…. حتى يهدني التعب. (قصة)
لست معنيا بما يدور بينهما من نقاش يبدأ همسا لينتهي بما يشبه المواجهة. لست مهتما بذلك وإن كنت أنا موضوع النقاش. يكفيني أن الوقت الذي يستغرقه ذلك يجعلني أكثر تحررا من سلطتهما. من توجيهاتهما، ومن تكليفي من طرف أحدهما بمهام تافهة. وهو الوقت الذي يجعلني أكثر فتكا بأعدائي الافتراضيين الذين أواجههم بحدة في مثل هذه اللحظات على ألعابي المفضلة من قبيل الفري فاير وPUBG. أفتك بهم، أقتلهم واحدا واحدا. وأكتسح فضاءاتهم بكل حزم وقوة… واصلا نقاشكما… وأنا سأواصل الفتك بأعدائي.
هو يريدني أن أكون أكثر انفتاحا، أن يكون لي أصدقاء، أن أنخرط في لَعِبهم، وفي الكلام معهم. معتقدا أن ذلك سيجعل شخصيتي أكثر اتزانا، وقوة واستقلالية. يتهمها بأنها تدللني أكثر من اللازم. فالتربية حسب فهمه، ليست في تلبية كل طلباتي مع غياب التوجيه. أما هي، فإنها تتهمه بالتقصير، وبتتبع أخبار ميسي ورفاقه أكثر من تتبع أخبار ابنه وتمدرسه، وهو لا يزال في حاجة إلى عناية ومنحه الكثير من الحرية في اختياراته. سيل التهم المتبادلة بينهما، تجعل صوتيهما يرتفعان أكثر فأكثر. ويجعل الحركات تتوالى… تتوالى … وأنا … أفتك بأعدائي.
هو يصر على ضرورة خروجي من المنزل لملاقاة أصدقاء في مثل سني، أتبادل معهم المعارف والتجارب، وأتقاسم معهم اللعب وفترات الفرح. أما هي، فتوضح بألا أحد يفرض علي البقاء في البيت. إضافة إلى أن من هم في مثل سني من المتواجدين على مقربة منا لن يفيدوني في شيء. وربما سيجعلونني أكثر عدوانية. مع الخوف علي من شيء لا أفهمه يجعلها حريصة على بقائي في البيت.
لا أحد تكلم معي في الموضوع، رغم أنني المعني الأول بذلك. لا يهم! فذلك يمنحني فرصة أكثر لإزهاق أرواح العديد من الضحايا، ما دام انشغالهما الذي لا ينتهي بهذا النقاش يجعلها تترك هاتفها بين يدي لأكثر وقت ممكن. ويجعلني، أنا، قاتلا افتراضيا بامتياز.
لا أحد فكر في أن يطلب رأيي من مجمل ما يتداولان بشأنه. أما بالنسبة إلي، فأنا لست مهتما بذلك. هو، حين يتابع على التلفاز مباراة تكون البارصا أحد طرفيها، لا يهتم إلا بميسي ورفاقه. أما هي، فحين تزورها صديقاتها، أو تخرج لقضاء بعض الأغراض أو الذهاب إلى الحمام مثلا، فإنها تتركني ألتصق بقناة تلفزيونية من قنوات الرسوم المتحركة. أغوص في عوالم المنقذ والآليات وكذا كابتن تسوباسا. وحين يلتقيان فيما بعد، يعودان إلى مناقشة موضوعهما المفضل الدي أصبح أزليا.. وأنا أواصل إزهاق العديد من الأرواح، وتستمر المعركة…
مع الوقت، بدأ النقاش يفتر ويفقد بعضا من حدته. لتحضر بدلا عنه متابعة خاصة للتلفزيون. في أجواء يسودها الصمت وتسكنها هواجس ومخاوف. وهكذا أصبح هو أكثر التصاقا بما تقدمه مختلف القنوات من أخبار. أما هي فقد استرجعت لبعض الوقت هاتفها الذي كان وسيلتي للفتك بالأعداء. يبدو أنهما يبحثان عن نفس الأخبار والفرق في الوسيلة ليس غير. أما بالنسبة إلي، فقد أصبحت الضحية المباشرة لهذا التغيير المفاجئ الذي طردني من ساحة معركتي الحاسمة. ومع الوقت، اندمجت مع هذا الوضع الجديد. دون أن ينهي ذلك نقاشهما الذي استمر. لكن بوتيرة أقل. إلا أن الجديد هذه المرة هو اقتناعهما بضرورة إشراكي فيما يدور بينهما، ومحاولة إقناعي بتغيير عاداتي، والخروج من البيت واكتساب صداقات جديدة، دون إهمالي لواجباتي المدرسية طبعا. تكلف هو بالأمر وأنا لم أعلق، واكتفيت بتتبع تعليماته ضاحكا. لدرجة اعتقد معها أنني غير مهتم. لكني في أعماقي قررت أن أجرب. والموعد المناسب هو عطلة نهاية الأسبوع في زيارتهما الأسبوعية لبيت جدتي. فالحي الشعبي هناك يساعد على التجريب. وقد يكون سببا في التغيير المنشود. فالمنازل هناك متقاربة وأبوابها مشرعة. ومن هم في مثل سني، يملؤون الدرب على ضيقه. والأصوات تتعالى من هنا وهناك، واللعب يستمر طوال اليوم.
قطع تفكيري إخباري أن التلفزيون بث خبرا مفاده أن الدراسة ستتوقف ارتباطا بانتشار مرض يصفونه بالوباء. تأكدت أن هذا هو الموضوع الذي أصبح يشغل بالهم في الآونة الأخيرة. وهو ما جعله هو يتسمر أمام التلفزيون. وهي تتمسك أكثر بهاتفها. لا يهم.. ما دمت لن أذهب إلى المدرسة، فقد تكون الفرصة مواتية للتجريب قبل نهاية الأسبوع. وستكون مناسبة لتطبيق وصايا بابا، التي ما هي في واقع الأمر سوى رغبة ملحة تطارد ماما كل حين. سأحاول أن أكون اجتماعيا كما تريد، وأن أمضي وقتا في اكتساب أصدقاء جدد كما تحب. سألعب وألعب وألعب حتى يهدني التعب. سأخطف اهتمام الآخرين الذين يعيرونني بخجلي وصمتي الذي به أواجه تساؤلات جميع من أصادف في حياتي. سأظهر لهم أني قادر على أن أكون ما أريد. فليذهبوا إلى ذلك الحي لأريهم قدراتي في التقارب الاجتماعي… لكن الزيارة تأخرت أكثر مما انتظرت. ولم يتحدثوا في الموضوع نهائيا. وعوض الهاتف وتطبيقاته اللقاءات التي أخلفت موعدها. وهذا مستجد سيؤخر تجريب التغيير المنتظر. هل أسألهم عن موعد الزيارة؟ أم أترك ذلك إلى أن يقرروا ذلك من تلقاء أنفسهم؟ لكن انتظاري طال. وحماسي بدأ يفتر. لا بد أن أذكرهم بالأمر وأحثهم على الإسراع في ذلك……
- بابا ألن نزور جدتي؟؟ حين سنذهب عندها سألعب وأخرج وألتقي أبناء الجيران و……
- لقد أصبح الخروج غير مسموح به. وأصبح من اللازم تجنب مصافحة أي شخص ولا الاقتراب منهم واحترام مسافة الأمان التي يجب أن تفصلك عن أي شخص. الكل الآن يبقى بمنزله. حتى معلمتك ستتصل بك عبر الواتساب لتكلفك بالتمارين ولن تشرح لك الدرس في القسم رفقة زملائك. فقط الواتساب وباقي الوسائل المشابهة هي من ستنوب عن حضورك أمام المعلمة و…و و…
- إذن لا تغيير؟ !!!!!!
قصة ممتعة ومؤلمة لأنها تصور هدا التحول الذي فرض على الناس حتى اصبحوا ملزمين يتجاوز القناعات والقواعد بل ضربها احيانا ليس فقط على مستوى التربية بل حتى في صميم الدين…شكرا كاتبان المبدع عبد ربي على هذا السرد الشيق