الصحافة المغربية من التكميم إلى التأميم


قطاع الصحافة والإعلام كغيره من القطاعات يعيش أسوء فتراته على مستويات متعددة؛ وانحدرت الصحافة المغربية بفعل تنازلاتها وأطماع أصحابها وملاحقة السلطة لبعض رموزها فانتقلت :

من الاستقلالية إلى التبعية:

لقد زينت الجرائد المستقلة التي ظهرت في منتصف تسعينيات القرن الماضي المشهد الإعلامي بأسلوبها الجديد في تناول القضايا الوطنية، وجرأتها في التحليل وشجاعتها في اختيار خط تحريري مستقل، فرغم ما كان يشكله من إزعاج لدى السلطة حينذاك في عهد حكومة عبد الرحمان اليوسفي، خلال فترة حكم الملك الحسن الثاني، إلا أنه كان هناك نوع من التقبل ومحاولة الاحتواء الناعم من طرف السلطة، واستمر هذا النوع من الاحتكاك والتجاذب دون الوصول إلى مستويات المنع والقمع والمتابعات والمحاكمات، إلى أن أصبح الخط التحريري لهذا النوع من الجرايد مزعجًا إلى حد لم يعد يحتمله #العهد_الجديد ، فبدأت حملة التضييق والمتابعات والمحاكمات (أبو بكر الجامعي وعلي لمرابط..)، كما وقع للعديد من جرائد ذلك العهد مثل لوجورنال، دومان وغيرها، الأمر الذي أدى باختيار أصحابها إلى مغادرة المغرب بطريقة أقرب ما تكون إلى #المنفى_الاختياري.

ما نلاحظه الآن، بعد تعدد المتابعات والمحاكمات التي أضحت تلاحق أهم الجرائد المستقلة ومدرائها وصحافييها، كان أخرها وأشرسها جريدة أخبار اليوم واعتقال مديرها الأستاذ توفيق بوعشرين، ورئيس تحريرها الأستاذ سليمان الريسوني، وقبلهما الصحفي حميد المهداوي، أن الخط التحريري لمعظم الجرائد والمنابر الإعلامية أخذت منحى آخر، أبعد ما يكون عن الاستقلالية.. إذا أصبحت جل المنابر تابعة لجهة من الدولة، خاضعة لتعليماتها، مجسدة إرادتها في صفحات الجرائد وأهدافها في تلك المضامين الإعلامية التافهة، والبعيدة كل البعد عن أخلاقيات المهنة ونبلها، وأبعد ما تكون أيضا عن قضايا الوطن الحقيقية.. وأصبح همها هو تلميع وجه الدولة وتيار الكومبرادورية التي يتحلق حولها ومستفيدا من امتيازاتها..

ومن التنوع إلى النمطية:

لقد كانت المنابر الإعلامية، فيما مضى من الزمن الإعلامي الجميل، تتميز بتنوع مواضيعها، وعمق تحليلها، وجرأة تناولها للقضايا الحارقة، سواء اتفقت أو اختلفت معها، كانت تحدث نقاشات قوية في الأندية والمقاهي والجامعات.. تنوعها جمع السياسي بتياراته، والثقافي بتعدده، والفكري بأبعاده، والاجتماعي بتناقضاته، والفني بألوانه.. هذا التنوع الذي يخصب الفكر، وينعش النقاش، ويرفع منسوب الوعي، ويرتقي بالفكر والذوق..

أما الآن، ماذا نجد؟ معظم المنابر والمواقع والجرائد وجهت خط تحريرها، ومجال اهتمامها لأنماط محددة من القضايا؛ الترويج لحكومة أخنوش وتزيين قبحها وبشاعتها، بجميع ويلاتها وزلاتها، التشهير والتركيز على قضايا الجنس والفضائح الاجتماعية والأسرية.. الترويج للفن المائع والثقافة الهابطة… وكل ذلك يندرج في إطار مساعدة الحكومة والدولة من أجل تمييع الذوق والاهتمام بالتافه من القضايا وتخفيض منسوب الوعي لدى المواطنين، فيسهل انقيادهم وتوجيههم الوجهة التي تكون في صالح الدولة كما وقع مع انتخابات 8 شتنبر.

من الرسالية إلى الارتزاق:

كان ذات زمن جميل، أيام كانت للكلمة سلطان، وللجملة قوة، وللعبارة تأثير، حينما اقتربت الصحافة المغربية من مثيلاتها في العالم الديمقراطي الحر، أن تصبح سلطة رابعة، لها وزن وحضور وتأثير.. عندما كان السعي وراء الخبر وليس كما اليوم، الهرولة وراء الدرهم، وكان البحث عن النخبة الثقافية والفكرية والسياسية لأخذ تصريح قوية أو حوار جريء أو مقال رفيع.. وليس كما الآن، تزلف أصحاب الشركات الكبرى ورجالات الدولة وما سقط من أشباه الفنانين وأشباه المثقفين.. كوسيلة ابتزاز صحفية من درجة مرتزق. بطبيعة الحال، هنا لا أعمم، فما يزال هناك صحفيون مبدئيون مناضلون وشرفاء، ولكن للأسف الشديد غلبت عليهم صحافة الارتزاق والابتزاز بشكل كبير، حتى أصبح الصحفيون الشرفاء والنزهاء حالة طاهرة وشاذة في عالم الصحافة المتعفن. في ذلك الزمن الصحفي الجميل، كانت الصحافة رسالة نبيلة ومهمة عظيمة بأخلاق راقية..

إن المنحى الذي اتخذته صحافة اليوم يجعلها أبعد ما تكون عن الشجاعة والموضوعية، وأقرب ما تكون إلى التحيز والتملق لأصحاب المال والنفوذ والسلطة، فأصبح المنتوج الصحفي رديئا وتافها ومضللا في أحايين كثيرة، ومرتهنا لمن يعطي أكثر، من أصحاب المال والسلطة، وأصبح مصطفا بشكل مقزز ومفضوح إلى جانب الفساد المالي والاستبداد السياسي، مبررا كل حملات التضييق والمتابعات والملاحقات والمحاكمات والاعتقالات التي استهدفت صحافيين من بني جلدتهم، أو مدونين أو حقوقيين، أو أي شخص يغرد خارج لحن السلطة والدولة وأصحاب المال والنفوذ بتبريرات سخيفة تبعث على الغثيان والتقيء.

الآن، من التكميم إلى التأميم:

- إشهار -

الآن، وبعد أن أحكمت الدولة قبضتها على الصحافة بصفة عامة، والصحافة المستقلة بصفة خاصة، وبعد أن عملت على تكميم أفوته مجموعة من الأصوات المزعجة والمتمردة ـ حسب تصورها السلطوي ـ والزج بهم في سجون المملكة، أو نفيهم خارجها.. وبعد أن أعطت الدولة بذلك درسا بليغا لجموع الصحافيين وذوي “الرؤوس القاصحة” على وجه الخصوص، وبعد أن اطمأنت أن الساحة السياسية خالية من أي معارضة حقيقية، وأن الساحة الثقافية والفكرية تم إفراغها من الآراء الحرة والنزيهة، وملؤها بنعيق أشباه الفنانين وأشباه المثقفين.. وبعد أن دخل “الكل” إلى مسار الدولة و”طريقها المستقيم” باستعمال وسائل تشويرها، في اتجاه خياراتها وأهدافها.. ها هي الآن تعمل على تأميم قطاع الصحافة بإدخال تعديل جوهري وخطير على القانون رقم 90.13 المحدث للمجلس الوطني للصحافة، ولا سيما المادة 4 التي تعبر عن استقلاليته مؤسسة مستقلة، وتعبر عن حرية اختياراته كمجال أهم ما يجب أن يتمتع به هو الحرية..

وتنص المادة 4 على ما يلي: ” يتألف المجلس الوطني للصحافة من واحد وعشرين (21) عضوا موزعين على النحو التالي:

1) سبعة (7) أعضاء ينتخبهم الصحافيون المهنيون من بينهم مع مراعاة تمثيلية مختلف أصناف الصحافة والإعلام…….. ”

وجاء في الفقرة ما قبل الأخيرة من المادة 5 ” … ينتخب أعضاء المجلس رئيسا للمجلس ونائبا للرئيس من بين ناشري الصحف والصحافيين المهنيين …. ”

فإذا كان القانون الحالي يعطي للصحافيين المهنيين الحق في انتخاب رئيسهم في المجلس الوطني، فإن مقترح القانون الحالي قد صادر لهم هذا الحق، حيث جاء فيه : ” يتألف المجلس الوطني من ثلاثة وعشرين (23) عضوا، من بينهم الرئيس (ة) الذي يعين من قبل جلالة الملك لمدة خمس (5) سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، … ”

ويتضح أن هذا التوجه الذي اتجه إليه المشروع يتناقض مع مذكرة التقديم التي تصاحبه، وذلك بادعاء أن تعيين الرئيس بظهير الغرض منه ضمان استقلاليته عن الهيئات المهنية المشكلة للمجلس، فهل يستقيم هذا مع فلسفة الديموقراطية وحرية الاختيار، إن الذي يضمن الاستقلالية حقيقة هو الانتخاب الحر والنزيه والشفاف، وليس التعيين الذي يفرض بالضرورة التبعية والإذعان للجهة التي تحتكر صلاحية التعيين.

وهذا أيضا بخلاف ما أوردته مذكرة التقديم التي ادعى فيها أصحابها أن هذا المشروع يهدف إلى تقوية صلاحيات المجلس ومنحه اختصاصات جديدة. فأي قوة وأي صلاحية ستصبح لمجلس رئيسه معين وغير منتخب، إن فلسفة التعيين وهدفها الحقيقي هو جعل الشخص المعين تابع غير مستقل، وخاضع غير حر، لا يخضع ولا يحاسب إلا أمام الجهة التي عينه، وهذا لعمري تراجع آخر ينضاف إلى مسلسل التراجعات في مجال الحقوق والحريات، ولا سيما حرية الصحافة وحرية التعبير …

إن هذا المشروع يعد انتكاسة خطيرة همت قطاع الصحافة والإعلام، بإدخاله رسميا إلى بيت الطاعة، وممارسة الوصاية الكاملة عليه، وتجريده من أي استقلالية تنظيمية أو حرية في قراراته واختياراته وتدبير شؤونه الصحفية الخاصة به.

ستنتقل الصحافة مع هذا المشروع من مرتبة السلطة الرابعة إلى مرتبة الزوجة الرابعة التي سيعقد عليها المخزن قرانه داخل قبة البرلمان الذي سيقوم بتوثيقه والإشهاد عليه. وبذلك تدخل الصحافة المغربية إلى عهد التأميم والطاعة شأنها شأن الأحزاب السياسية وباقي القطاعات المستقلة الأخرى بوثيقة ” قانونية “.

عبد المولى المروري

أعجبك المقال؟ شاركه على منصتك المفضلة..
قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد