طه عبد الرحمان: طوفان الأقصى تخطى الحدود الجغرافية والثقافية


قال الفيلسوف والمفكر المغربي طه عبد الرحمن إن أبعاد “طوفان الأقصى” تتخطى الحدود الجغرافية والثقافية للأمة إلى العالم كله، لأن الفعل المقاوِم بات يتطلب في زمن ما بعد الطوفان الانتماء إلى العالم.

وأضاف أستاذ المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق، ومؤلف كتاب “روح الحداثة.. المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية”، في حوار نشره موقع “الجزيرة”، أنه لما ظهر أن الطوفان، من حيث كونه تجريفا للشر المطلق، هو السبيل الذي يوصّل إلى التحرر الأمثل، فقد لزم أن تكون “المقاومة الطوفانية” حركة تحررٍ للإنسان عامة أو حركة تحرير للعالم كله، حتى ولو بدت في الظاهر حركة تحرر لشعب مخصوص أو حركة تحرير لأرض مخصوصة، وفق تعبيره.

وألف عبد الرحمن (79 عاما) كتبا عديدة تنوعت موضوعاتها بين المنطق والفلسفة وتجديد العقل ونقد الحداثة، ويتلخص مشروعه الفلسفي في العمل على فك الارتباط بين الفلسفة ومفهوم الحداثة وبين الفكر الغربي كذلك، ليؤكد أن لكل ثقافة وحضارة فلسفتها وحداثتها الخاصة، جاعلا من الفكر النظري والعمل الأخلاقي وجهين لعملة واحدة، معارضا بذلك الفكر الغربي الحديث الذي يستبعد الأخلاق في شقها العملي.

ورفع الفيلسوف المغربي شعار “الأخلاق هي الحل” أو ما سماه “العمل التزكوي” في بعض كتبه مثل “روح الدين” و”سؤال العمل”، واعتبر أن الازدواجية في الفكر الإسلامي العربي شلت قدرة أهله على الإبداع الفلسفي لاستخدام مفاهيم في الممارسة الإسلامية العربية تحذو حذو المنقول الفلسفي الغربي حذو النعل بالنعل. فإلى الحوار:

مقتطف من الحوار:

س. كيف تنظرون إلى عملية “طوفان الأقصى” في السياق الفلسطيني والإنساني؟

إن أول ما يستوقف الفيلسوف في “طوفان الأقصى” في سياقه الفلسطيني هو هذه التسمية نفسها؛ فلِمَ اختارت المقاومة الفلسطينية في غزة أن تُطلق على عمليتها اسم “الطوفان” ولَم تختر غيره؟ لا شك في أن حديث “الطائفة المنصورة” الذي أُشربت به قلوب رجالها كان له تأثير في هذه التسمية؛ فـ”الطوفان” لا يكون إلا من عمل هذه “الطائفة” متمثلةً فيهم، هذا عن الأصل الاشتقاقي؛ أما عن العلة لهذه التسمية، فمعلوم أن “الطوفان” يفيد معنى “التجريف الذي لا يترك وراءه شيئا”؛ فلنسأل ما حقيقة هذا الشيء الذي حمَلت هذه المقاومة أمانةَ تجريفه بالمرة بحيث لا تُبقي منه شيئا؟ لا يُمكن أن يكون هذا الشيء مجرد الاحتلال، ولا حتى مجرد الظلم، وإنما هو، على الحقيقة، “الشر المطلق”؛ فقد كان الناس يتصورون “الشر المطلق” مفهوما بعيدا، ولا يعتقدون تحققه، فإذا بهم اليوم يرونه رأي العين واقعا حيا؛ فقد شاهدوا “الصلاة” في بيوت الله تُقصف، و”البراءة” في الطفولة تُزهق، و”العافية” من المستشفيات تُطرَد، و”اللجوء” إلى المآوِي يُرهَب، وقس على ذلك ما شابَهه؛ رأوا بأمّ أعينهم احتضار كل قيم الخير التي خُلق الإنسان من أجلها؛ وليس “الشر المطلق” إلا مَشاهِد الموت الذي يأتي على كل القيم؛ وقد كانت المقاومة الفلسطينية في غزة سبّاقة إلى تبيُّن حقيقة هذا الشر، فسارعت إلى مواجهته بالقوة التي تدفع موبقاته، بل تنتزعه من أصله؛ لذلك استحقت هذه المقاومة أن تسمى “المقاومة الطوفانية”، تمييزا لخصوصيتها عن باقي أشكال المقاومة.

الناس رأوا بأمّ أعينهم احتضار كل قيم الخير التي خُلق الإنسان من أجلها؛ وليس “الشر المطلق” إلا مَشاهِد الموت الذي يأتي على كل القيم؛ وقد كانت المقاومة الفلسطينية في غزة سبّاقة إلى تبيُّن حقيقة هذا الشر

يبقى أن نسأل لِم أضافت هذه المقاومة “الطوفان إلى “الأقصى” ولَم تُضِفه إلى سواه؟ ما من شك أن مكانة “الأقصى” عندها تُحتّم هذه الإضافة، غير أن هذه المكانة لها وجوه عدة يختلف الأخذ بها بحسب السياقات والظروف؛ فـ”الأقصى”، في سياق ذكر التوجه في الصلاة، هو القبلة الأولى للمسلمين، بينما هو في الظروف الخاصة التي تحفُّ بالمقاومة الطوفانية هو، بالأساس، “المَسرى”، ذلك أن “الإسراء”، اصطلاحا، يستلزم التغلب على مادية الجسم بالكلية، مَثَلُه في ذلك مَثَل “العروج”؛ وهذا يعني أن روح “المُسرَى به” تتحرر من كل القيود بما يجعلها تنطلق في فضاء الملكوت اللامتناهي؛ لذلك، بات “المَسرى”، بالنسبة إلى هذه المقاومة، يدل على “مكان التحقق بالحرية القصوى”؛ وعليه، فإن كان الاسم التاريخي لهذا المكان هو “الأقصى”، فإن الاسم الظرفي له هو، بالذات، “المَسرى”؛ ولو أن هذه المقاومة لم تُسمّ عمليتها “طوفان الأقصى”، لاتخذت لها اسم “طوفان المَسرى” لدلالته على الحرية؛ ولعلّها حرصت على حفظ الاسم التاريخي، اعتبارا لشهرته؛ والدليل على ذلك أنها جعلت “تحرير” جميع الأسرى في سجون العدو أسبق مقاصد “الطوفان”، بل جعلته أول شرط في أي تفاوض معه!

- إشهار -

ومن هنا، يتبين أن السياق الفلسطيني لطوفان الأقصى يفتح على السياق الإنساني من جانبين على الأقل؛ أحدهما، أن هذا الطوفان فيه من طوفان نوح عليه السلام نصيب، وهو “استئصال الشر من الأرض”، بحيث يتهيأ بفضله الإنسان من حيث هو كذلك ليتلقى قيما جديدة؛ والثاني أن “الأقصى” فيه من إسراء محمد عليه الصلاة والسلام نصيب، وهو “التحرر من قيود المادة”؛ فيكون “الأقصى” أو قل “المَسرى” آية دالة على تعميم القيم الجديدة على البشرية جمعاء، بحيث لا يحدُّها أي اعتبار مادي.

ولما ظهر أن الطوفان، من حيث كونه تجريفا للشر المطلق، هو السبيل الذي يوصّل إلى التحرر الأمثل، فقد لزم أن تكون “المقاومة الطوفانية” حركة تحرر للإنسان عامة أو حركة تحرير للعالم كله، حتى ولو بدت في الظاهر حركة تحرر لشعب مخصوص أو حركة تحرير لأرض مخصوصة، إذ المقاوم الطوفاني إنما هو الإنسان في صراعه مع الشر؛ ويؤيد ذلك التفاف العالم حول قضيته، ولا يرجع هذا الالتفاف، كما شاع بين جمهور السياسيين، إلى تعاطي العالم للرواية الفلسطينية للأحداث بقدر ما يرجع إلى كون هذه المقاومة أعادت بقوة الإنسان، حيثما كان، إلى فطرته الأولى، أي أعادته إلى القيم الأصيلة التي تنطوي عليها روحه، بدليل سرعة هذا الالتفاف حول قضيته وانخراط الفتيان فيه بكثرة، إذ الفتى يكون أقرب من سواه إلى الفطرة، فيسهل إحياؤها فيه.

س. مع طوفان الأقصى، شهدنا مظاهر كثيرة لازدواجية المعايير الغربية، برأيكم هل يمكن أن نشهد تراجعا حضاريا متأثرا بهذا التراجع القيمي؟

ما أريد التنبيه عليه هو أن ازدواجية المعايير عند الغرب ليست مظهرا مستحدثا فيه، بل كانت ملازمة لحضارته منذ بدايتها، لأن هذه الحضارة بُنيت، أصلا، على مبادئ مادية تقرّر تفوُّقه على غيره من الأمم؛ وحيثما يوجد هذا الشعور بالتفوق، يوجد خطر تفضيل الذات على غيرها، وتقديم مصالحها على مصالحه بإطلاق؛ ولا يدفع هذا الخطر التمييزي إلا وجود “جذوة التعالي الروحي” في القلوب، هذه الجذوة الفطرية التي تختص بكونها تنزع أسباب التنازع على المصالح المادية، وتسوّي بين الناس كلهم في الحقوق والواجبات؛ والغرب ظل، عبر تاريخه الحديث، يفتقد هذه الجذوة المتعالية، بل أقام صرحه الحضاري على أساس إطفاء هذه الجذوة في القلوب لطغيان المصالح الدنيا على كل أحواله؛ غير أن ما يميز ازدواجية المعايير في حاضر تعامله مع طوفان الأقصى عن حالات أخرى لهذا الازدواج عنده هو أن حكامه فقدوا خُلق “الحياء” بالمرة، إذ يعلنون، بكل صفاقة، إنكارهم للحقائق الناصعة التي ينهض أفراد العالم كلهم شهودا عليها، فجمعوا إلى تكذيب الأحداث تكذيب الشهود؛ وحينها، لا نستغرب قسوة قلوبهم وذهاب إحساسهم، منسلخين بالكلية عن إنسانيتهم.

ازدواجية المعايير عند الغرب ليست مظهرا مستحدثا فيه، بل كانت ملازمة لحضارته منذ بدايتها، لأن هذه الحضارة بُنيت، أصلا، على مبادئ مادية تقرّر تفوُّقه على غيره من الأمم؛ وحيثما يوجد هذا الشعور بالتفوق، يوجد خطر تفضيل الذات على غيرها، وتقديم مصالحها على مصالحه بإطلاق

وعلى هذا، فإن التقهقر القيمي ليس شيئا طارئا على الحضارة الغربية، وإنما أسبابه مبثوثة فيها على الدوام؛ فهي حضارة، أصلا، متقهقرة قيميا لو قورنت بحضارة الإسلام، لأنها، كما ذكرت، خالية، ابتداء، من جذوة التعالي؛ وظل هذا التقهقر القيمي خافيا عن الأنظار لغلبة تعلُّق الناس بمظاهر التقدم المادي؛ لكن أبت الأقدار إلا أن تكون الصدمة العظمى التي أحدثها طوفان الأقصى هي التي تُبرز بوجه لم يسبق إليه تغلغُلَ هذا التقهقر في صلب هذه الحضارة المادية، بل أن تُبرز قبحه المطلق، ليكون هذا الطوفان آية ناطقة بلسان الملكوت بين أظهر الغرب.

التقهقر القيمي ليس شيئا طارئا على الحضارة الغربية، وإنما أسبابه مبثوثة فيها على الدوام؛ فهي حضارة، أصلا، متقهقرة قيميا لو قورنت بحضارة الإسلام، لأنها، كما ذكرت، خالية، ابتداء، من جذوة التعالي؛ وظل هذا التقهقر القيمي خافيا عن الأنظار لغلبة تعلُّق الناس بمظاهر التقدم المادي؛ لكن أبت الأقدار إلا أن تكون الصدمة العظمى التي أحدثها طوفان الأقصى هي التي تُبرز بوجه لم يسبق إليه تغلغُلَ هذا التقهقر في صلب هذه الحضارة المادية

المصدر: الجزيرة

أعجبك المقال؟ شاركه على منصتك المفضلة..
قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد