أطلقوا سراح “المعطي”
انتفضت الروح التي أنهكها على مدى الأعوام الأخيرة حبس عدد بلا حصر من الأصدقاء في بلدي مصر، وقتلهم بطيئا بالإهمال الطبي وإهدار سنوات تلو سنوات من أعمارهم وحيوات أسرهم وأحبابهم، أو سريعا وفي بضع أيام كما حدث مع شهيد عدوى الكورونا في السجن الصحفي “محمد منير”.
كنت أخال أني استنفدت آخر ما في طاقتي على تلقي صدمات الأخبار السيئة، حتى جاء مساء أمس (29 ديسمبر 2020) من “الرباط” هذه المرة وليس من القاهرة، نبأ اعتقال صديقي المؤرخ والأكاديمي ونصير حرية الصحافة والتحقيق الاستقصائي والحريات “المعطي منجب”، وهو يتناول طعامه في مطعم بوسط المدينة.
قبل أيام وفور إعلان إخراج ”التطبيع” بين المملكة المغربية و الكيان الصهيوني برعاية أمريكا /”ترامب” من تحت الطاولة إلى “فلاشات” المباهاة والمفاخرة، كتبت تدوينة على صحفتي بـ “الفيس بوك” تتخوف من قمع أشد للحريات وعدوان أعنف على الحقوق يلوح في الأفق هناك. وبخبرة مواطن مصري عاش شابا تداعيات “كامب ديفيد”، تظل محفورة في الذاكرة تلك السنوات الأكثر قسوة وقمعا وتدهورا في حكم “السادات”، وحتى اغتياله متزينا بأوسامه العسكرية وسط ما كان يقول عنه مفخما “ياء” الامتلاك والملكية “جيشي”. ولأن التاريخ ـ كما قال ماركس ـ لا يعود ويكرر نفسه إلا كمأساة أو مهزلة، فقد استدعيت الى ذاكرتي قمع “السادات” للانتفاضة الشعبية يناير 1977 مع ما جرى لانتفاضة وحراك الريف في المغرب 2017 وقبل نحو ثلاث سنوات من إعلان التطبيع، وما رواه بطلها ”ناصر الزفزافي” الذي مازال مسجونا عن صنوف التعذيب.
وكأننا لم نكن بحاجة كي ننتظر كثيرا. فبعد ما دونت بنحو يومين أو ثلاثة فقط، منعت قوات الأمن وقفه احتجاج ضد التطبيع أمام البرلمان بوسط الرباط أيضا. وحملت صفحات التواصل الاجتماعي من مكان الوقفة المجهضة صورة فوتوغرافية لصديقي “المعطي” حاملا قارورة مياه صغيرة يتأبط بحنو “عبد الرحمن بن عمرو” شيخ المحامين المغربيين والحقوقي اليساري الذي جاوز السابعة وثمانين سنة. ولقد بدا “المعطي” ـ وخلفهما حشود من قوات وعربات الأمن بسلاحها وعتادها ـ مبتسما كعادته، وهو ينظر إلى نقطة ما في مستقبل لا نراه.
ولقد عدت لتأمل الصورة نفسها مرارا. وعندي فضول شخصي، وهو قلقي على صديقي ”المعطي” بعدما تابعت أخبار ملاحقته باستدعاءات متكررة أمام جهات التحقيق في مدينة الدار البيضاء على بعد نحو 90 كيلوا مترا من الرباط، وإثر حملة تشهير مفضوحة في صحف الأمن السياسي عن “تلقيه أموالا من الخارج”. ولم تستثن الحملة عائلته، بما في ذلك شقيقة لا صلة لها بالسياسة أو بأي شأن عام. ولجأ ”المعطي منجب” إلى أن ينشر على الملأ قائمة بممتلكاته و أمواله وحساباته في البنك والمتناسبة مع دخله كأستاذ جامعي متحديا أي سلطة كانت بنشر ما يخالفها. وكنت أعلم مدى ما تعرض له على مدى سنوات سابقة من ملاحقات ومضايقات وتحقيقات بتهم سياسية ليس إلا. لكني ظللت أقول لنفسي: “حمد لله أنهم لم يلاحقوه هو أيضا بالتشهير والتحقيق والحبس في فضائح جنسية ملفقة مدعاه كما تواتر في السنوات الأخيرة مع صحفيين معارضين بالمغرب من هشام المنصوري إلى توفيق بوعشرين وسليمان الريسوني رئيسي تحرير (أخبار اليوم)”.
وعلاوة على كل هذا، كان عندي سبب إضافي كي أعود لتأمل الصورة نفسها، فـ”المعطي منجب” ظل ممتثلا بكل احترام ورحابة صدر وطاعة حريصا على تلبية استدعاءات التحقيق، وقاطعا الطريق مرة تلو أخرى من الرباط إلى الدار البيضاء ،وحتى بعد اصابته بالكورونا. أما وقد جرى اعتقاله على طريقة “الكاوبوي المصرية” عندنا هكذا، فقد سارعت الى الاستفسار من أصدقاء مشتركين في المغرب، وحمدت الله مرة أخرى أنه ظهر على الفور وأن مكان احتجازه معلوما. صحيح أن التدهور لم يبلغ بعد ما انتهت اليه أحوالنا في مصر المحروسة “بعساكر كامب ديفيد”. لكني أخشى أن يكون أشقائنا في المغرب قد أصبحوا في دائرة الخطر والتدهور إلى الأسوأ بالفعل. وفي زيارة للرباط يناير 2015 استمعت الى طيف واسع من المغربيين يكادوا يجمعون على تأثر بلادهم سلبا بما طرأ على مصر اعتبارا من صيف 2013. وكيف تتلاشى مكتسبات حراك 20 فبراير 2011 المغربي، وبوصفه امتدادا للانتفاضات والثورات العربية التي انطلقت من تونس ومصر، ومعها ما لحق هذا الحراك من انفتاح على صعيد الحريات وتعديلات دستورية ديمقراطية نسبيا.
وقتما كان متاحا في الصحافة المصرية، عدت ونشرت في ”الأهرام” اليومية بالعربية، وأيضا مقالا آخر تم ترجمته الى الفرنسية في ” الأهرام إبدو”، عن حدود تحولات ما بعد 20 فبراير في المغرب وتولي حكومة بقيادة حزب العدالة والتنمية الإسلامي وتضم الحزب الشيوعي التقليدي “التقدم والاشتراكية” في ظل استمرار سلطات القصر الملكي الواسعة على الحكم والحكومة واحتفاظ العاهل المغربي بلقب” أمير المؤمنين”. وهكذا بدت لي المغرب وكأنها مازالت بعيده عن ”الملكية الدستورية”، وكما استخلصت أيضا من زيارة إلى الدار البيضاء فبراير 1999 خلال حكومة التناوب لليساري الراحل “عبد الرحمن اليوسفي”، وكذا من لقاء في منزل الحبيب العائد من عقود المنفى القائد الوطني اليساري الراحل “الفقيه البصري”. وكنت قد تعرفت عليه في القاهرة منتصف الثمانينات في مكتب الراحل “لطفي الخولي” رئيس صفحة ”الحوار القومي “، التي كنت من بين محرريها .
ولقد اختبرت وعمليا في الشارع وفي غضون أيام معدودة تواضع هامش الانفتاح الديمقراطي بمغرب 2015 حين اضطرني صديقي ”المعطي منجب” ـ وكنت تعرفت عليه للمرة الأولى ـ للتنقل معا بين أكثر من مقهى في غضون ساعة واحدة، بعدما تيقنا من مراقبة بوليسية مفضوحة متطفلة لم أجد لها أي مبرر، وحتى أنها دفعتني لموجة من الضحك. والحقيقة أنني لم أكن في حاجة لكثير عناء ووقت لأدرك محدودية المسافة التي قطعها المغرب إلى ديمقراطية وتعددية برلمانية كنا نحسده عليها في مصر وغيرها من المجتمعات العربية منذ التسعينيات. ببساطة غادرت الدار البيضاء 1999 وصور الملك “الحسن الثاني” رحمه الله في كل مكان وعلى كل قطعة وورقة عمله، وعدت إلى الرباط 2015 لأجد صور الملك “محمد السادس” تطل من كل مكان وجدار وفج، وعلى كل قطعة وورقة عمله. وأظن أنني كتب عن هذا بحرية أكبر من “الأهرام” عربيا وفرنسيا في موقع ”أورينت 21″ الإلكتروني الباريسي.
ولست في حاجة لأخبر القارئ عمن هو المؤرخ والمناضل من أجل الحرية ”المنجب معطي“؟، وفي كم مناسبة وكيف تعرض لمضايقات واضطهاد قاده إلى الإضراب عن الطعام غير مرة؟. إذ يمكن مراجعة سيرته وأعماله بما في ذلك كتاباته المهمة عن الشهيد القائد الوطني العالم ثالثي “المهدي بن بركة” واغتياله. لكني أكتفي وعلى نحو خاص وشخصي بالتصريح بفضله أن عرفني على تجربة واحدة من أهم المجلات الثقافية في عالمنا العربي خلال السنوات الأخيرة. وهي “زمان” التي تتناول التاريخ بصيغ صحفية معاصرة مبتكرة حية وجاذبة لقطاع واسع من القراء. ولقد أتيح لي أن أكتب عنها وأهميتها في الصفحة الثقافية بـ”الأهرام” أيضا خلال عام 2016، وهو من مؤسسييها وأحد أعمدتها.
ومن مفارقات اليوم المدهشة أن يظل ”المعطي منجب” في وطنه المغرب، الذي يعشقه ولم يغادره بصفة نهائية. وهذا على الرغم من كل المضايقات والاستهداف، ومع كونه متزوج بفرنسية ومعهما إبنه كانت طفلة جميلة عندما زرت الرباط 2015. أقول من المفارقات المدهشة لأن صديقي الذي أصبح الآن حبيس الملك “محمد السادس” نصحني غير مرة وأنا في تونس بألا أعود إلى مصر على ماهي عليه. بل عرض جادا أن يؤمن للعبد لله سكنا وفرص عمل في الصحافة بلندن. واعتذرت شاكرا، لأنني اخترت أيضا البقاء هنا في مصر ومع ناسها وعلى قاعدة يرتاح اليها ضميري وهي :” أن يجرى لي ما يجرى لهم”.
وعلى بعد آلاف الأميال لا أملك إزاء محنة صديقي إلا أن أقول: أيها الملك اترك ”المعطي” كفاك ما قبضت، ولله وحده ما أخذ وما أعطى.
القاهرة في 30 ديسمبر
*كاتب وصحفي مصري