلمات كانت موجهة أيضاً إلى الإسبان. رد عليه رئيس الشرطة المحلية قائلا: “ليس كلهم أشرار، يوجد ضمنهم أناس طيبون”. بعد أن تفوه رئيس الشرطة بهذه الكلمات، أمره القائد أوفقير بالخروج إلى الشارع، وهو ما رفضه، ثم سدد له أوفقير لكمة قوية على وجهه ليسقطه أرضا، ونادى على أربعة من جنوده حتى يخرجوه إلى الشارع، أفقير أمر جنوده أن يطلقوا عليه النار لو أبدى مقاومة (..)”. مقتطف من التقرير في ثلاث صفحات.
يقال أن رئيس الشرطة هذا (جيلالي) كان شابا طويل القامة أصله من جنوب المغرب، تزوج لاحقا من الحسيمة وزوجته ماتزال على قيد الحياة، حاولت الإتصال بها بالبيضاء من أجل الاستفسار على بعض تفاصيل زوجها الراحل، لكن ظروفها الصحية لم تسمح بذلك، فشكرا على من ساعد في هذا التواصل.
التقرير الثاني: اعتداء على سيدة ريفية.
صادر عن نفس الجهة الأمنية الإسبانية فبراير 1959.
“عندما كان ‘دون خوان الرومان كونزالفيز’ عائدا إلى المدينة يقود سيارته، وبمجرد اجتيازه مفترق طرق أجدير، صادف على قارعة الطريق امرأة مسلمة تبدو في الخمسين من عمرها تقريبا، مصابة بجروح كبيرة في ظهرها ورأسها. وعندما سألها السيد الرومان، إذا كانت قد تعرضت لحادث ما، أجابته أن الإصابات ناجمة عن عنف بعض جنود القوات المسلحة الملكية، دون أن تتمكن من توضيح الأسباب. نقل الرومان المرأة المصابة بحضور النقيب الشرقاوي، قائد الكتيبة الخامسة للقوات المسلحة الملكية والحاكم المؤقت الحالي، الذي أمر بإبقائها في المستشفى المدني…”.
التقرير يعطي فكرة عن الاعتداءات العشوائية والمستمرة من طرف الجيش رغم رجوع بعض الهدوء إلى المنطقة.
التقرير الثالث: محاولة سرقة ساعة يدوية.
صادر عن نفس الجهة الأمنية الإسبانية يناير 1959.
“في وقت متأخر بعد ظهر أمس حضر جنديان من القوات المسلحة الملكية المغربية إلى محل الساعات ” Sigle XX”، وطالب أحدهما من ابن مالك المحل، MANUEL MUINOS ANDRADE، أن يعيد له الساعة التي ادعى أنه سلمها له من أجل إصلاحها قبل أيام، يجيبه صاحب المحل بأنه مرت خمسة أيام على استرجاعه ساعته ولم يفهم لماذا تجرأ على طلبها مرة أخرى.
وقال الجندي إنه لا يملك الساعة المذكورة، ورداً على ذلك، طلب منه صاحب المحل أن يعطيه التوصيل الذي سلمه له عند دفع ساعته لإصلاحها…
ثم أخرج الجندي قنبلة يدوية من جيبه وطلب من موينوس أن يخرج معه إلى الشارع ليأخذه للمعتقل (..)”.
ربما يبدو هذا الحادث بسيطا، لكن يعطي فكرة عن سلوك هذه القوات في السطو على أملاك الناس إما بدافع الحاجة أو بدافع الانتقام ونشر الرعب.
التقرير الرابع: تهديد أحد الفارين إلى إسبانيا.
صادر عن نفس الجهة الأمنية الإسبانية أبريل 1959.
” استدعى الوالي صباح يوم أمس حميد بورجيلة، شقيق الشريف بورجيلة، وطلب منه الإتصال بأخيه الهارب وإبلاغه بأنه عليه العودة إلى بلاده خلال 20 يوما وإلا سيتم إعلانه متمردا هاربا ومصادرة جميع ممتلكاته، وأعطاه ضمانات كاملة بإبلاغ الشريف أنه بمجرد عودته لن يتعرض لأي أذى (..)”.
هذا التقرير يعطي فكرة عن هروب العديد من المطلوبين إلى دول الجوار من أجل طلب اللجوء من بينها إسبانيا والجزائر.
التقرير الخامس: تكريم الطبيب فيديريكو مولينا مارتن.
صادر عن نفس الجهة الأمنية نهاية يناير 1959.
“منحت الحكومة المغربية لكاتب النقوش زيادة في راتبه قدرها 200 ألف فرنك سنويا، مكافأة له على العمل الذي قام به، كمدير للمستشفى المدني وكجراح، خلال الأحداث الدامية الأخيرة في الريف. كما تلقى التهاني من الحكومة (يقصد المغربية) على عمله الإنساني واهتمامه بجرحى القوات المسلحة الملكية”.
يفهم من هذا التقرير وجود جرحى من أفراد القوات العسكرية في المستشفى بالحسيمة.
عندما زار محمد الخامس الحسيمة في شهر يونيو 1959 كان الطبيب فيديريكو ضمن الموشحين من طرفه.
كما كان الطبيب فيديريكو إنسانا محبوبا عند سكان الحسيمة عموما.
التقرير السادس: زيارة محمد الخامس لأجدير.
صادر عن نفس الجهة الأمنية يونيو 1959.
الموضوع: طلب العفو من جلالة السلطان.
“من بين المسلمين الستة الذين ركعوا أمام جلالة الملك (يقصد م. الخامس)، بعد الخطاب الذي ألقاه في أجدير، كان هناك والد إدريس محمد شراط، وقد طلب هؤلاء المسلمون من جلالة الملك العفو عن جميع المعتقلين على خلفية انتفاضة الريف. جلالة الملك أمر وزير الداخلية نيابة عنه بالتحدث إلى المعنيين، حيث قال لهم الوزير أن المتمردين الذين حوكموا أمام المحاكم العسكرية سيتعين عليهم قضاء العقوبة المفروضة عليهم، وأن القضايا الأخرى قيد الدراسة”.
لقد كانوا أكثر من 1600 معتقل تم تقديمهم إلى محاكم مدنية وعسكرية في عدة مدن من بينها: الحسيمة، تطوان، الناظور، فاس. عدد منهم تم تقديمه إلى المحكمة العسكرية بفاس حسب الأرشيف الإسباني والفرنسي، والذي سأتحدث عنه لاحقا بالتفصيل.
• شهادات شهود عيان.
1) شهادة مانويل مارتينيس مارتن.
شهادة مانويل حول ليلة أوفقير أوردها في كتابه (Retazos الأطراف) تحت عنوان: “ليلة مأساوية للحسيمة بحضور السيد أوفقير”.
اختتم مانويل هذه الشهادة على الشكل التالي،” بعد شهر على الحادث (يقصد حادث النادي) صادفت القائد أوفقير مرة أخرى على جسر النكور في وضع كارثي، سأرويه لاحقا”.
عند لقائي مانويل كان أول سؤال طرحته عليه هو: ما هو هذا الوضع الكارثي الذي وجدت عليه أوفقير؟.
رغم أن مانويل يتجنب الخوض في بعض التفاصيل احتراما لبلده المغرب كما كان يقول، استطاع أن يوافيني بما مفاده أنه كان ذات يوم في خرجة عمل من الحسيمة في اتجاه الناظور، فعندما وصل السد العسكري الذي أقامته كتيبة أوفقير على قنطرة وادي النكور تم توقيفه واستنطاقه من طرف أفقير شخصيا، طالبه هذا الأخير بالرجوع من حيث أتى وإلا أفرغ فيه رشاشه، كان أوفقير يصرخ كالمجنون، “أدركت على الفور أنه كان تحت تأثير الكحول وبالكاد بقي متماسكا، كان رأسه مكشوفا ووجهه الزنجي كوجه الغول وعيناه تبحثان عن ضحية ما… وسرواله العسكري مبلل بالبول”.
مانويل ريفي المولد وإسباني الجنسية، رأى النور سنة 1928 بمليلية. كان موظفا في عمالة الحسيمة على سبيل الإعارة من طرف الحكومة الإسبانية حيثما تتأهل الإدارة المحلية يقول مانويل، كما اشتغل قبل ذلك مترجما وأستاذا للغة العربية بالحسيمة وتطوان ووجدة ومليلية لا حقا.
انتبه مانويل منذ البداية، أثناء حادث النادي الرياضي، إلى أن القائد أوفقير كان يبحث عن مجد ما ولم يستطع تحقيقه، وذلك من خلال ما أورده في كتابه: ” الصفحة السوداء التي كتبها القائد أوفقير بمدينة الحسيمة، والتي غطّى بها نفسه بـ ‘المجد’، تحولت إلى خيبة أمل كبيرة”.
شهادة مانويل حول حادث النادي، كما أوردها في كتابه طويلة، لذا سأكتفي بنقل مقطف منها:
“إنها العاشرة ليلا أو أقل بقليل، كنا أنا وبعض أصدقائي على طاولة النادي الرياضي، المتواجد بمحاذات شارع محمد الخامس، لتناول بعض الكؤوس. كان النادي أحسن مكان للترفيه والترويح عن النفس، كان بجانبنا كوميسير الشرطة المغربية مع عدد من أصدقاءه، هذا النشاط سيقوم أوفقير بإفساده على الجميع عند قدومه مرفقا ببعض الضباط من فيلقه وهم مسلحون، تبادل أوفقير التحية بقلب منشرح مع الكوميسير، أعطى إحساسا أنهم كانوا يعرفون بعضهم البعض. كان أوفقير يحتسي الشراب المحرم بدون توقف، يبدو أنه كان يروق الكومندان. تدهورت حالته سريعا، مما أدى به أن يصرخ ب: “عاش الملك”، رددنا معه نفس الشيء، بعد تكرار ذلك خمس أو ستة مرات (عدة مرات) ليرد عليه الكوميسير: بشوية عليك، مما دفع أوفقير لتوجيه لكمة قوية على وجهه التي أسقطته أرضا، وبعد لحظة كان الكوميسير محاطا بحراس أوفقير وموجهين بنادقهم إليه إن حاول المقاومة، بعد ذلك أنزل صورة الجنرال فرانكو المعلقة بجانب صورة محمد الخامس، وضربها على الأرض فتهشم زجاجها إلى قطع صغيرة، نهض أحد الضباط من الفيلق الإسباني لجمعها ووضعها تحت بذلته، خرج الجميع في حالة ذعر وهم يشاهدون أوفقير ومرافقيه في مشهد سوريالي يجرون الكوميسير الى سيارة جيب، وفي تلك اللحظة لاح بجانبي أحد تلامذتي في اللغة العربية وهو باسكوال رومان”.
ويعلق مانويل في كتابه على انتفاضة الريف بما يلي: “ظروف كثيرة دفعت الريفيين إلى أن يكونوا أبطالًا لما وقع سنتي 58/59، لقد خلقت مواقف معينة لحزب سياسي انزعاجًا شديدًا بين السكان، بحيث ساد التوتر والقلق، وقبل كل شيء الانزعاج الكبير كان واضحا بين السلطات والشعب”.
2) شهادة الراحل باسكوال الرومان.
يتذكر الراحل باسكوال جيدا حادثة النادي، لقد وصل إلى المكان مع منتصف الليل تقريبا ليتبادل الحديث مع الزوار الغاضبين على سلوك أوفقير.
باسكوال يتذكر الأحداث والأسماء واللحظات بدقة رغم تقدم عمره، وكان عمره خلال انتفاضة الريف لسنتي 58/59 في حدود 22 سنة. التقيت به قبل سبعة أشهر على رحيله يوليوز 2019.
في يوم 15 يناير 1959 خرج مع والده في السيارة باتجاه أجدير من أجل الترويح عن النفس، وإذا بهم يتوقفون عند ثلاثة أشخاص بمركز أجدير، وهم يبحثون عن المركوب للذهاب إلى مدينة الحسيمة، وذلك حتى يتسنى لهم اللقاء بالعامل (الكولونيل بلعربي) من أجل طلب تخفيف الإجراءات العسكرية وإطلاق سراح المعتقلين، هؤلاء الأفراد حسب الراحل باسكوال، هم: شراط، بوبطاطا واليزيد بوطاهر، قرر والده نقلهم إلى الحسيمة رغم ما يمكن ان يترتب عن ذلك من عواقب وخيمة، لكنه لم يبالي بهذه العواقب اذا كانت هذه الخطوة ستقود إلى تهدئة الأوضاع، وعند وصولهم إلى قنطرة إسلي أوقفهم سد للجيش، العسكر طالبوا والده بإنزال الرجال الثلاث، لكنه استجداهم أن لا يفعلوا ووعدهم بإرجاعهم إلى أجدير فور انتهاء مهمتهم مع العامل، هذا ما كان، هذا العمل النبيل الذي قام به والده سيتحول إلى نقمة ضده لاحقا حيث تم اعتقاله والحكم عليه بثلاثة أشهر سجنا نافذة قضاها بسجن الناظور، بدعوى التحرش بسيدة (..)، يعتقد باسكوال أن هذه الخطة تم حبكها بين الأمنيين والعامل حتى ينتقموا من والده ومن تعاطفه مع أهل الريف”، علما أن والده سبق أن تم تقديمه إلى المحكمة العسكرية بمليلية، عند انتهاء الحرب الأهلية الإسبانية وسيطرة فرانكو، بدعوى التعاطف مع الجمهوريين ومعاكسة فرانكو في تجنيد أهل الريف للحرب الأهلية، لكن أخذ البراءة في الأخير.
يتذكر باسكوال قصف الطيران الحربي المغربي وانفجار القنابل في بعض أطراف المدينة، مع تطبيق حضر التجوال يوميا ابتداء من الساعة الخامسة مساء مما صعب عليهم الاستمتاع بالعيش بشكل عادي داخل المدينة، مع انتشار المتاريس والقناصة في كل مكان، وثق شقيقه خوان شيئا من يوميات هذه الانتفاضة في مذكراته تحت عنوان: “مقتطفات من حديث مستمر عن الحسيمة”، يتذكر باسكوال كيف حاول بعض المنتفضين السيطرة على بعض مخازن السلاح بالمدينة.
في هذا السياق يتحدث عن دخول أوفقير لأول مرة إلى المدينة لنشر الرعب، يقول باسكوال وأنه أثناء إحدى خرجاته جهة النكور شاهد أفقير في حالة سكر طافح لا يقوى حتى على الوقوف.
3) شهادة الراحل فرانسيسكو غوميث.
التقيت بالراحل فرانسيسكو سنة 2018، لقد مكنني حينها من معطيات هامة تتعلق بالعديد من الأحداث تهم المنطقة منذ حرب الريف مرورا بالحرب الأهلية الإسبانية إلى انتفاضة الريف سنتي 58/59، كان والده السيد “فلوريان غوميث”، رجل أعمال بالحسيمة وساهم في تشييدها وتسييرها، بحيث أنه كان عضوا في أول تشكيلة للمجلس البلدي بالحسيمة سنة 1928 (حسب حميد الرايس في الجزء الأول من كتابه، الحسيمة من ثغزوث إلى بييا سانخورخو)، وكما كان على رأس الغرفة التجارية لمنطقة الشمال إلى حين تسليمه المفاتيح لمحمد الخامس حين زار هذا الأخير الحسيمة سنة 1959.
فبالإضافة إلى ما حكاه لي مانويل حول الحادث، أضاف فرانسيسكو: “أن أوفقير كان يبدو شخصا منحطا ووقحا في نفس الآن، كان يبدو أنه في عجلة من أمره للانتقام من جهة ما…أفسد علينا أمسية لم يشهد لها المكان مثيلا، كان الراحل فرانسيسكو بدوره حاضرا وشاهدا على ليلة أوفقير.
• محاكمة المنتفضين.
بالنسبة لهذه الفقرة سأعتمد على مداخلة الأستاذ والباحث ميمون أزيزا التي ألقاها في ندوة نظمها حزب الإستقلال بالرباط في مارس 2021.
وفر الأستاذ أزيزا العديد من المعطيات التاريخية اعتمادا على الأرشيف الإسباني والفرنسي وخاصة تقارير قنصليات البلدين بتطوان وفاس، والذي يوجد ضمن أرشيف مؤسسة فرانكو بمدريد ونانت بفرنسا، كما قال.
الأستاذ أزيزا تحدث بشيء من التفصيل عن كرونولوجية الأحداث وخاصة مراحل الاعتقالات والاستنطاقات والمحاكمات، وعدد المعتقلين والأحكام وهيأة الحكم والدفاع. أزيزا تحدث فقط عن محاكمة فاس، التي كانت عسكرية تحت رئاسة ستة قضاة على رأسهم “حسن الكتاني”، وقضاة من ضباط الجيش (بنعيسى الروكي).
كانت النيابة العامة مكونة من الضابطين الكردودي وبنكيران. جرت أطوار المحاكمة في مقر الدرك الملكي بفاس من 29 أبريل إلى غاية 7 يوليوز 1959، خلال 13 جلسة. بلغ عدد معتقلي الانتفاضة أكثر من 1600، تم تقديم 120 منهم إلى المحكمة العسكرية بفاس. كانت هيئة الدفاع تتشكل من 19 محاميا، من بينهم محاميان فرنسيان و10 من أصل يهودي مغربي، وتراوحت الأحكام بين 4 و7 سنوات (76 معتقلا) مع إطلاق سراح 30 منهم. تم إصدار حكم غيابي بالمؤبد مع الأشغال الشاقة في حق قائد الانتفاضة ‘امحمد الحاج سلام أمزيان’. طالب الضابط الكردودي (النيابة) بإنزال عقوبة الإعدام في حقه، لكن الفصل 101 من القانون الجنائي الفرنسي يمنع ذلك في حالة الجرائم السياسية، لأن المحاكمة انتظمت أصلا تحت الفصل 101 من القانون الجنائي الفرنسي، حسب الأستاذ أزيزا. نفس الضابط طالب بإنزال أقسى العقوبات، 20 سنة، في حق المتهمين، وطالب الصحافة بعدم استعمال كلمة “المتمردون” و” السجن”. أشار الأستاذ أزيزا إلى إقامة محكمة عسكرية أخرى بتطوان لكنه لم يتناولها. كما كانت هناك محاكمات للمنتفضين في ابتدائية الحسيمة والناظور.
بالنظر إلى حجم الحدث تبقى هذه المعلومات غير كافية للإحاطة بكل جوانب المحاكمة، خاصة أن الأستاذ أزيزا لم يتحدث، مثلا، عن الحالة النفسية والجسدية وشروط الاعتقال التي كان يتواجد عليها المعتقلون. فكل الشهادات تقول أن المعتقلين تعرضوا لعنف وتعذيب وحشي رهيب لم يشهدوه حتى في زمن الاحتلال الإسباني.
كان ضمن الذين حوكموا من طرف المحكمة العسكرية بفاس، الراحل “إدريس داوود” زوج أختي “فاطمة” أطال الله في عمرها، حكى الراحل عن فظاعات التعذيب في معتقل الرواضي والحسيمة، قبل نقله إلى سجن عين قادوس بفاس، حيث تمت محاكمته ب 4 سنوات سجنا نافذة قضاها بين سجني الفلاحي بسطات والمركزي بالقنيطرة. فمن جراء العنف الذي مورس عليه عاش بعاهات نفسية وجسدية حتى رحيله قبل عقدين.
وفي شهادة أخرى لعمي الراحل ‘الحاج موحند توهامي’ الذي قضى شهرين في معتقل تارجيست، وأطلق سراحه دون محاكمة، يحكي أنهم تعرضوا لتعذيب همجي دام شهرين في ظروف اعتقال كارثية من بينها الإكتضاض الشديد.
الاعتقالات والمحاكمات لم تشمل فقط الريف الأوسط بل امتدت إلى الريف الغربي وخاصة منطقة صنهاجة سراير، التي انتفضت بدورها بقيادة المقاوم سليطن، حيث اعتقل المئات من المواطنين، وتم محاكمة جزء منهم في المحكمة العسكرية بتطوان. في هذا الصدد يقول قائد دائرة بوحمد آنذاك السيد (إ.س) في شهادة خاصة لي، أن السلطات وزعت المعتقلين على عدة دوائر من أجل استنطاقهم ومحاكمة جزء منهم، وكان نصيبه (بوحمد) 300 معتقل، الذين تم حجزهم في مستودعات وكراجات ومنازل مهجورة.
وختاما لما سبق…،
حادث النادي الرياضي لم يكن فقط صداما بين زوار الليل، بل إن ما تفوه به أوفقير، ليلة 10 يناير، يعتبر بلاغا عسكريا رسميا عنوانه: “قتل أهل الريف” كما جاء في كلامه. الشهادات والتقارير المقدمة ضمن هذه الحلقة ليست الوحيدة طبعا، بل تعتبر عينة صغيرة ضمن أرشيف هائل يؤرخ لما وقع، أوفقير لم يكن معزولا طبعا عن الجهاز. وللقصة بقية…
الشكر موصول إلى الأستاذ عبد الكريم صديق على دعمه ومراجعته لهذا النص.
جمال الكتابي
أمستردام 13 مارس 2024.