حقوق الإنسان في المغرب.. بين المطرقة الأوروبية والسندان المغربي


صحيح أن موضوعة حقوق الانسان أصبحت بالنسبة للغرب وأوربا سلعة يتم طرحها أو سحبها من سوق السياسة الدولية حسب العرض والطلب خدمة للمصالح الاستراتيجية ولاجندة الحكومات الأوربية والغربية عموما. بالتالي نجد هذه الحكومات تارة تستنكر وتعاقب من يزدريها من الدول التي تعدها مناهضة لهيمنتها، بل تبرز التفاصيل الدقيقة لخروقات حقوق الإنسان في الدول التي لا تنظر إليها بعين الرضى، اعتمادا على وجهة نظر ثقافية وسياسية غربية دون مراعاة القيم الحضارية والثقافية والروحية لتلك الشعوب والأمم. وتارة أخرى نجدها تلتزم الصمت على ما يحدث من خروقات جسيمة لحقوق الإنسان في فلسطين المحتلة من طرف الكيان الصهيوني الغاصب مثلا. او غيرها من الدول التي تحكمها أنظمة تابعة مذعنة لارادتها. أو ما تنتهجه حكوماتها من انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان بتدخلاتها في شؤون الدول الأخرى الرافضة لهيمنتها. بالإضافة إلى ما تنتهجه من سياسات عنصرية اتجاه المهاجرين المقيمين على أراضيها أو تمييزية بين مواطنيها على اساس العرق او اللون او الدين. بل إن الصمت عن هذه الخروقات يطال حتى التضييق على مجالات حرية التعبير والصحافة داخل هذه البلدان الغربية التي طالما اعتبرت نفسها مهدا للحقوق والحريات .وذلك ضد من ينتقدون أو يعارضون التوجهات السياسية لحكوماتهم .حيث عملت في السنين الأخيرة على إسكات وتهميش الأصوات المعارضة في مقابل تشجيع المطبلين في الصحافة والإعلام وكتاب الرأي الذين يروجون لسياساتها ، والنموذج الصارخ في هذا المجال هو حجب عدد كامل من جريدة لوموند الفرنسية لكونه ففط انتقد الرئيس ماكرون والامثلة في هذا المجال كثيرة .هذا ناهيك عن حجب جميع القنوات الروسية المستقلة والحكومية التي تبث من داخل الدول الاوربية بلغات محلية مختلفة ، حتى لا يضطلع الرأي العام المحلي والاوربي عن وجهة نظر مغايرة لما يتداوله الاعلام العمومي والخاص الغربي حول الصراع الذي تديره أمريكا على الاراضي الاوكرانية بمجهود اقتصادي وحربي اوربي على حساب رفاه شعوبها.

    يمكنكم الاشتراك في نشرتنا البريدية للتوصل بملخصات يومية حول المقالات المنشورة على الموقع

    الاشتراك في النشرة البريدية

    أقول هذا وأنا أقف عند بيان الإدانة لأوضاع حقوق الإنسان بالمغرب الذي أصدره البرلمان الاوربي ، الذي اعتبره حق يراد به باطل لسببين :

    -اولا لان ما يحمله البيان من رصد للواقع المزري لحقوق الإنسان ببلادنا ليس بالجديد بل هو نتيجة صيرورة من الانتهاكات التي طالت كل المجالات الحقوقية بما فيها المدافعين عن حقوق الإنسان وحرية الصحافة والتعبير ،وحق التظاهر السلمي ونشطاء الحركات الاحتجاجية الذين ادينوا بمدد حبسية طويلة وعلى راسهم نشطاء حراك الريف . ان هذه الأوضاع اذن ليست بخافية على النشطاء الحقوقيين المغاربة الذين عملوا على رصدها و فضحها أمام الرأي العام الوطني والدولي . و طالبوا مرارا وتكرارا الحكومات المغربية المتعافبة بأيقافها ،والعمل بدل ذلك على تنقية الأجواء الحقوقية والسياسية عبر إطلاق كافة معتقلي الرأي و إعمال الممارسة السياسية الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان والمقاربة الحقوقية في السياسات العمومية .

    -ثانيا وهو عبارة عن مسائلة للزمن السياسي الذي جاء فيه البيان .
    يمكن ان يقول البعض ان هذا البيان فعلا سيكون داعما للحركة الحقوقية بغض النظر عن توقيته .وأن الاتحاد الأوروبي سيضغط على الحكومة المغربية من اجل اطلاق سراح المعتقلين. واننا كحركة حفوقية لا يمكن الا ان نثمن هذا البيان الذي يمكن ان يساهم في تحسين الوضع الحقوقي في المغرب.
    لكني أقول ان هذا البيان ، و بالحدة التي صيغ به ، جاء متأخرا عن وقته بكثير. لان الحاجة إليه كانت ستكون مفيدة في خضم ما عاشه المغرب من حراكات اجتماعية ومحاكمات غير عادلة للنشطاء ومعتقلي الرأي والصحافة . وان الحسابات التي تحكمت في اصداره حاليا لا تمت بصلة الى ما تظنه الحركة الحقوقية المغربية .خاصة اذا ما استحضرنا ما تشهده العلاقات المغربية من تدهور منذ سنة 2020 عندما عملت الدولة المغربية على التوجه للحضن الامريكي والاسرائيلي بعد الاعتراف التكتيكي لادارة ترامب بمغربية الصحراء في مقابل التطبيع مع الكيان الاسرائيلي. وقبول المغرب لان يصبح بوابة أمريكا على أفريقيا مرورا بالسماح لأمريكا بوضع اليد على ما يكتنزه المغرب من معادن ثمينة ،و نهاية بالمناورات العسكرية السنوية الأمريكية المغربية واستبدال مقتنيات الأسلحة الفرنسية بنظيراتها الأمريكية .وهو التوجه الذي رأى فيه الاتحاد الأوروبي خيانة لشراكة متقدمة كان كلا الطرفين يعتبرها تاريخية بحكم الماضي الاستعماري لكل من فرنسا واسبانيا للمغرب. والعلاقات الوطيدة ببن النظام السياسي المخزني المغربي والدولة الفرنسية التي وقعت معه معاهدة الحماية سنة 1912 واستمرت الى ما بعد الاستقلال ،من خلال وثيقة ايكس ليبان التي لا يعرف جل بنودها الى حد الساعة رغم مرور أكثر من 70 سنة على توقيعها، والتي من جملة ما تضمنته هو حماية المصالح الاقتصادية والثقافية الفرنسية .
    ان التوتر الذي ساد العلاقات المغربية الأوروبية سواء مع اسبانيا او المانيا او فرنسا و خروج الكثير من استثمارات هذه الدول من الفضاء الاقتصادي المغربي، و ادراج المغرب ضمن اللائحة السوداء الأوروبية في ما يخص تبييض الأموال، و رفض فرنسا منح التأشيرات للمغاربة بما فيهم رجال الاعمال والبرلمانيين والأطر المغربية، رغم محاولات المغرب ارضاء هذه الاخيرة عبر تفويت مشروع إنجاز خط القطار السريع الدار البيضاء مراكش للشركة الفرنسية رغم التكلفة الباهظة التي سيتطلبها مقارنة بالعرض الصيني.
    لكن ما زاد من هذه التوترات حدة هو اولا اتهام بعض الدول الأوربية المغرب بالتجسس عليها عبر منظومة بيجاسوس. و ثانيا ما ادعاه البرلمان الأوروبي من تورط للمغرب في عملية افساد الاخلاق السياسية للبرلمانيين الأوروبيين، سواء بإعطائهم رشاوي ،او بتسهيل عملية ارشائهم لصالح أطراف أخرى.
    استحضر هذه المعطيات سواء تلك المتعلقة بالتضييق على الحريات والممارسات العنصرية والتمييزية للحكومات الأوروبية ازاء مواطنيها و المهاجرين المقيمين على اراضيها. وكذلك بالواقع المتردي لحقوق الإنسان بالمغرب .او تلك المتعلقة بتدهور العلاقات المغربية الأوروبية خلال الثلاث سنوات الأخيرة التي تكثف التناقضات من داخل نفس التكتل الغربي خاصة بين اوروبا وامريكا التي تسعى الى بسط نفوذها على دول تابعة ،كانت الى عهد قريب تعد مجال نفوذ حيوي للدولة الفرنسية ودول اوربية اخرى.استحضر كل هذه المعطيات اذن حتى أضع البيان الحالي في سياقه العام الحقوقي والسياسي المرتبط بالتحولات المفصلية في العلاقات الدولية التي تشهد تغيرات كبيرة على مستوى التحالفات والتكتلات، بما فيها التوجه الأخير للمغرب نحو امريكا واسرائيل بدل أوروبا التي تعيش على وقع ازمة خانفة علاقة بالحرب الروسية الأوكرانية ، ينضاف إليه الاتهام الأخير للدبلوماسية المغربية بإفساد العمل البرلماني الاوروبي .و هو ما يحول هذا البيان بما يحمله من مواقف حقوقية صارمة تجاه المغرب ، رغم أحقيتها، إلى بيان تأديبي تتحكمه حسابات سياسية بعيدة عن اي مضمونه او مقاربة حقوقية.
    كما ان وضع بيان البرلمان الأوروبي، في شأن الوضع الحقوقي في المغرب، رغم احقية مضمونه، في السياقات التي ذكرتها ليس من باب تجميل الصورة الحقوقية في المغرب. ولا من أجل الادعاء بأن هذا البيان فيه تجني وتحامل على ما حققه المغرب من انجازات خارقة ! في مجال التنمية والديمقراطية وحفوق الانسان كما ورد في وسائل الاعلام العمومية والمستقلة والحزبية. أو في البلاغ الذي أصدره المجلس الوطني للصحافة. او ما بيان البرلمان المغربي . ولا حتى كذلك من أجل التهجم على دول الاتحاد الاوربي ،او التقليل من اهمية مكتسبات شعوبها الحقوقية ا التي اضحت تشهد في عصر الليبرالية المتوحشة تراجعات في شقها الاقتصادي والاجتماعي و تضييقا ممنهجا على حرية التعبير والصحافة.
    بل من اجل التأكيد على ما سبق ان تطرقت له في الكثير من المقالات ،سواء ما تعلق منها بنقد الوضع السياسي والاقتصادي والحقوقي في المغرب. او تلك المتعلقة بنقد الاستراتيجية المتبعة من طرف الحكومة المغربية في ما يخص علاقات البلاد الخارجية، التي استشعرت من خلالها المخاطر المترتبة عن السياسات العمومية الفاشلة المتبعة في مجال التنمية والممارسة السياسية الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. و كذا في عدم استثمار التحولات العميقة التي تشهدها العلاقات الدولية على خلفية الصراع الاستراتيجي الذي يشهده العالم و تحويله الى فرصة لفك الارتباط مع التبعية السياسية والاقتصادية للغرب الأطلسي وإسرائيل. مع العمل على بناء علاقات متوازنة مع جميع دول العالم في الشرق وفي الغرب بما يصون المصالح الاستراتيجية للشعب المغربي مع كل ما يتطلبه هذا النهج من عمل لاعادة بناء اقتصاد وطني مستقل وقوي قادر على المنافسة في الأسواق العالمية .اقتصاد يؤمن الأمن الغذائي والتنمية المستدامة للشعب المغربي. هذا بالاضافة الى توفير الشروط الدستورية والقانونية لخلق ممارسة سياسية ديمقراطية أساسها ربط المسؤولية بالمحاسبة ،وتنقية الأجواء الحقوقية التي تستوجب إطلاق سراح جميع معتقلي الرأي و الحراكات الاجتماعية .مع الاحترام التام للحقوق والحريات وضمان عدم تكرار الانتهاكات بإعمال مبدأ المساءلة وعدم الإفلات من العقاب .
    ان هذه الإجراءات الواجب اتخاذها بشكل استعجالي هي من ستعمل على تقوية الجبهة الوطنية الداخلية .وهي الكفيلة بالرد عن اي تدخلات من القوى الخارجية وتضمن استقلالية قرارنا الوطني .
    لأن قوة الدول تقاس بمدى سعادة ورفاهية شعوبها ،وعدالة أنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية . وليس بما تمتلكه من أدوات زجرية عقابية ضد مواطنيها، وضد كل من اعترض، او انتقد السياسات العمومية للدولة الغير الشعبية والغير الديموقراطية المنتهكة المنتهكة للحقوق والحريات.او بما تمتلكه من أدوات ومؤسسات تتفنن في التطبيل و قول العام زين ، كما حدث مع النموذج التنموي المغربي الذي بعد ما يقارب العقدين من الزمن من التطبيل مت طرف الاعلام العمومي والخاص ، يقر رئيس البلاد بفشله وضرورة صياغة نموذج تنموي جديد ،وما كان على هذا الاعلام وهذه المؤسسات إلا أن تطبل من جديد.

    - إشهار -

    د.تدمري عبد الوهاب – طنجة في 25 يناير 2023

    إن الآراء الواردة في هذه المقالة، لا تـُعبّر بالضرورة عن رأي موقع "بديل"، وإنما عن رأي صاحبها حصرا.
    أعجبك المقال؟ شاركه على منصتك المفضلة..
    قد يعجبك ايضا
    اترك رد

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

    يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد