حين يكتب الحاسوب: الذكاء الاصطناعي يطرق باب الإبداع


يشهد العصر الحديث اندماج الذكاء الاصطناعي في مجالات متنوعة، من أبرزها الكتابة الإبداعية.

 

    يمكنكم الاشتراك في نشرتنا البريدية للتوصل بملخصات يومية حول المقالات المنشورة على الموقع

    الاشتراك في النشرة البريدية

    يهدف هذا البحث إلى دراسة تطور الذكاء الاصطناعي في هذا المجال، وتحليل خصائص النصوص الأدبية المنتَجة بواسطة الخوارزميات، ومقارنتها بالكتابة البشرية، مع التطرق إلى الجوانب الأخلاقية والفلسفية المتعلقة بالإبداع الاصطناعي.

     

    توصل البحث إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكنه إنتاج نصوص ذات جودة لغوية عالية، لكنه يفتقر إلى العمق الشعوري والوعي الذاتي والتجربة الوجدانية، مما يثير تساؤلات جوهرية حول طبيعة الإبداع ومعناه.

     

     

    لقد تجاوز الذكاء الاصطناعي حدود البرمجة الحسابية إلى مجالات لطالما اعتُبرت حكرًا على الإنسان، كالكتابة الأدبية والتعبير الفني. ومع ظهور نماذج لغوية متقدمة مثل GPT، صار بإمكان الآلة توليد نصوص شعرية وسردية شبيهة بإنتاج الإنسان، مما يفتح أفقًا جديدًا للإبداع الرقمي، ويستدعي تساؤلات علمية وأخلاقية حول “إبداع” الذكاء الاصطناعي، وحدود تدخل الآلة في الفعل الثقافي، وخاصة في ما يتعلق بخصوصية التجربة الإنسانية.

     

    أولًا: نشأة وتطور الكتابة الإبداعية بالذكاء الاصطناعي

     

    تعود بدايات هذا المجال إلى محاولات بسيطة في استخدام الحواسيب لتوليد الشعر عبر قواعد لغوية جامدة. لكن مع تطور الذكاء الاصطناعي، وتحديدًا بعد إدخال تقنيات التعلم العميق ونماذج المحولات (Transformers)، بات بإمكان الآلة فهم السياقات النصية، وتوليد محتوى جديد يتجاوز القوالب التقليدية. نموذج GPT (Generative Pre-trained Transformer) طوّره مختبر OpenAI كواحد من أكثر الأمثلة تقدمًا على قدرة الذكاء الاصطناعي في معالجة وإنشاء اللغة الطبيعية.

     

    ثانيًا: خوارزميات الكتابة لدى الذكاء الاصطناعي

     

    تعتمد عملية توليد النصوص الإبداعية على خوارزميات متطورة، منها:

     

    نماذج المحولات (Transformers): تسمح بفهم طويل المدى للنصوص، وتوليد محتوى مترابط.

     

    آلية الانتباه (Attention): تتيح للنموذج التركيز على الأجزاء الأكثر أهمية في السياق.

     

    التعلم المعزز من التفاعل البشري (RLHF): يستخدم لتطوير جودة النصوص بناءً على تقييمات بشرية.

     

    تُدرّب هذه النماذج على ملايين النصوص، مما يمنحها القدرة على محاكاة أساليب متنوعة، وابتكار بنى لغوية متقنة ظاهريًا.

     

    ثالثًا: جودة النصوص الأدبية المنتَجة

     

    عند تحليل جودة النصوص الأدبية الناتجة عن الذكاء الاصطناعي، تظهر النتائج التالية:

     

    الانسجام اللغوي: يتميز النص بسلاسة لغوية، ودقة نحوية ملحوظة.

     

    الافتقار للذاتية: النصوص الاصطناعية تفتقر إلى الإحساس الحقيقي بالتجربة الشخصية.

     

    التكرار والنمطية: تظهر أنماط متكررة، مما يشير إلى اعتماد الآلة على أنماط متعلمة مسبقًا.

     

     

    تشير بعض الدراسات إلى أن القرّاء قد لا يميزون بين نصوص بشرية وأخرى آلية في قراءة أولية، لكن التعمق يكشف غيابًا في الرؤية الجمالية الفريدة.

     

    رابعًا: الحساسية الشعورية والتجربة الإنسانية في الكتابة

     

    تمتاز الكتابة البشرية بقدرتها على تجسيد الحساسية الشعورية، تلك التي تنبع من الألم، الفقد، الفرح، القلق، والذهول الوجودي. الإبداع البشري مرتبط ارتباطًا عميقًا بتجربة المعاناة والشفاء، حيث تتحول لحظات الألم إلى رموز فنية، وتصبح اللغة وسيلة للتعبير عن الجرح والمعنى.

     

    لا يملك الذكاء الاصطناعي هذا البعد؛ فهو لم يشعر بالحزن، ولم يختبر الخوف أو الحب. وهذا ما يجعل الكتابة الآلية خالية من الرنين الشعوري الداخلي الذي يتموضع في أعماق الذاكرة والانفعال.

     

    خامسًا: الكتابة والوعي

     

    ترتبط الكتابة الحقيقية بالوعي الذاتي: وعي الإنسان بذاته، وبالآخر، وبالزمن. وهذا ما يمنح النص الأدبي عمقه الرمزي والوجودي. في المقابل، الذكاء الاصطناعي لا يملك هذا الوعي؛ لا يعرف لماذا يكتب، ولا “يعني” ما يكتبه، لأنه ببساطة لا “يعرف” أو “يشعر”.

    الوعي، بما يحمله من تأمل ومفارقة، هو ما يجعل النص الإنساني حمّالًا لطبقات من المعنى، وهذا ما تفتقر إليه النصوص المولّدة آليًا.

     

    سادسًا: الكتابة والمنطق

     

    الكتابة بالذكاء الاصطناعي تميل إلى البنية المنطقية المتماسكة، إذ تعتمد على تحليل إحصائي للغة، مما يجعل نصوصها واضحة وبسيطة في البنية. لكن الكتابة الإبداعية الحقيقية لا تخضع دائمًا للمنطق الصارم؛ بل تتجاوز القواعد، وتلعب على التناقض، والغموض، والانزياح اللغوي. الإنسان وحده قادر على كسر المنطق لخلق المعنى، لأن الإبداع في جوهره انزياح عن الرتيب والمكرر.

     

    سابعًا: سؤال الإبداع والذكاء الاصطناعي

     

    الإبداع فعل إنساني يرتكز على الوعي، والذاكرة، والخيال، والمعاناة. أما الذكاء الاصطناعي، فهو يعتمد على تحليل المعطيات وإعادة تركيبها بأساليب جديدة. وهنا يظهر السؤال: هل يمكن للآلة أن تُبدع؟

    يرى بعض الباحثين أن الذكاء الاصطناعي لا “يُبدع” بالمعنى الفلسفي للكلمة، لأنه يفتقر إلى النية، والانفعال، والتجربة الشعورية، بينما يراه آخرون “أداة إبداعية” يمكن أن توسّع إمكانات الكاتب البشري دون أن تحلّ محله.

     

    ثامنًا: أخلاقيات الإبداع الاصطناعي

     

    يثير استخدام الذكاء الاصطناعي في الكتابة الأدبية عدة إشكالات أخلاقية:

     

    الملكية الفكرية: هل يمكن نسب النص المنتَج للذكاء الاصطناعي إلى مؤلف بشري؟

     

    - إشهار -

    الشفافية: هل يجب إعلام القرّاء بأن النص مكتوب بواسطة خوارزمية؟

     

    الاقتباس غير الواعي: قد تنتج الخوارزميات نصوصًا تتضمن عبارات من نصوص سابقة دون وعي أو إشارة.

     

     

    تفرض هذه الأسئلة ضرورة وضع أطر قانونية وأخلاقية تواكب تسارع تطور هذه التقنية.

     

    تاسعًا: مقارنة بين الكتابة البشرية وكتابة الذكاء الاصطناعي

     

    تتباين الكتابة البشرية عن الكتابة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي في جوهرها ومقوماتها الإبداعية. فالكتابة البشرية تنبع من الذات الواعية، محمّلة بتجربة شعورية متراكمة، ومرتبطة بالألم والفرح والذاكرة والتاريخ الشخصي. وتتميز بنَفَس فلسفي عميق، وخيال حرّ يتجاوز الواقع نحو الاحتمال، بل وقد تتعمد كسر المنطق لصالح المعنى أو الجمال. أما الكتابة الناتجة عن الذكاء الاصطناعي، فتعتمد على تحليل إحصائي لأنماط لغوية موجودة مسبقًا، وتفتقر إلى الوعي بالذات أو بالعالم، إذ لا تختبر التجربة ولا تشعر، بل تكرّر بشكل مُتقن ما قرأته. ورغم ما تمتاز به من تماسك لغوي وسرعة إنتاج، فإنها غالبًا ما تظل سطحية من حيث الشعور، ومحدودة من حيث الابتكار خارج البيانات التي بُنيت عليها. لذلك، تظل الكتابة البشرية متفردة بقيمتها الشعورية والفكرية، فيما تبقى الكتابة الآلية أداة تُكمل، لا تُعوض، الإبداع الإنساني.

     

    تجارب لروايات كُتبت بالذكاء الاصطناعي

     

    شهد العقد الأخير بروز عدد من التجارب الأدبية التي استخدمت الذكاء الاصطناعي في توليد الروايات، سواء بشكل كامل أو كمساعد في كتابة أجزاء منها.

     

    من أبرز هذه التجارب:

     

    1. 1. رواية “1 the Road”

    أُنتجت هذه الرواية عام 2018 باستخدام نموذج ذكاء اصطناعي يعمل على شاكلة كاميرا تلتقط البيانات أثناء رحلة برية في أمريكا. اعتمدت على مدخلات بيئية حقيقية (مناظر، لافتات، حوارات) لتوليد نص روائي بأسلوب مستوحى من الكاتب جاك كيرواك. جاءت الرواية مجزأة وغير مترابطة بالكامل، لكنها فتحت الباب أمام أسلوب جديد في السرد التلقائي.

     

    1. 2. تجربة GPT-3 في كتابة روايات قصيرة

     

    قام عدد من الكتّاب باستخدام نموذج GPT-3 لتوليد روايات قصيرة من خلال إعطائه بداية سردية أو وصفًا للشخصيات. وقد أنتجت الآلة قصصًا ذات حبكة منطقية وسياق لغوي متماسك، لكن غالبًا ما افتقرت إلى العمق السيكولوجي، والانفعالات العاطفية الدقيقة، وتماسك الحبكة في مراحلها المتقدمة.

     

    1. 3. مشروع “Sunspring”

     

    وهو سيناريو فيلم خيال علمي قصير كُتب بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي (باستخدام خوارزمية LSTM). ورغم غرابة النص، فقد اعتُبر تجربة فنية تلفت الانتباه إلى قدرة الذكاء الاصطناعي على توليد محتوى جديد يتسم بالغرابة والابتكار غير المتوقع، ولو افتقر إلى المعنى الكامل أو القصد الأدبي الواضح.

     

    1. 4. الرواية التعاونية بين الإنسان والآلة

     

    في بعض المشاريع الحديثة، استخدم الكتّاب الذكاء الاصطناعي كشريك في الكتابة، حيث يتم تبادل الفقرات أو التعديلات بين الكاتب والنموذج، ما فتح آفاقًا جديدة لما يُعرف بـ “الإبداع التعاوني بين الإنسان والآلة”. هذه الطريقة تجمع بين وعي الإنسان وتنوع أفكار الذكاء الاصطناعي، مما ينتج نصوصًا هجينة تتسم بالتجريب والتجديد.

     

    مستقبل تجارب الكتابة الإبداعية بالذكاء الاصطناعي

     

    يتجه مستقبل الكتابة الإبداعية بالذكاء الاصطناعي نحو المزيد من التداخل بين القدرات الآلية والطاقات الإنسانية، حيث من المتوقع أن تشهد السنوات القادمة تطورًا في ثلاثة اتجاهات رئيسية:

     

    1. 1. تعزيز الإبداع التعاوني

     

    لن يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي كبديل للكاتب، بل كشريك مبدع يساعد على توليد الأفكار، وتحفيز الخيال، وتحرير النصوص. سيُستخدم كأداة مساعدة في تجاوز “عقدة الصفحة البيضاء”، وتحفيز الكتاب نحو رؤى جديدة غير مألوفة.

     

    1. 2. تخصيص الأسلوب والتجربة

     

    ستصبح النماذج قادرة على تبني أساليب روائية فردية، بل وحتى محاكاة “صوت الكاتب”، مما يمنحها قدرة على التخصيص وفقًا لمزاج الكاتب، أو خلفية القارئ، أو نوع النص المراد إنتاجه، دون المساس بالهوية الإبداعية الخاصة بالكاتب البشري.

     

    1. 3. إنتاج نصوص متعددة الطبقات

     

    مع تطور النماذج اللغوية وزيادة قدرتها على فهم السياق العميق، سيصبح بالإمكان إنتاج نصوص تحتوي على مستويات متعددة من المعنى، بل وربما تداخل بين أنماط سردية وشعرية وفلسفية، ما سيجعل الذكاء الاصطناعي قادرًا على محاكاة بعض مظاهر “الكتابة العميقة”.

     

    1. 4. الأسئلة الفلسفية المستمرة

     

    رغم التقدم التقني، سيظل السؤال الإبداعي الأخلاقي والفلسفي حاضرًا: هل يمكن اعتبار النص المولَّد بالذكاء الاصطناعي إبداعًا حقيقيًا؟ ومن يملك حق التأليف؟ هذه الأسئلة ستتعمق مع دخول الذكاء الاصطناعي في مجالات النشر والتوزيع.

     

    1. 5. ظهور أشكال سردية هجينة

     

    قد تنشأ أشكال جديدة من الروايات، لا تكون مكتوبة بالكامل بلغة بشرية أو آلية، بل هجينة، تتخللها فقرات أو شخصيات تُنتج مباشرة من تفاعل الإنسان مع الذكاء الاصطناعي، مما يؤدي إلى ظهور نمط أدبي جديد: “السرد السيبراني”.

     

    الخاتمة

     

    يبدو أن الذكاء الاصطناعي قادر على إنتاج نصوص إبداعية تشبه إلى حد بعيد النصوص البشرية، لكنه لا يمتلك تجربة الوجود، ولا يعي معاني ما يكتبه، ما يجعله “منتجًا لغويًا” وليس “مبدعًا”. الإبداع الأدبي ليس مجرّد تركيب جمل، بل هو استجابة شعورية، ووعي داخلي، وتجربة فردية فريدة. ومع توسع استخدام هذه التكنولوجيا، يتعيّن على الباحثين والمشرّعين والكتّاب النظر بجدية إلى الأسئلة الأخلاقية والفلسفية التي تفرضها، حفاظًا على جوهر الإبداع الإنساني في عصر ما بعد الحداثة الرقمية.

    أعجبتك المقالة؟ شاركها على منصتك المفضلة
    قد يعجبك ايضا
    اترك رد

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

    يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد