من مستشفى “بيثلم” إلى المستشفى الرقمي للمجانين ” تيك توك ”


في القرن الرابع عشر، كان مستشفى “بيثلم” بلندن من أكثر مصحات الأمراض العقلية فخامة في العالم. فمن الخارج، كان المبنى مزينًا بأعمال فنية رائعة ويضم حدائق جميلة. لكن في الداخل، كان الأمر مختلفًا تمامًا. كانت المجانين تُستخدم لتحقيق أرباح عن طريق تقديمهم كعروض لترفيه لطبقة البورجوازية في العطل والأعياد. وكان الزوار يدفعون رسومًا لرؤية هذه العروض.

    يمكنكم الاشتراك في نشرتنا البريدية للتوصل بملخصات يومية حول المقالات المنشورة على الموقع

    الاشتراك في النشرة البريدية

    في القرن الحادي والعشرين، نجد أوجه تشابه بين مستشفى بيثلم وتطبيق تيك توك. ففي تيك توك، يقوم المجانين الرقميين بتقديم عروض مماثلة لتلك التي كانت تقدمها المجانين في مستشفى بيثلم. فهناك حركات ورقصات وأقوال بهلوانية ومقاطع فيديو مضحكة. ويمكن للمستخدمين الذين يحصلون على عدد كبير من المشاهدات أن يكسبوا المال من خلال ما يسمى بـ “التكبيس”. وهي عبارة عن هدية من العملة الافتراضية التي يمكن استبدالها بأموال حقيقية.

    يمكن اعتبار المجانين الرقميين على تيك توك مثل المجانين في مستشفى بيثلم. كلاهما يُستخدم لتحقيق الأرباح عن طريق تقديم الترفيه للجمهور. ومع ذلك، هناك بعض الاختلافات المهمة بين الاثنين. ففي مستشفى بيثلم، كان المرضى يُجبرون على الظهور أمام الجمهور، بينما في تيك توك يختار الناس الظهور أمام الجمهور بإرادتهم. كما أن مستشفى بيثلم كان مؤسسة رسمية، بينما تيك توك هو تطبيق إلكتروني عام ،كما أن المجانين في مستشفى بيثلم كانوا يُنظر إليهم على أنهم خطرون وغير مرغوب فيهم، بينما على تيك توك، يُنظر إلى المستخدمين الذين يقومون بإنشاء مقاطع الفيديو هذه على أنهم أقل قيمة من المجانين الرقميين الآخرين، ولكن ليس بالضرورة أنهم خطرون أو غير مرغوب فيهم.

    كثير من المجانين الرقميين الذين يحظون بشعبية كبيرة على “تيك توك” هم من الشباب الذين يعانون من مشاكل نفسية. إنهم ينشرون مقاطع الفيديو هذه لجذب الانتباه، ولمحاولة الشعور بالانتماء. هناك العديد من مقاطع الفيديو على تيك توك التي يتم إنشاؤها بواسطة أشخاص يعانون من أمراض عقلية. غالبًا ما تكون هذه مقاطع الفيديو مضحكة أو غريبة، وهي تجذب جمهورًا كبيرًا. ففي القرون الوسطى، كان الجنون يُنظر إليه على أنه شيء مضحك أو غريب. وفي عصرنا الحالي، يُنظر إلى الجنون على أنه شيء مثير للإعجاب أو ناجح.

    ويمكن أن يساعدنا في هذا السياق تحليل الفيلسوف والسوسيولوجي’’ ميشيل فوكو ‘’ في كتابه “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي”، الذي يناقش في أحد فصوله كيفية استخدام المجانين لتحقيق أرباح في العصور الوسطى لصالح المستشفى. ويشير إلى أن المجانين كانوا يُنظر إليهم على أنهم نوع من المهرجين، وكانوا يُستخدمون لإضحاك الناس.

    ويقول فوكو : إن استخدام المجانين لتحقيق أرباح كان شكلًا من أشكال السيطرة الاجتماعية. فكان الهدف من ذلك هو إثبات أن الطبقة البورجوازية هي الأكثر عقلانية وصحة. وكان المجانين يُنظر إليهم على أنهم منبوذون، وكانوا يُستخدمون لإظهار أن الطبقة البورجوازية هي الطبقة الوحيدة التي تستحق أن تكون في السلطة.

    - إشهار -

    إن تطبيق تحليل فوكو على واقعنا من منظوري الشخصي؛ ففي برنامج تيك توك، يتم استخدام الأشخاص الذين يقدمون العروض على أنهم نوع من المجانين. فهم يمارسون سلوكيات غريبة ومضحكة من أجل كسب المال. وتهدف هذه العروض إلى الترفيه ليس فقط للطبقة البورجوازية التي تسيطر على وسائل الإعلام والاقتصاد، بل حتى للطبقة الفقيرة التي تشاهد فقط وتتمنى أن تصبح أحد مجانيين هذا المستشفى، وبذلك فإن استخدام الأشخاص الذين يقدمون العروض في تيك توك لتحقيق الأرباح هو شكل من أشكال السيطرة الاجتماعية. فهدفه هو إثبات أن الطبقة البورجوازية هي الأكثر عقلانية وصحة والأشخاص الذين يقدمون العروض هم في الواقع نوع من المجانين الرقميين. فهم يمارسون سلوكيات غريبة ومضحكة من أجل كسب المال، وهو ما يخدم مصالح الطبقة المسيطرة.

    في ختام هذه الأسطر، بأن جوانب المجتمع المعاصر ومشاكله متداخلة ومترابطة، ولا يمكن فصل أي جانب منها عن الآخر، وعلى الرغم من أن ظاهرة “المجانين الرقميين” هي ظاهرة خطيرة قد بدأت في الآونة الأخيرة إلا أنها تنمو بسرعة، مما يثير مخاوف من أن تصبح مشكلة كبيرة في المستقبل، ففي المثال الذي تم ذكره، نرى أن استخدام الأشخاص الذين يقدمون العروض في تيك توك لتحقيق الأرباح هو شكل من أشكال السيطرة الاجتماعية، وهو ما يرتبط بالطبقة الاجتماعية، حيث أن الطبقة المسيطرة هي التي تستفيد من هذه العروض وتحقق لذاتها نوع من السادية عن طريق طلبات من أجل ربح (التكبيسات)، بينما الطبقة الفقيرة هي التي تستهلكها.

    ولذلك، فإن الوعي بهذه الترابطات هو أمر مهم، حيث أنه يساعدنا على فهم المجتمع المعاصر بشكل أفضل، واتخاذ خطوات فعالة لحل مشاكله.

    سفيان الرتبي
    مختص اجتماعي نفسي.

    أعجبك المقال؟ شاركه على منصتك المفضلة..
    قد يعجبك ايضا
    اترك رد

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

    يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد