تراث كارتر وعبث ترامب
توفي الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر أمس الأحد عن عمر ناهز 100 سنة. كارتر، الذي قاد بلاده بين عامي 1977 و1981، ظل ناشطًا في المجال العام من خلال المركز الذي يحمل اسمه، والمتخصص في الدعم الإنساني وحقوق الإنسان ومراقبة سلامة الانتخابات عبر العالم، ومن خلال إصدار الكتب، وإلقاء المحاضرات، والمساهمة في إحلال السلام عبر مختلف بؤر النزاع.
كان كارتر ينتمي إلى الحزب الديمقراطي، لكنه لم يستطع الفوز بولاية ثانية، حيث انتزع الرئاسة منه ممثل هوليوودي لم يكن يُعرف عنه اهتمام بالسياسة قبل ترشحه، وهو رونالد ريغان، سنة 1980. خرج كارتر من البيت الأبيض ومرارة عدم القدرة على إكمال برنامجه تقف في حلقه. (كان شعاره يقول: “استعادة الثقة في الحكومة”). وقد كانت أزمة الرهائن الأمريكيين في سفارة واشنطن في طهران أحد العوامل التي ساهمت في فشله في انتزاع ولاية ثانية من خصمه الجمهوري ريغان، الذي قاد حملة ضد كارتر باعتباره رئيسًا ضعيفًا وغير قادر على الدفاع عن مواطني بلاده في الخارج.
لكن مهندس اتفاقية كامب ديفيد 1978 حاز على جائزة نوبل للسلام سنة 2002 لعمله على إيجاد حلول لأزمات دولية كثيرة.
كان أسلوب كارتر، القادم إلى واشنطن من وسط فلاحي مسيحي محافظ إلى حد ما، قائمًا على:
1. استعادة ثقة الأمريكيين بالحكومة ونخب العاصمة:
كان ذلك خاصة بعد فضيحة “ووترغيت” التي عصفت بنيكسون. (كان الأخير يتجسس على مقر الحزب الديمقراطي، ونشر القصة الصحافي الاستقصائي بوب وودوورد بمساعدة مصدر استخباراتي كان ضميره مستيقظًا ورافضًا للإخلال بالقواعد والقانون. انتهت القصة باستقالة نيكسون خوفًا من إقالته. وهناك فيلم جميل يروي القصة أنصح بمشاهدته تحت عنوان: “All the President’s Men”).
2. الأسلوب الدبلوماسي في حل النزاعات الدولية:
عمل كارتر خلال ولايته على خفض التوتر مع الاتحاد السوفياتي، ولهذا وقع مع بريجنيف معاهدة “سالت 2” للحد من الأسلحة الاستراتيجية، وإن كان قد علقها قبل خروجه من البيت الأبيض ردًا على اجتياح الاتحاد السوفياتي لأفغانستان سنة 1979.
3. الاهتمام بقضية حقوق الإنسان عبر العالم:
كانت هذه القضية تشغل بال كارتر وإدارته، في زمن كانت فيه ورقة حقوق الإنسان تُستعمل ضمن أوراق أخرى للتشهير بالأنظمة الشيوعية السلطوية والحد من نفوذها وانتشارها حول العالم، باعتبار أن “العالم الحر”، الذي تقوده أمريكا، يدافع عن حقوق الإنسان، في حين أن المعسكر الشرقي، الذي يقوده الاتحاد السوفياتي، لا يقيم وزنًا للحقوق والحريات والديمقراطية عبر العالم، رغم الطابع النفعي لهذه السياسة كان دعاة حقوق الإنسان في الأنظمة السلطوية يستفيدون من هذه السياسة عكس ماهو حاصل الآن حيث فوّتت الدول الكبرى قضايا حقوق الإنسان ل ONG ووقفت تتفرج على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وكانّها لا تعنيها وحدة المصير البشري اياً كان هذا البشر .
بعد مغادرته البيت الأبيض، أصبح كارتر أكثر صراحة وحدة في انتقاداته لإسرائيل. في كتابه الشهير “فلسطين: السلام وليس الفصل العنصري” (2006)، شبه الوضع في الأراضي المحتلة بنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وهو ما أغضب قادة اللوبي الصهيوني في أمريكا ودفعهم لمهاجمته. دعا إسرائيل إلى إنهاء الاحتلال والالتزام بحل الدولتين لضمان السلام.
كارتر والتركيز على الأخلاقيات والقيم الإنسانية
4/ عُرف كارتر بتركيزه الكبير على الأخلاقيات والقيم الإنسانية. كان يُعتبر شخصًا مبدئيًا وصادقًا، يركز على قضايا العدالة الاجتماعية والتوازن في العلاقات الدولية. أكسبه هذا النهج احترامًا واسعًا على المستوى الدولي، لكنه واجه أحيانًا انتقادات على المستوى المحلي، بسبب اعتقاد البعض أنه يفتقر إلى الحزم في التعامل مع القضايا الجيوسياسية الكبرى.
5/ كان كارتر معروفًا بإيمانه الديني العميق وتوجهاته الأخلاقية المستمدة من قناعاته المسيحية. وكونه معمدانيًا ملتزمًا، لعب الدين دورًا محوريًا في حياته الشخصية وفي تشكيل مواقفه السياسية.
كان كارتر نموذجًا لقائد يجمع بين الإيمان الشخصي العميق بالدين والاحترام للمبادئ الديمقراطية. كان يعتقد أن الدين يجب أن يكون مصدرًا للقيم الأخلاقية وليس وسيلة للسيطرة السياسية، مع حرصه على احترام الحرية الدينية والتنوع الثقافي في المجتمع.
القضايا المحورية في مسيرته
استعادة الثقة في السياسة والسياسيين، الأسلوب الدبلوماسي والتفاوضي في حل الأزمات، الاهتمام بحقوق الإنسان، قضايا العدالة الاجتماعية، وإيمانه الديني الذي جمع بين الأخلاقية والابتعاد عن السيطرة السياسية وعدم توظيف الدين في كبت الحريات… هذه القضايا الخمس ظهرت أمام عيني وفوق شاشة ذاكرتي عندما سمعت خبر وفاة الرئيس الـ39 لأمريكا، أمس.
أحببت أن أتقاسم هذه النقاط معكم كجزء من إرث الرجل، الذي ترك بصمته على المسرح العالمي ليس فقط كرئيس، بل ككاتب وناشط ومتطوع أممي، سعى للتوسط في العديد من النزاعات. لقد كان مفاوضًا بارعًا أكثر منه رئيسًا تقليديًا للبيت الأبيض.
مقارنة كارتر بترامب
لا يمكن للمرء منع نفسه من مقارنة كارتر بترامب، وكيف انحدرت السياسة في الولايات المتحدة الأمريكية وكيف تغيرت النخب وأمزجة الناخبين. كيف صارت البلاد تنتخب تاجر عقارات فاسد وعنصري ومعطوب نفسيًا، لا يقيم وزنًا لحقوق أو حريات أو إنسانية.
صدق الشاعر البرتغالي ساراماغو عندما قال عن أمريكا: “شعب كبير ينتخب رئيسًا صغيرًا”. لولا قوة المؤسسات والرأي العام والصحافة والإعلام، لكان ترامب قد حول أمريكا إلى دولة من العالم الثالث على مستوى الحقوق والحريات.
توفيق بوعشرين
30/12/2024