التنمر في العصر الرقمي
إن التأثير العميق والمتسارع لمواقع التواصل الاجتماعي بات يشكل إحدى أبرز الإشكاليات التي تواجه الأفراد في عصرنا، خاصة المتعلمين الذين يمثلون شريحة هشة تتأثر بسرعة بهذه المنصات.
لقد تجاوزت وسائل التواصل الاجتماعي دورها التقليدي كوسائط للتواصل والترفيه، لتصبح قوة مهيمنة تُعيد تشكيل السلوكيات، وتُكرس ظواهر تربوية مقلقة كالتنمر، وخصوصًا التنمر السيبراني (الإلكتروني) . هذه الظواهر تُغذي ثقافة العنف، وتعزز من رفض الآخر، وتُهمش قيم الاختلاف، مما يُعمق الانقسام الاجتماعي داخل الأوساط المدرسية ويُضعف أواصر الثقة بين الأفراد.
من خلال تفاعلي اليومي مع المتعلمين ومن موقعي كمختص اجتماعي، أجد من الضروري تسليط الضوء على هذه الظاهرة لفهم أعمق لسلوكيات المتعلمين، إذ ألاحظ أن التنمر، سواء كان جسدي او اللفضي أو إلكتروني، ليس سوى انعكاس لسلسلة معقدة من الخلفيات النفسية والاجتماعية.
فالمتنمر غالبًا ما يكون ضحية إحباط أو شعور بالدونية تم تعويضه بسلوك عدائي، في حين يعاني المتنمر عليه من آثار نفسية قد تمتد لسنوات، تشمل الانطواء، ضعف الثقة بالنفس، وربما الانهيار النفسي. الأخطر أن هذه الظاهرة لا تقتصر على المتعلمين فقط؛ فحتى الراشدين، بما في ذلك الأساتذة، قد يجدون أنفسهم عرضة للوقوع في فخ هذه الظاهرة بطريقة غير مباشرة، مما يُبرز طبيعتها المتشابكة، فيساهمون في انتشارها عبر الأجيال وامتداد تأثيرها إلى كل مكونات المجتمع المدرسي.
الاستهلاك غير الواعي للمحتوى الرقمي يُعتبر من أبرز العوامل التي تُغذي هذه الظاهرة. فالتفاعلات غير المدروسة داخل العالم الافتراضي، والمحتوى المشحون بالعدوانية، يُعيدان تشكيل العلاقات الاجتماعية بطريقة مؤذية. في مواجهة هذه التحديات، يصبح من الضروري استعادة قيم أساسية باتت شبه منقرضة، مثل الصداقة، وثقافة الاعتذار، وقبول اختلاف الآخر. هذه القيم ليست مجرد مفاهيم نظرية، بل أدوات نفسية فعّالة لمعالجة التنمر بجذوره.
الصداقة، على سبيل المثال، تُسهم في توفير بيئة اجتماعية داعمة، تُخفف من مشاعر العزلة والإقصاء التي قد تدفع البعض إلى التصرف عدوانية، أما ثقافة الاعتذار، فهي تعكس مستوى عالٍ من النضج النفسي والاجتماعي، وتُعلم الفرد مواجهة أخطائه والتصالح مع ذاته والآخرين، مما يخلق مساحة للتفاهم بدلاً من الصراع.
البعض قد يرى الحديث عن هذه القيم مجرد طوباوية بعيدة عن واقع المدارس، حيث يبدو أن العنف والصراعات أصبحت أمرًا عاديًا ومقبولًا، لكن التأثيرات المدمرة لهذه الظواهر لا تظهر فورًا، بل تتجلى عندما يُصاب أحد أفراد عائلتنا، أو أبناؤنا، بآثار التنمر او التنمر السيبراني في هذا العالم المفتوح والغارق في التعقيد.
من منظور سيكولوجي، كل سلوك يصدر عن أي فرد ما هو إلا انعكاس لتجارب ماضية وخلفيات نفسية واجتماعية تراكمت عبر الزمن. لذلك، فإن فهم هذه الجذور هو السبيل الوحيد لتقديم حلول جذرية وفعالة. التعليم الواعي، الحوار البنّاء، وتقديم نماذج إيجابية داخل المدرسة هي خطوات ضرورية لتغيير هذا الواقع. علينا أن نعيد تشكيل الفضاء المدرسي ليصبح بيئة حاضنة للتنوع، ورافعة لقيم التعاون والاحترام، بدلاً من أن يكون ساحة للصراعات والعنف.
وبهذا، يمكن أن يتحول الوسط المدرسي إلى فضاء يكرس قيم الإنسانية ويُعيد للمتعلمين/ت تعزيز قدرتهم على التعبير عن ذواتهم بشكل إيجابي وتربوي.
سفيان الرتبي: مختص اجتماعي.