عواقب نجاح إسرائيل في حربها على غزة
هدد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنّ الرد الإسرائيلي على معركة “طوفان الأقصى” سيستغرق وقتًا وسيغير وجّه الشرق الأوسط. فما الذي قصده بذلك؟ وماذا يعني نجاح الاحتلال في تحقيق أهدافه في قطاع غزة والتي أعلن أنها تتمثّل في اجتثاث حماس وقوى المقاومة؟
لا شكّ أن الضربة التي تلقّاها الاحتلال أثرت ليس على معنويات جنوده ومجتمعه فحسب، وإنما أحدثت أيضًا خللًا كبيرًا في موازين القوى في المنطقة، وأعطت إشارة إلى أن هذه الدولة قابلة للهزيمة عندما تتوفر الإرادة والتصميم والقدرة. ولكن كيف يمكن أن تكون الصورة لو تمكّن جيش الاحتلال بالدعم والانحياز الغربي غير المحدود، بل والشراكة الأميركية الكاملة، في إنجاز أهدافه بإعادة احتلال قطاع غزة والتخلّص من قوى المقاومة وعلى رأسها حركة حماس؟
إسرائيليًا، يعني ذلك استعادة صورتها التي رسمتها منذ نشأتها كصاحبة الحضور والنفوذ والتفوق النوعي في المنطقة، وأنّ جيشها قوي لا يمكن العبث معه ولا يتسامح مع أي ضربات، ما يعني استعادة قدرتها على الردع وعودة الهيبة والاعتبار لفكرة “الجيش الذي لا يقهر”. وهذا سيقود إلى التنكر الكامل للحقوق الفلسطينية ووضع خطة سموتريتش التي تعرف بخطة “حسم الصراع” موضع التنفيذ، عبر إعادة تهجير من تبقّى من أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية لتصفية القضية الفلسطينية وحسم الصراع لصالح المشروع الصهيوني.
من مصلحة دول المنطقة الوقوف خلف المقاومة الفلسطينية والحيلولة دون الانقضاض عليها وإضعافها، مهما كانت اختلافاتها معها، لأن الضرر سيعمّ الجميع، ولأن المقاومة بشكل من الأشكال تعتبر سندًا وحاميًا ليس فقط للفلسطينيين، وإنما للأمن القومي لعدد من الدول العربية.
وفلسطينيًا، يعني ذلكَ تجريد الشعب الفلسطيني من كلّ ما أنجزه خلال السنوات الماضية، ليس فقط من بنية وطنية نوعية في قطاع غزة بما فيه من قوى المقاومة، التي باتت يُحسب لها الحساب، وإنما سيمتد ليصل إلى ما يعتبر (نواة لكيانية سياسية)، وأقصد هنا السلطة الفلسطينية، فرغم كل ما يمكن أن يقال عن هشاشتها وضعفها وسوء أدائها، إلا أنها تظل غير مرغوبة من اليمين الصهيوني الحاكم. بل إن الوجود الفلسطيني على الأرض الفلسطينية سيكون مهددًا بشكل جِدي، وقد يجد فلسطينيو الضفة الغربية وحتى فلسطينيو 48 أنفسهم، مهددين بالتهجير والإبعاد إلى دول أخرى وبالذات إلى المملكة الأردنية الهاشمية.
وعربيًا، وخاصة في مصر والأردن، فإن تحقيق أهداف الاحتلال الإسرائيلي، ولا سيما هدف تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، سيشكل خطرًا إستراتيجيًا على الأمن القومي المصري، وسيخلق أزمة عميقة لها، إذ سيفرض على مصر أن تتولى ملف الفلسطينيين بشكل عام، وملف قطاع غزة على نحو خاص. كما ستصبح المملكة الأردنية، مرشحة لاستقبال ثلاثة إلى أربعة ملايين فلسطيني من الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948، لتتحقق مقولة اليمين الصهيوني الفاشي التاريخية بأن (الأردن هي فلسطين)، وسيتم تنفيذ سياسة الوطن البديل وإقامة كيان فلسطيني في الأردن وَفقًا لخطة سموتريتش لحسم الصراع. بما يعني تقويض المملكة الأردنية وتغيير بنية البلد على أكثر من مستوى وبشكل جذري.
أمّا ما يعرف بـ “محور المقاومة” فوجوده على المحك، فدوره سينتهي إذا انتهت المقاومة في قطاع غزة، ولا سيما أن معنى هذا المحور ومغزاه مستمدان من الحديث عن القضية الفلسطينية ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي، بل إن مصطلح “المقاومة” في المنطقة تم صكّه استنادًا إلى مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال الصهيوني، وبالتالي لا يمكن لأحد أن يطلقَ على نفسه صفة “مقاوم” أو يتحدث عن المقاومة إن لم تكن القضية الفلسطينية والفلسطينيون في المركز. ويعني غياب أو كسر شوكة قوى المقاومة الفلسطينية، أنّ هذا المحور بلا قيمة أو وجود أو شرعية، ليس على مستوى ارتباطه بالقضية الفلسطينية فحسب، بل إنه سيخسر خسارة كبيرة على مستوى الدول التي يوجد فيها، لأنه استمد جزءًا من شرعيته في تلك الدول لموقفه الداعم للمقاومة الفلسطينية، وليس استنادًا إلى الاعتبارات الداخلية أو القُطرية وحدها.
وسيعني ذلك أن النفوذ الإيراني في المنطقة سيتأثر، فشعار: “الموت لأمريكا والموت لإسرائيل” الذي ترفعه هي وحلفاؤها في المنطقة، يستند بشكل أساسي إلى دعم المقاومة الفلسطينية والقضية الفلسطينية، وإذا ما حيّدت إسرائيل قوى المقاومة فإن مبرر هذا النفوذ الإيراني في كثير من دول الإقليم قد انتهى، ولن يبقى تفسير له سوى التدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدول، تحقيقًا لأهداف إيرانية محضة وسيكون خاليًا من أي رسالة، وهو ما يشكل تحديًا حقيقيًا لإيران.
أخيرًا؛ فإن من أخطر نتائج تحقيق إسرائيل أهدافَها، هي الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط، وإعادة الاعتبار لها، والتأكيد مجددًا أنها صاحبة الكلمة العليا واليد الطولى في المنطقة. وأن كل حديث عن تراجع دورها ونفوذها وما يستتبعه من محاولات تمرّد عليه يصبح كلامًا بلا معنى. ولا يؤثر هذا على الفلسطينيين وحدهم، وإنما على الدول والقوى الصاعدة في المنطقة، وأيضًا على القوى الدولية التي ترغب أن يكون لها دور ونفوذ على المستوى الدولي، ما يعني أن ذلك سيشكّل رسالة عملية للصين وروسيا، وأي دولة طامحة أخرى، بأن زمن هذه الطموحات لم يحِن بعد.
لهذه كله يجب ألا يتمكن العدو الصهيوني من إنجاز أهدافه، ويجب على كل القوى والدول المتضررة من هذا الموقف المساهمة في لجم العدوان ووقف الحرب الهمجية. كما يجب الحيلولة دون إعادة تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى أي دولة كانت، وليس فقط إلى مصر. ويقتضي هذا تنحية الخلافات، بين بعض دول الإقليم والمقاومة الفلسطينية، جانبًا، فمن مصلحة تلك الدول الوقوف خلف المقاومة الفلسطينية والحيلولة دون الانقضاض عليها وإضعافها؛ لأنها بشكل من الأشكال تعتبر سندًا وحاميًا ليس فقط للفلسطينيين وإنما للأمن القومي لعدد من الدول العربية.
إن ضمان عدم تهجير الفلسطينيين واستمرار المقاومة الفلسطينية، حتى وإن تمكّن العدو الصهيوني من إلحاق الأذى الكبير بالفلسطينيين تدميرًا وقتلًا، يعني فشل هذه الحرب، وتثبيت صورة النصر التي تحقّقت في الأيام الأولى، ويعني أيضًا أن الكيان الصهيوني سيبقى عاجزًا عن التدخل في الشؤون العربية وفي شؤون الدول المختلفة في الإقليم، وإلا فالكل متضرر من هذه المعركة إذا انتصر فيها الاحتلال الإسرائيلي والنفوذ الأجنبي والهيمنة الأمريكية.
أحمد العطاونة؛ مدير مركز رؤية للتنمية السياسية.