أسبوع تفجر أزمة زواج السلطة بالمال في المغرب
خلال الأسبوع الجاري، تفجر الجدل حول ثلاث قضايا رئيسية، لا يجمع في الظاهر بينها جامع، فالأولى، تخص تصريح رئيس الحكومة السيد عزيز أخنوش في جلسة المساءلة الشهرية في البرلمان، بأن شركة «أكوا» التابعة للهولنديغ المملوكة له، حصلت على صفقة محطة تحلية المياه بالدار البيضاء، والثانية، هي معطيات كشف عنها إحصاء السكان بالمغرب لسنة 2024، والتي تقول بأن نسبة البطالة بالمغرب بلغت 21.3 في المائة في عهد الحكومة الحالية، والثالثة، تتعلق بإقدام مخرج سينمائي مغربي (سعيد الناصري) على بث فيلمه (نايضة) الذي تم رفض تقديم الدعم له من قبل المركز السينمائي، على قناته في اليوتيوب، وتحقيقه نسبة مشاهدة بلغت إلى حد كتابة هذه السطور 18 مليون مشاهدة.
قد تبدو هذه القضايا متباعدة جدا، لكنها في الجوهر، تنشد إلى بعضها البعض، وتتفرع عن مشكلة واحدة بنيوية، تحتاج إلى معالجة عميقة.
تطرح القضية الأولى، معضلة الاقتصاد الكبرى في المغرب، بل في العالم العربي برمته، فإذا كان التكييف القانوني، لما حصل في المغرب يحيل إلى تضارب المصالح، وكيف تستغل السلطة التنفيذية مجسدة في رئاسة الحكومة مواقعها في السلطة من أجل أن توسع قاعدتها الاقتصادية، وتضمن بذلك احتكارها للفرص الاقتصادية، وترسم معادلة خطيرة من ثلاثة أبعاد، أولها استثمار الموقع في السلطة لرسم المساطر القانونية على مقاس مصالح النخب المتنفذة، وثانيها، المتاجرة بالدولة، أي أن النخب المتنفذة، تستغل الحاجيات الاستراتيجيات للدولة (الخصاص في الماء) لتخلق فرصا استثمارية توجهها لمصالحها الخاصة، والثالثة، تحول هذه النخب من مسؤولة عن حكامة هذه الفرص وشفافية الولوج إليها، إلى لعب دور المنافس والحكم، بما يجسد في نهاية المطاف، أزمة زواج السلطة والثروة بالمغرب، بل بكل العالم العربي.
أما القضية الثانية، ففضلا عما أثارته من تضارب الأرقام بين دراسات وإحصائيات المندوبية السامية للتخطيط، وأرقام الحكومة، والأرقام التي أتاحها الإحصاء العام للسكان لسنة 2024، فالسيد المندوب السامي للتخطيط شكيب بن موسى، الذي شغل في حكومة أخنوش الحالية منصب وزير التربية الوطنية والرياضة قبل أن يغادرها في التعديل الحكومي الذي جرى هذه السنة، يقول إن الإحصاء العام للسكان لسنة 2024 يتحدث عن نسبة بطالة بلغت 21.3 في المائة، بينما تقول الأرقام الرسمية بأن الرقم لا يتجاوز 13 في المائة، كما سبق أن صرح بذلك المسؤول السامي السابق عن التخطيط السيد أحمد الحليمي قبل إحالته على التقاعد.
الحكومة شعرت بإحراج كبير، زاد من حدته تصريح آخر من مسؤول كبير في المغرب (والي بنك المغرب) يقول فيه بكل وضوح، بأن بطالة الشباب تجاوزت 50 في المائة، وأن معالجة هذه المعضلة تتطلب زيادة النمو، وتوزيعا
عادلا للثروة
وعلى الرغم من محاولة بعض المسؤولين الحكوميين تفسير الفارق بين النسبتين (13 و21.3 في المائة) وانتقادهم للاستناد إلى أرقام الإحصاء بوصفها مجرد تصريحات لمواطنين، ولا تخضع للمعايير العلمية، فإن هذه الأرقام وضعت الحكومة في أزمة كبيرة، ونسفت أطروحة «الدولة الاجتماعية» التي رفعها الحزب الذي يقود الحكومة، بل نسفت بالكامل أطروحة أن هذه الحكومة جاءت بفرص الشغل، وجاءت لترفع من نسبة النمو وتستبدل الكساد بنشاط اقتصادي كبير، بل جاءت في الواقع، لتؤكد ما سبق الملك محمد السادس أن طرحه ذات خطاب، حين شخص الوضع بكل مأساوية وطرح سؤال: أين الثروة؟ وقال بأن عائدات النمو لا تصل إلى المغاربة.
القضية الثانية إذن، كرست واقع أن كل النشاط الاقتصادي الذي أنتجته السياسات الحكومية، توجه عائداته إلى النخبة المتنفذة، ولا يصل منه شيء إلى المجتمع، وأن هذا ما يفسر أن قاعدة البطالة توسعت بشكل كبير، وأضحت فئة الشباب المستهدف الأول بها.
وإذا كانت القضيتان الأولى والثانية، قريبتين ومشتبكتين، فإن القضية الثالثة، تبدو بعيدة نسبيا، من حيث مجالها (الفن السينمائي) وأيضا من حيث تداعياتها، فالأمر يتعلق بمخرج، صرح بنفسه، بأن مشكلة فيلمه أنه لم ينل الدعم المالي من قبل المركز السينمائي، ولذلك أراد أن يدخل الجمهور كطرف في مواجهة منظومة الدعم التي توجه حسب نظره ونظر كثير من الفنانين الناقمين من الوضع للمحظوظين والمقربين، وبعض المتطفلين على الميدان، ممن يقبلون أن يقتسموا ما يقبضونه من الدعم مع جهات داخل سلطة الإشراف على القطاع السينمائي أو التلفزيوني.
في الواقع كشفت قضية سعيد الناصري، أو ما يسمى بفيلم «نايضة» مشكلة تتعلق بطريقة تدبير القطاع السينمائي بالمغرب، وقد تفجرت بعناوين مختلفة منذ أكثر من سنتين، منها هيمنة المؤثرين على الأعمال السينمائية، وحظوة بعض المخرجين والفنانين في التلفزيون المغربي بقناتيه الأولى والثانية، وعدم استحضار شروط الاحتراف في «الكاستين» وإغراق الأعمال السينمائية بالأقارب غير الأكفاء، وهيمنة شركات إنتاج على منظومة الدعم، وترويج مضامين بعينها في أعمال حظيت بالدعم حتى شاع الربط بين استحقاق الدعم والطرق لموضوعات منافية للقيم المغربية الأصلية.
هذه المشكلة، بالملخص، وضعت منظومة الدعم الحكومي في دائرة الاستفهام: من يتحكم فيها؟ وعلى أي أساس يعطى الدعم؟ ومن هي الشركات المحظوظة التي لا يخطئها هذا الدعم كل سنة؟ وما علاقة القائمين عليها بالسلطة؟ وما الموضوعات التي تتناولها في أفلامها؟ وأسئلة أخرى متشابكة، تعيدنا إلى نقطة البداية، أي علاقة السلطة بالعمل الفني، والتداعيات الخطيرة التي تسببت فيها أزمة حكامة هذا القطاع، وأثرت على مستقبل الفنانين والممثلين، فصاروا يغادرون منطقة التحفظ بشكل جماعي، ويصرحون بكل وضوح عن أشكال الريع المتحكم في القطاع، والذي يهدد مستقبل السينما، ومستقبل الفن برمته، ويهدد مستقبل الفنانين والممثلين الذين لم يعودوا يحلمون بتمثيل أي دور، بعدما سيطر المؤثرون والمتطفلون على الميدان، وملأت الفوضى المكان، وحلت محل الاحتراف والجودة والإبداع.
وهكذا تبين من خلال القضايا الثلاث، أن المشكلة واحدة، مرتبطة بزواج السلطة بالمال، وأن النخب المتنفذة، أضحت توجه العديد من الفرص إما لتوسيع قاعدتها الاقتصادية ولو بالسقوط في لعبة تضارب المصالح (صفقة محطة تحلية المياه بالدار البيضاء) أو توزيع عائدات النمو على المحظوظين بما يسبب توسع نسبة البطالة بالمغرب (أرقام الإحصاء العام للسكان 2024 حول ارتفاع نسبة البطالة) أو بتوجيه منظومة الدعم الذي تقدمه الدولة، لخدمة المحظوظين والمقربين الذين يخدمون مصالح النخب المتنفذة (شركات إنتاج المقربين) أو أطروحاتها الإيديولوجية (تقديم الدعم لمن يكثر الطرق على موضوعات المثلية والدعارة…) أو يدعمون أجندتها السياسية الانتخابية.
بلال اللتليدي؛ كاتب وباحث.