مع الضريرين (قصة)
كنت على متن القطار القادم من الصعيد رفقة صديقي أبي العلاء، بعباءته الحريرية وعمامته البيضاء، نتجاذب أطراف الحديث قبل الوصول لمدينة القاهرة المحروسة، تحدثنا عن أمور الأدب والسياسة وهذا الواقع العربي الموبوء وحيث الفتن في كل مكان.
القطار يسير متثاقلا، ضجيج المسافرين خاصة، من أهل الريف يملأ العربات، بعض العربات ضاجة بالمسافرين مثل مهاجرين تكدسوا في السفينة كما قال صديقنا عبد المعطي حجازي في إحدى قصائده، سألت رفيقي أبا العلاء هل يعرفه أو قرأ له بعضا من قصائده، أجابني إنه من شعراء الحداثة وأنه شاعر مجتهد، عيبه أنه ارتبط بالريف كثيرا في قصائده، ابتسمت لملاحظاته، كنت أجلس عكس سير القطار، الأشجار تبدو لي كما لو أنها تفر من قدر محتوم، أبو العلاء يجلس أمامي بلحيته المشذبة بعناية فائقة وابتسامة لا تفارقه، لم يكن ساخطا على الحياة، كنت أصف له كل ما أراه دون زيادة، وصل القطار إلى محطته الأخيرة في القاهرة، ترجلت وساعدت صديقي أبا العلاء النزول، ثم سرنا معا، كنا على موعد مع صديقنا طه، وجدناه في الانتظار رفقة قائده، ببذلته العصرية الأوروبية وطربوشه الأحمر المصري، وحذاء أسود صقيل لا شك أنه فرنسي الصنع، يضع نظارات…
تصافح الجميع ثم سرنا نحو السيارة التي كانت في الجهة المقابلة للمحطة على الرصيف الآخر. ركبت مع أبي العلاء في الكراسي الخلفية بينما طه جلس قرب سائقه، دون مقدمات قال طه لسائقه: إلى مقهى الفيشاوي في حي الأزهر.
انطلق السائق عبر شوارع كثيرة متفاديا الازدحام والضجيج، بعد نصف ساعة توقفت السيارة. في مقهى الفيشاوي جلسنا، وقف النادل وكان شابا بشوشا مرحا، رحب كثيرا بطه، هو زبون ليس ككل الزبائن، قدمنا طه للنادل، هذا الشاعر أبو العلاء من معرة النعمان، وهذا صديقنا المغربي، سررت بهذا الوصف، جاء النادل بكؤوس من الشاي الأسود، رفع أبو العلاء يده، فقد كانت رائحة النارجيلة تملأ فضاء المقهى وسط ضجيج الزبناء، وطلب واحدة، هيأ النادل له نارجيلة، صاح أبو العلاء مرة أخرى: برائحة التفاح يا ولد.
ابتسم طه ورشف من كأسه بينما كنت أتابع المشهد داخل المقهى، خليط من السحنات، سأل طه عن نجيب هل وصل، أخبره النادل أنه لم يزر المقهى منذ يومين، جراء الاعتداء الذي تعرض له بسبب رواية ما.
قال طه لأبي العلاء أراك حزينا يا صاحبي ملامحك تقول ذلك، ماذا بك؟ أجاب أبو العلاء ساخرا، من أخبرك أني حزين، ألسنا مكفوفين لا نرى سوى الظلمة، فكيف ترى ملامحي؟.. رد طه بدوره ساخرا: الظلمة في العقول والقلوب يا صديقي، نحن معا لا نرى، لكن في قلبينا وجوانحنا نورا لا يدركه هؤلاء الذين يبصرون، ألست فيلسوف الشعراء، وأنا ألست عميد الأدب، من أطلق هذه الأسماء علينا؟،.. نحن من ينير الطريق لهؤلاء المبصرين…
أخرج طه من جيب بذلته نظارة وقدمها هدية لصديقه أبي العلاء، نحن متعادلان إذن… أخذ أبو العلاء الهدية، وضعها على عينيه، قام وجال ببصره في المقهى وقال: الآن أرى كل شيء، شكرا صديقي على الهدية.
كان صوت مذيع نشرة الأخبار في إحدى القنوات الفضائية المعروفة، يذيع آخر الأخبار، بصوت ضاغط على الحروف كان المذيع يتلو خبر الثوار الجهاديين وهم يقطعون رأس تمثال أبي العلاء بعد ألف سنة على وفاته… ويتوعدون بتخريب كل التماثيل، تمثال طه حسين، والسياب، وابن خلدون…
كان زبناء المقهى في لغطهم غير مبالين… قام أبو العلاء وتحسس جبينه، ثم أزال النظارة من على عينيه، وهو يردد: الثوار الثوار، متسائلا، متى كان الثوار يهدمون تماثيل العظماء…
قام طه من مكانه، قمت بدوري، نفحت النادل الشاب جنيهات معدودة.. خرجنا من المقهى، كانت السماء غائمة، وآذان المغرب يتردد في كل الصوامع…
قبل أن نقطع الشارع نحو النهر النيل، توقف أبو العلاء، رفع يديه كما لو يؤدي دورا في مسرحية تاريخية، صاح وسط الشارع: ليهدموا كل التماثيل… نحن باقون، النور في دواخلنا حتى ولو عمّ الظلام كل مكان… لن يهدموا أفكارنا… صاح طه بدوره، كنت وحدي أتأمل المشهد وأسمع ما يقوله الرجلان… المارون كانوا غير مكترثين..
أدركت عندها أن العالم يسير عن حتفه.