تراجع الكبير… إلى أين؟


يعيش العالم اليوم حالة تراجع مرعب في مجال الحرية، تراجع لا يُقارن بأي تراجع آخر، لأن الحرية هي الأصل الذي يُبنى عليه كل شيء.
كثيرًا ما يُرسم سقف للتقدم، لكن التراجع لا حدود له!
قد يعيد التراجع البشرية إلى ما قبل أولى نسمات الحرية، حيث تُفقد حتى أبسط الحقوق، كأن تبيع بحرية ما ترغب في بيعه، ولو في إطار القانون.
حين تنعدم الحرية، يصبح الأقوى هو من يُملي عليك لمن تبيع وبأية شروط، وقد يُصبح الزبون في موقع سلطة عليك، يدفع إن شاء، ويأخذ دون مقابل إن أراد، مقابل أن “يتكرم” عليك بعدم معاقبتك.
بل قد نرجع إلى عصور العبودية، حيث تُباع الرقاب في أسواق النخاسة، أو إلى زمن الاستعمار، حين كانت الأوطان تُؤسر، والشعوب تُشرَّد، والحكام يُساقون إلى المنافي، والثروات تُنهب بلا رقيب.
وحين يبدأ التراجع دون مقاومة، فلا أحد يستطيع التنبؤ بالمكان الذي سيتوقف عنده… لأنه ببساطة، لن يتوقف من تلقاء ذاته!
في هذا السياق، نشرت المنظمة الأوروبية ECNL هذا الأسبوع تقريرًا لافتًا قالت فيه:
“مع تزايد إغلاق الحكومات للمجال المتاح لعمل المجتمع المدني، وتوسيع رقابة المراقبة، واستخدام الخوارزميات التي تعزز التمييز، أصبحت الحاجة إلى الصحافة الاستقصائية أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى…”
ما يثير القلق أن هذا الكلام لا يصدر عن مراقبين في دولة ترزح تحت الاضطهاد منذ القدم، بل عن منظمة أوروبية تتحدث عن أوروبا نفسها، التي كانت معقل الديمقراطية والحريات، فإذا بها اليوم ذات ديمقراطية مهددة، وتترنّح تحت ضربات صعود اليمين العنصري المتطرف، وخطابات الإقصاء، والتنميط، وإحياء مقولة “الأصيل مقابل الدخيل”، في تهديد صريح للنسيج المجتمعي والصرح الحقوقي اللذان بُنيا عبر قرون.
هذا التراجع الرهيب رصده المفكر الاقتصادي العالمي جوزيف ستيغليتز في كتابه الجديد: “الطريق إلى الحرية: الاقتصاد والمجتمع الصالح”، حيث يربط بين تراجع الحريات وصعود النيوليبرالية، ويوضح أن الحرية لا تعني فقط غياب القمع، بل تعني القدرة الفعلية على تحقيق التعليم، والرعاية الصحية، وفرص العمل بكرامة، والعدالة الاقتصادية. ويحذر من أن النيوليبرالية صنعت حرية زائفة تخدم الأقوياء فقط، بينما تترك الأغلبية في التهميش والضعف.
إن ما نعيشه اليوم ليس مجرد أزمة حقوقية، بل منعطف تاريخي خطير، يتطلب استنهاضًا لضمير الإنسانية وصحوة جماعية للدول والشعوب على حد سواء. لم يعد الصمت مقبولًا، ويوما بعد يوم سيصير مكلفا أكثر.
إن إعادة الاعتبار للقانون الدولي، ومواثيق حقوق الإنسان، لم تعد ترفًا ولا خطابًا نخبويًا، بل صارت ضرورة أخلاقية لحماية العالم من الفوضى والظلم. فهذه الأدوات وُجدت لحماية الضعفاء، لا لتجميل وجه الأقوياء.
لقد أثبت التاريخ أن هناك حاجة لسلام عالمي مستقر، وهذا السلام لا يُبنى بالقوة، أو بالفوضى، بل بالحوار، والتفاهم، والاعتراف بالآخر، والعيش المشترك.
آن الأوان لإعادة إحياء هذه القيم، إن أردنا حقًا تصحيح الأخطاء، بل الخطايا الفجة التي تجري اليوم أمام أعيننا في عالم لم نعد نعرفه، وهي قيم لا بد منها لبناء عالم أكثر عدلًا، وإنسانية، وحرية.

    يمكنكم الاشتراك في نشرتنا البريدية للتوصل بملخصات يومية حول المقالات المنشورة على الموقع

    الاشتراك في النشرة البريدية

    - إشهار -

    أعجبتك المقالة؟ شاركها على منصتك المفضلة
    قد يعجبك ايضا
    اترك رد

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

    يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد