سامير: من صمام الأمن الطاقي إلى رهينة لوبيات الاحتكار

في ظل الضغوط الاقتصادية المتزايدة التي يواجهها المغرب، تبرز قضية مصفاة “سامير” كرمز لتحديات الحوكمة وسوء استغلال الموارد الوطنية. هذه الشركة، التي كانت تُشكل العمود الفقري للأمن الطاقي المغربي، توقفت عن العمل في أغسطس 2015، تاركة خلفها ديونًا هائلة وأسئلة بلا إجابة حول مصير استثماراتها العامة. في الوقت الذي يعاني فيه المواطن المغربي من ارتفاع أسعار المحروقات رغم التراجع النسبي لتكلفة النفط عالميًا، تتزايد الشكوك حول استغلال هذه الأزمة لصالح لوبيات احتكارية تُسيطر على السوق. فما هي جذور هذه الأزمة؟ وكيف تحولت “سامير” من أصل استراتيجي إلى عبء يُثقل كاهل الاقتصاد الوطني؟
1. “سامير”: مسار من الريادة إلى الانهيار
تأسست الشركة المغربية للصناعة والتكرير “سامير” عام 1959، وكانت تُعد واحدة من أكبر المشاريع الصناعية في المغرب، حيث تمتلك:
• مصفاة المحمدية: بطاقة تكرير تصل إلى 6.25 مليون طن سنويًا (125,000 برميل يوميًا)، قادرة على تلبية ما يقارب 40% من الطلب المحلي على المحروقات في أوج نشاطها.
• شبكة تخزين متكاملة: مركز سيدي قاسم المرتبط بخط أنابيب بطول 200 كيلومتر، مع خزانات بسعة إجمالية تزيد عن 2 مليون متر مكعب، مما جعلها مرفقًا استراتيجيًا لتأمين الإمدادات.
• دور اقتصادي حيوي: كانت توفر حوالي 1,000 فرصة عمل مباشرة وآلاف الوظائف غير المباشرة، فضلاً عن مساهمتها في استقرار أسعار المحروقات محليًا.
لكن هذا الإرث الاقتصادي بدأ يتداعى مع تراكم ديون تجاوزت 43 مليار درهم بحلول 2016، نتيجة قرارات إدارية غامضة وتدهور الوضع المالي بعد خصخصتها عام 1997 لصالح مجموعة “كورال” السعودية. توقف الإنتاج أعقبه إعلان التصفية القضائية في مارس 2016، دون أن تُجرى تحقيقات شاملة تكشف أسباب الانهيار أو تحدد المسؤوليات. هذا الإهمال أدى إلى إهدار استثمارات ضخمة كانت مملوكة بنسبة 67.27% للدولة قبل الخصخصة، مما يطرح تساؤلات حول دور الحكومة في حماية الأصول العامة.
2. لوبي المحروقات: هيمنة اقتصادية وسياسية
مع خروج “سامير” من المشهد، أصبحت السوق المغربية للمحروقات تحت سيطرة حفنة من الشركات الخاصة، مثل “أفريقيا” و”توتال” و”شال”، التي تحوّلت إلى لوبي قوي يتمتع بامتيازات استثنائية:
• التسعير غير العادل: بينما انخفض متوسط سعر برميل النفط عالميًا من 99.45 دولار في 2014 إلى حوالي 70 دولار في أبريل 2025 (حسب توقعات وكالة الطاقة الدولية)، ظلت أسعار البنزين والديزل في المغرب مرتفعة عند مستويات 13 درهمًا و11 درهمًا للتر على التوالي، مما يكشف هوامش ربح غير مبررة.
• احتكار موثق: تقرير مجلس المنافسة لعام 2019 وثّق وجود “تواطؤ ضمني” بين الشركات الكبرى لتثبيت الأسعار، مع أدلة على تنسيق يخالف قانون المنافسة رقم 104.12، لكن العقوبات ظلت حبرًا على ورق.
• نفوذ سياسي: تقارير إعلامية مستقلة (مثل تلك الصادرة عن “ليكونوميست” المغربي) أشارت إلى علاقات وثيقة بين قادة هذه الشركات وأطراف نافذة في الحكومة، بما في ذلك دعم مالي لأحزاب سياسية، مما يفسر غياب الإجراءات الرادعة.
• استغلال تحرير السوق: منذ تحرير أسعار المحروقات عام 2015، استفادت هذه الشركات من غياب رقابة فعالة، حيث تتحكم الآن في استيراد وتوزيع 10 ملايين طن سنويًا من المحروقات، دون منافسة محلية.
هذه الهيمنة جعلت المغرب سوقًا مغلقًا تتحكم فيه مصالح خاصة، تتجاوز القوانين وتُعيق أي محاولة لإحياء “سامير” كبديل استراتيجي.
3. التداعيات: اقتصاد تحت الضغط ومجتمع على حافة الانفجار
- إشهار -
تتجاوز آثار أزمة “سامير” الخسائر المادية لتشكل تهديدًا متعدد الأبعاد:
• التضخم المتصاعد: ارتفاع أسعار المحروقات أدى إلى زيادة تكاليف النقل بنسبة 20% خلال الفترة 2020-2024 (حسب المندوبية السامية للتخطيط)، مما انعكس على أسعار السلع الأساسية، حيث بلغ التضخم 5.2% في 2024، وهو الأعلى منذ عقد.
• أمن طاقي مهدد: استيراد كامل احتياجات المغرب من المحروقات جعله عرضة لتقلبات السوق العالمية، كما حدث في أزمة 2022 عندما قفزت تكلفة الاستيراد بنسبة 35% بسبب الحرب الروسية-الأوكرانية.
• البطالة والفقر: توقف “سامير” تسبب في فقدان آلاف الوظائف، بينما ارتفع معدل الفقر إلى 15% في 2024 (تقرير البنك الدولي)، مع تضرر الفئات الوسطى والدنيا بشكل خاص.
• الاحتقان الاجتماعي: تصاعد الغضب الشعبي تجلى في احتجاجات متفرقة، مثل تلك التي شهدتها الدار البيضاء في 2023، حيث ربط المحتجون بين غلاء المعيشة وسياسات تُفضل “اللوبيات” على حساب العامة.
هذه التداعيات تُظهر أن الأزمة ليست مجرد ملف اقتصادي، بل تحدٍ سياسي واجتماعي يتطلب تدخلاً عاجلاً.
4. سبل الحل: بين الإصلاح الشامل ومواجهة المقاومة
للخروج من هذه الأزمة، تتطلب المعالجة رؤية استراتيجية وإجراءات ملموسة:
• إعادة تشغيل “سامير”: دراسة جدوى أجرتها الحكومة في 2018 أكدت أن إعادة التفعيل ممكنة بتكلفة تقدر بـ15 مليار درهم، مع توقعات بتخفيض أسعار المحروقات بنسبة 10-15% وتقليص فاتورة الاستيراد بـ20%.
• تفعيل آليات المنافسة: يجب تمكين مجلس المنافسة من فرض غرامات تصل إلى 10% من رقم معاملات الشركات المخالفة (كما ينص القانون)، مع إلزامها بنشر بيانات التسعير شهريًا لضمان الشفافية.
• محاسبة شاملة: فتح تحقيق برلماني وقضائي في إفلاس “سامير”، مع التركيز على دور المسؤولين الحكوميين ومجموعة “كورال” في إدارة الأزمة، ورصد أي عمليات فساد أو تحويل أموال.
• إصلاح السياسة الطاقية: وضع خطة طويلة الأمد ترتكز على تنويع مصادر الطاقة (مثل تعزيز الطاقات المتجددة التي تغطي 20% فقط من الاستهلاك حاليًا)، مع إنشاء هيئة عليا للرقابة على سوق المحروقات.
• حماية المستهلك: إعادة النظر في تحرير الأسعار لإدخال سقف سعري في أوقات الأزمات، مع دعم القطاعات الحيوية كالنقل والزراعة.
تحقيق هذه الحلول يتطلب إرادة سياسية قوية تواجه مقاومة اللوبيات، التي تستفيد من الوضع الراهن وتسعى لإبقاء “سامير” خارج الخدمة.
أزمة “سامير” ليست مجرد فشل إداري، بل انعكاس لخلل بنيوي في إدارة الموارد الوطنية، حيث تُضحي الأصول الاستراتيجية لمصالح فئوية ضيقة. استمرار هذا الوضع يُهدد الاقتصاد المغربي بمزيد من الهشاشة، ويُفاقم الأزمات الاجتماعية في ظل غياب محاسبة أو شفافية. إن إعادة إحياء “سامير” وكسر هيمنة لوبيات المحروقات ليس خيارًا ترفيًا، بل خطوة حتمية لاستعادة السيادة الطاقية، وتعزيز العدالة الاقتصادية، وضمان الاستقرار الاجتماعي في المغرب.