العقد النفسية للأحزاب السياسية المغربية


هذا المقال ليس بدراسة علمية، فلن ألبس فيه بذلة الأكاديمي وأنظر بمصطلحات معقدة، وأَوزع الحلول يمينا ويسارا كما يحلو للبعض، وإنما اعتبره عزيزي القارئ مجرد دردشة بيني وبينك، لكنها من طرف واحد، انا سأتحدث، ولك حرية التفاعل مع ما سأقوله؛ أو اعتبرها وكأنك طبيب نفساني وأنا جليسك المريض الذي يفضفض لك.

    يمكنكم الاشتراك في نشرتنا البريدية للتوصل بملخصات يومية حول المقالات المنشورة على الموقع

    الاشتراك في النشرة البريدية

    لا أشك في نفسي كوني أعاني من مرض أو ربما من أمراض نفسية؛ فمن نشأ في هذه الأرض السعيدة، ولك حرية استبدال حرف السين بالتاء، لا يمكن له إلا أن يكون قد راكم مع مرور السنين عقدا نفسية. ولا أخجل من القول أني قد أكون مريض نفسانيا، وقد أكون كذلك فعلا، وهو احتمال قوي مادامت الاحصائيات الرسمية تثبت أن 49,9 ٪ من المغاربة يعانون من أمراض نفسية. وقد سبق لوزير الصحة السابق الوردي أن صرح بذلك في قبة البرلمان، وقال إذا طبقنا ذلك على البرلمان سنجد نصف الحاضرين هنا يعانون من عرض من أعراض الجنون، فضحك الجميع بلا استثناء في “بلادة” وجمود. كيف لا تصاب بالجنون وأنت في مغربنا الحبيب؟ كيف لا تصاب بالجنون ونحن نشاهد المجازر التي تشهدها الديمقراطية بمناسبة التسخينات الأولية لبورصة الانتخابات؟

    أنا أعترف بذلك، أعترف بعقدي النفسية، والاعتراف أول خطوة في الطريق نحو العلاج.

    ماذا تريد أن تقول لنا يا إبراهيم؟ لم لا تدخل في صلب الموضوع؟

    انا كمغربي، ولي الفخر والشرف أن أكون كذلك، وشخصيتي هي جزء من الشخصية المغربية، وامتداد لها، فكيف لي ألا “أدخل” و “أخرج” في الكلام، كما يقال، إن لم أكن مغربيا أصيلا. وهذه إحدى الخصائص المميزة الشخصية المغربية، وهو أنه لا يأتيك بشكل مباشر، ولا يدخل في صلب الموضوع إلا بعد أن يرهقك فكريا، فيحوم ويطوف حول ما يريد إيصاله، مع العلم أن أقرب مسافة بين نقطتين هو الخط المستقيم. لندخل الآن في صلب الموضوع…

    ما هي الأحزاب السياسية بالمغرب؟ وما هي ماهيتها؟

    سنركن على جنب، ونضعه في زاوية مظلمة، الجوانب المفاهيمية والاسقاطات النظرية، لنقول أن الحزب السياسي في المغرب هو تجمع يضم مجموعة من المغاربة. بمعنى آخر، لكي نفهم بنية الأحزاب المغربية، وطريقة اشتغالها على أرض الواقع، يكفي أن نفهم من هو المغربي، عقليته وطبيعة شخصيته، لأن الحزب في نهاية المطاف هو تفاعل بين زمرة من الأشخاص، والقرارات التي يتم اتخاذها، هي انعكاس، شئنا أم أبينا، لمزاجيته وللحظات الانفعالية العاطفية التي يمر بها.

    المغربي على العموم، مع استحضار الاستثناءات، والاستثناء لا يقاس عليه، شخصيته تمتاز بمجموعة من المحددات. المغربي هو إنسان فريد في نَوعه من حيث طبيعة شخصيته المتناقضة، فهو يحمل في داخله طبائع متباينة، مستبدة ومتسامحة، متطرفة وعقلانية، إذ نجد الشيء وبجواره نجد نقيضه أيضا.
    المغربي يحمل الكثير من الخصال الحميدة، ففي جعبته قيم قوية، كالكرم والتضامن، ومد يد المساعدة للآخر عند الحاجة، المغربي اجتماعي بطبعه، له عزة نفس، غيور، يملك من الحمية الشيء الكثير، إلخ. بيد أن شخصيته لها من الخصائص الأخرى التي تنعكس على سلوكه السياسي، وتشكل سببا للصراعات والخلافات العميقة التي تشهدها الأحزاب السياسية.

    فالمغربي معروف عنه عناده، بمعنى “راسو قاسح”، هذه “القسوحية” تدفعه لعدم الاعتراف بأخطائه، يل ويصر على السير قدما في نفس النهج، تأكيدا منه على أنه على الدرب القويم. في قاموس المغربي نادرا ما يستخرج منه مصطلح “سمحلي”، وإذا ما قالها فغالبا، كما يقول المغاربة، من الحنجرة فما فوق، أي ليس نابعا من أعماقه، فهو غير صادق في ذلك لأن أفعاله تكذب أقواله. المغربي على العموم، وهذا يشمل أيضا المحزب، لا يتقبل أن ينتقده الآخر، “شكون كونتي نتا”، لكنه لا يتردد في توجيه سهام النقد للآخرين. بالنسبة له، هو لا يلام، وإنما الخطأ دائما سببه خطأ الآخرين. أما أفكاره، فلا تشوبها شائبة، فهو المنقذ والمخلص، لأن أفكاره واقتراحاته السحرية هي الكفيلة بحل جميع المشاكل الحزبية. ماذا إذا تم رفض تعليماته، خصوصا إذا كان قيادي يتحمل منصب المسؤولية؟

    على العموم لا يتقبل ذلك، ويذهب إلى حد نسف بنية الحزب الداخلية. وهذه خاصية، لاحظتها السوسيولوجية الكولونيالية على مغاربة القرن التاسع عشر، فالمغربي حينما يغضب أو ينتفض في زمن السيبة يبدأ بتكسير بيته الداخلي أولا، قبل بيت جاره.

    هذه النقطة تقودنا للحديث عن غياب ثقافة تدبير الاختلاف داخل الأحزاب السياسية، والتي تعود في شق منها إلى هذا السلوك المتجذر في الشخصية المغربية. فكل اختلاف في وجهات النظر تقود فعلا إلى انشقاق حزبي، لأن كل طرف متشبت برأيه، ولا مجال للتوصل إلى حل وسط. الاعتراف بالخطأ غير وارد، غياب ثقافة التسامح، وتمسك كل طرف برأيه… هي عوامل تكفي لكي تنفجر الأحزاب من الداخل.

    - إشهار -


    من مميزات شخصية المغربي كذلك طبعه الأناني، فهو يقدم دائما، قبل أي شيء آخر، مصلحته الشخصية، على حساب المصلحة العامة. وهذا السلوك يبرز بشكل جلي في تعامله مع الفضاءات العامة، التي لا يعتبرها امتدادا لبيته الداخلي وجزء منه، فيجيز لنفسه القيام في الشارع بما لا يسمح القيام به في بيته. وهذا السلوك متجذر داخل الأحزاب السياسية، فغالبا ما يقدم المتحزب، كل حسب مستواه ومكانته القيادية، مصالحه الخاصة، دون استحضار لمصلحة الحزب، حتى ولو ذهب هذا الأخير إلى الجحيم! المهم ألا يتراجع “حتى ولو طارت معزة”، كما يقول المثل المغربي الدارج.

    من خصائص المغربي أنه ثرثار، يعشق التجمعات التي يكثر فيها القيل والقال، فيسمح لنفسه بجلد الآخرين في غيابهم، وتطرب أذنه لسماع فضائح عوراتهم، حتى وإن كان ما يقال قد أضيف له جناحين، بل أجنحة كثيرة، فتطير الإشاعات والأكاذيب، وتحلق عاليا غي السماء متجاوزة الأقاليم. لقد تحولت أحزابنا السياسية إلى نوادي يكثر فيها الغيبة والنميمة، لغو كثير وفعل قليل، الجميع يننقد، ولكن حين يحين وقت الجد، وقت تحمل المسؤولية، الجميع يتراجع خطوات إلى الوراء، مادامت تلك المناصب من فئة عظام بلا لحم، أما المناصب المهمة ف “أصحابها” متمسكين بها ضاربين عرض الحائط مبدأ التداول السلمي لمناصب المسؤولية والقيادة، وبالتالي فقدت الأحزاب إحدى أهم الغايات التي وجدت من أجلها. إن أول ما اغتيل داخل الأحزاب السياسية هي الديمقراطية الداخلية، فكيف لفاقد الشيء أن يعطيه أو أن يدافع عنه؟

    شخصية المغربي تمتاز كذلك بميلها للمجاملة، التي قد تصل في بعض الأحيان إلى مستوى النفاق. النفاق أصبح ظاهرة سياسية داخل الأحراب. قليلون من يملكون الشجاعة لقول الحقيقة، وهؤلاء يتم محاصرتهم داخل الأحزاب، واقصائهم بشتى الوسائل، ليجدوا أنفسهم خارج النسق الحزبي. الغريب أن نجد من ضمن هؤلاء، الذي خرجوا من تنظيم سياسي معين ليلتحقوا بتشكيل آخر أو بحزب جديد، يخرج من بينهم من يمارس نفس السلوكيات التي كان ينتقدها، فيحيط نفسه هو الآخر بزمرة من المنافقين الانتهازيين.

    َولهذا تحولت الأحزاب إلى أشبه بزوايا تسودها علاقة كعلاقة الشيخ بمريديه، فالقيادي الحزبي، كيفما بلغت درجة مسؤوليته في التنظيم، يحرص على أن يكون محاطا فقط بمؤيديه، وبمن يناصره بمنطق الإغراءات والولاءات، فلا يتقبل على العموم أن يتم انتقاد تجربته، المطلوب الانصياع للتعليمات، والطاعة ينبغي أم تكون عمياء؛ بمعنى آخر، إن لم تكن في صفي فأنت ضدي!

    من مميزات طبيعة شخصية المغربي كذلك عدم ثقته في الآخر وافتراضه سوء النية مقدما في مخاطبه ومحاوره. فالآخر مشكوك في أمره، وعليه دائما أن يثبت حسن نيته وأن يظهر له طيبوبته. الآخر مشكوك في أمره إلى حين أن يثبت العكس، لذلك يجد المغربي الذريعة ليقحم نفسه في خصوصيات الآخرين.

    الآخر مشكوك في تدينه، مشكوك في طريقة توظيفه إن حصل على منصب، مشكوك في طربقة عمله، مشكوك في أمره إن تقدم إليه بطلب، فكل ما يقوم به وواءه هدف ما، فحتى الذي ينخرط في الأحزاب بهدف نبيل، ومستعد للتضحية بوقته وبجهده لأنه حامل لمشروع أو لقضية ما، يجد نفسه في مواجهة هذه العينة من البشر، التي تنظر  إليه بعين الشك والريبة. فالبنسبة لهم ذاك الرجل المناضل، أو تلك المرأة المناضلة، رغم صفاء سريرته وحسن سيرته، لا تحركه سوى أطماع في الحصول على تزكية للترشح للبرلمان مثلا أو لقضاء مآرب معينة. بمعنى آخر، توجد عينة من المغاربة داخل الأحزاب، لا يعجبهم العجب ولا الصيام في رجب، لا يشتغلون ولا يتركون الآخر لكي يشتغل، بل ويحطمون ما تم بناءه؛ وما أكثرهم داخل أحزابنا السياسية.

    هؤلاء هم الذين يتركون الباب مفتوحا لكي ينفذ منه أصحاب “الشكارة” ليحصلوا على التزكيات ضد المناضل الحزبي الملتزم. إن غياب الانسجام داخل هياكل الأحزاب، وغياب الرؤية الاستراتيجية على المدى البعيد داخل هياكلها تعد من بين الأسباب الرئيسية التي تدفع القيادة الحزبية إلى التهافت على الأعيان وأصحاب النفوذ على أمل أن تضمن مقد نيابي. فالأحزاب أصبحت تهتم بالمقاعد أكثر من الأفكار وأصحاب الرؤى وتنشئة الأجيال علي قيم الحداثة والديمقراطية.

    الأحزاب السياسية في المغرب ما هي في الحقيقة سوى نحن، مرآة تعكس طبيعة شخصيتنا وما راكمناه عبر الأجيال من قيم ومن عادات حميدة وذميمة، ومن سلوكيات متوارثة. إن ما تشهد الأحزاب السياسية من مشاكل وأزمات داخلية، ما هي في حقيقة الأمر سوى انعكاس لطبيعة هذه الشخصية المركبة، خصائصها وعقدها النفسية. فالأحزاب الابنة البارة لبيئتها. أحزابنا السياسية لا تشبه في شيء أحزاب السويد أو ألمانيا أو سويسرا؟ لكي تكون كذلك. ينبغي ان يكون لدينا مواطن يتمتع بجميع حقوق المواطنة شأنه شأن المواطن السويدي أو الألماني.

    معضلة الأحزاب السياسية بالمغرب هي معضلة أشخاص، قبل أن تكون مشكلة تنطيم وبنى ورؤى وأفكار. وهي مشاكل ليس لها حل على المنظور البعيد، دون الاستثمار في الإنسان تربية وسلوكا وتكوينا. التغيير والإصلاح يبدأ من الفرد. الكثير من الشباب لهم أحلام وطموحات وردية لتغيير “العالم”، لهؤلاء أقول لهم هو طموح نبيل، لكن ابدأ التغيير بنفسك أولا.

    أعجبك المقال؟ شاركه على منصتك المفضلة..
    قد يعجبك ايضا
    اترك رد

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

    يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد