اقتحام الكابيتول وبداية عالم ما بعد الزعامة الأمريكية
يدعي عدد من المحللين السياسيين الأمريكيين أن سياسة ترامب الخارجية عملت على تعطيل ما راكمته بلادهم من ترتيبات ومكتسبات سياسية مهمة لمدة ثلاثة أرباع القرن. وتجلى ذلك في انسحابه المفاجئ من الاتفاقيات المبرمة، ومن عضوية بعض المنظمات التي كانت قائمة منذ فترة طويلة؛ بالإضافة إلى تهجماته على حلفاء بلاده، ومساندته لبعض الحكام المستبدين؛ وتغاضيه عن انتهاكات حقوق الإنسان؛ علاوة على إعلانه عن قرارات ومواقف وتغييرات سياسية عبر “تويتر” دون استشارة تذكر. وقد تم ذلك على حساب ما بذل من جهود عالمية لمواجهة تغير المناخ والأمراض المعدية والانتشار النووي والتهديدات الإلكترونية. وبالمحصلة – وحسب رأيهم- فإن كل ما ذكر من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض ملحوظ في نفوذ الولايات المتحدة، لصالح الصين وإيران وروسيا.
ويزعم هؤلاء المحللون أن الأحداث المخالفة للقانون والمتبنية للعنف، التي وقعت في واشنطن يوم 6 يناير الجاري (2021)، في مبنى الكابيتول الأمريكي بعدما رفض ترامب وعشرات الأعضاء الجمهوريين في الكونجرس قبول نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة؛ سيكون لها الأثر الواضح على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وكذلك على الديمقراطية الأمريكية. إن ما حدث أعتبر انتكاسة واضحة، ستمتد عواقبها إلى أبعد من الشواطئ الأمريكية. إن عالم ما بعد أمريكا، عالم لم يعد محددًا بأولوية الولايات المتحدة، ولا بسبب الصعود الحتمي للآخرين بل بسبب ما فعلته الولايات المتحدة في حق نفسها.
العالم كله يشاهد
لطالما أولى العالم اهتمامًا وثيقًا للأحداث التي شهدتها الولايات المتحدة من قبيل حركة الحقوق المدنية، واحتجاجات حرب فيتنام في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ، و”ووترغيت”، والأزمة المالية لعام 2008؛ وكذلك على مدى السنوات الأربع الماضية؛ من مثيل أحداث “شارلوتسفيل”، و مقتل جورج فلويد؛ دون أن ننسى فشل الولايات المتحدة في مواجهة تداعيات الفيروس التاجي.؛ إلا أن حصار واحتلال مبنى الكابيتول – السالف الذكر- كان شيئًا مميزًا، فرئيس الولايات المتحدة، إلى جانب العديد من المؤيدين والعناصر الرئيسية في الكونجرس وفي جميع أنحاء البلاد ، حرضوا على العنف أو نفذوه بهدف تقويض الديمقراطية الأمريكية؛ مع ما رافق ذلك من فشل في تطبيق القانون، مما عزز الأسئلة حول الكفاءة الأمريكية الأساسية.
إن الصور التي تناقلتها وسائل الإعلام من داخل الكابتول عززت شعورا بين الديمقراطيات الحليفة للبلد بأن هناك شيئًا خطيرًا في الولايات المتحدة؛ فالرئيس الذي صوت عليه العديد من الأمريكيين، والذي لم يتمكن من الحفاظ على منصبه، هاجم مؤسسات قضائية وإعلامية مستقلة، ورفض أن يكون مثالًا قويًا في مواجهة جائحة فتاكة للغاية، فانتهك بذلك العديد من أقدم الأعراف السياسية لبلاده. ويخشى هؤلاء المحللون أنه وحتى بعد مغادرة ترامب للبيت الأبيض، فإنه سيبقى على الساحة السياسية، مؤثرا وفاعلا في السياسة الأمريكية.
ونتيجة لذلك، أجمع هؤلاء المحللون على أنه ليس لدى البلدان الحليفة خيار سوى التشكيك في قرارهم بتكليف الولايات المتحدة بأمنهم؛ علما أنه كانت هناك شكوك بالفعل على هذه الجبهة، نتيجة لبعض الإجراءات خلال إدارة أوباما بشكل أقل؛ وبوضوح خلال عهد ترامب. وقد ولدت هذه الشكوك ميلًا أكبر لدى دول أخرى جعلها تمسك أمورها السياسية بأيديها، وتتجاهل التماسات الولايات المتحدة. وتجسد ذلك بشكل واضح في الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا، كالحرب السعودية في اليمن، وتدخل تركيا في سوريا، ودعم أذربيجان في “ناغورنو كاراباخ”، ومعاهدة الاستثمار بين الاتحاد الأوروبي والصين، والكتلة التجارية الإقليمية للشراكة الاقتصادية الشاملة في آسيا.
إن أعمال العنف في مبنى الكابيتول، على وجه الخصوص، ستضعف قدرة الولايات المتحدة على الدفاع عن الديمقراطية وسيادة القانون؛ فالأنظمة “الاستبدادية” مثل الصين تشمت بالفعل، بحجة أن مشاهد الكابتول تثبت تفوق نموذجها، وستؤكد نفاق المسؤولين الأمريكيين عندما ينتقدون الحملة في “هونغ كونغ” أو القمع في “شينجيانغ”. وبالمثل، فإن الحجج ضد انتشار الأسلحة النووية على أساس أن البلدان الأخرى ليست مستقرة أو مسؤولة بشكل كافٍ، تبدو جوفاء عندما يبدو أن القائد الأعلى للقوة النووية البارزة في العالم يفتقر إلى هذه الصفات.
هل أمريكا واعية بذاتها؟
يضيف هؤلاء المحللون أنه حتى في عالم ما بعد أمريكا، تظل قوة الولايات المتحدة ونفوذها جوهريين، وتكاد احتمالات بناء نظام دولي مستقر ومنفتح وفعال منعدمة دون مساهمة أمريكية كبيرة؛ لكن الولايات المتحدة ليست فريدة من نوعها كما يعتقد الكثير من الأمريكيين، بما في ذلك ما تعلق بخطر التراجع الديمقراطي. إن ما حدث يجب أن يضع حداً لمفهوم الاستثناء الأمريكي.
ويدعو هؤلاء المحللون إدارة بايدن المقبلة إلى أن تكون حكيمة، وذلك بتعليق الخطط المعلنة لعقد الاجتماعات الداعية للديمقراطية في العالم حتى يصبح منزل الولايات المتحدة في وضع أفضل. وسيتطلب ذلك اتخاذ بعض الخطوات المباشرة وغير المباشرة، مثل إطلاق هيئة لجنة 11 سبتمبر للتحقيق في كيفية ترك مبنى الكابيتول عرضة للتهديد، وتقديم توصيات لإصلاح الثغرات الأمنية. وفي نفس السياق، أصبح من الضروري أيضًا تقديم أكبر عدد ممكن من الأشخاص المتورطين في هذه الأعمال غير القانونية إلى العدالة، وذلك للتأكيد على أن مثل هذا السلوك له عواقب، وتوجيه رسالة إلى شعوب العالم بأن هذا الانهيار في القانون والنظام لن يُسمح بتكراره.
ورغم ذلك فيجب بذل الكثير من الجهود على المدى الطويل. ويأتي في مقدمتها محاربة ظاهرة عدم المساواة، التي تفاقمت بشكل كبير في فترة الركود الناجم عن وباء الفيروس التاجي. إن عدم القيام بذلك، ستؤدي حتما إلى نشوء وتغذي الشعوبية والراديكالية من اليسار واليمين.
درس قد يستثمر
ويخلص هؤلاء المحللون إلى أن يوم 6 يناير هو بمثابة صدمة مفيدة للجسم السياسي الأمريكي؛ لكن الأزمات لا تؤدي دائمًا إلى التغيير المطلوب؛ رغم ما ثبت تاريخيا من أن صدمة الكساد الكبير هي التي حفزت الصفقة الجديدة، وصدمة “بيرل هاربور” هي التي أنهت الانعزالية الأمريكية. وبناء على ذلك إذا أدى السادس من يناير إلى البحث الجماعي عن النفس والإصلاح الداخلي، يمكن للولايات المتحدة أن تبدأ في استعادة القوة الناعمة والصلبة التي ستحتاجها للمساعدة في إدارة تنافس القوى العظمى ومواجهة التحديات العالمية. فالبديهي أن السياسة الخارجية تبدأ من الداخل. والأكيد أن الولايات المتحدة لن تهيمن على عالم ما بعد أمريكا، لكن هذا لا يعني أنه يجب أن تقوده الصين أو تحدده الفوضى.