تعيين الملك لكل من بنشعبون وبوطيب وسفير وزغنون وصديقي.. التطويق الملكي لأموال صناديق الدولة
عيّن الملك محمد السادس، خلال اجتماع المجلس الوزاري، أول أمس الثلاثاء 18 أكتوبر 2022، محمد بنشعبون، السفير الحالي للمغرب بفرنسا، مديرا عاما لصندوق محمد السادس للاستثمار.
استقدام الملك لمحمد بنشعبون، من باريس إلى الرباط، مع إبقاء منصبه الديبلوماسي فارغا، أعطى بُعدا وازنا للديبلوماسية المغربية، ردّا على عربدة استعمارية لفرنسا، التي تحاول ليّ يد المغرب، حين أعلن قصر الإيليزيه عن تعيين سفيرته في المغرب، هيلين لوغال، نهاية شتنبر الماضي، مسؤولة عن الدائرة الأوروبية للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، دون أن يُعلن عن تعيين بديل لها.
خارج هذا الموقف المغربي السيادي، فإن تعيين محمد بنشعبون يندرج، كذلك، ضمن مخطط ملكي لتطويق مؤسسات مالية مغربية، حتى لا تُستنزف من حكومة عزيز أخنوش، ولتكون من العوامل الأساسية في المراهنة على النهوض بالاستثمار…
ومن أجل فهم أكثر لهذا الرهان، نستحضر التعيينات الملكية السابقة، قبل ثلاثة أشهر، خلال انعقاد المجلس الوزاري ليوم الأربعاء 13 يوليوز 2022، حين عيّن الملك كلا من الوالي خاليد سفير مديرا عاما لصندوق الإيداع والتدبير، والوالي نور الدين بوطيب رئيسا لمجلس الإدارة الجماعية للقرض الفلاحي، وعبد اللطيف زغنون، مديرا عاما للوكالة الوطنية للتدبير الاستراتيجي لمساهمات الدولة وتتبع نجاعة أداء المؤسسات والمقاولات العمومية، وعلي صديقي مديرا عاما للوكالة المغربية لتنمية الاستثمارات والصادرات، زيادة عن وجود وزير للسيادة داخل الحكومة.
كانت عين الملك، في هذه التعيينات، على قضية تشغل باله، هي قضية الاستثمار، وكان الأمل هو أن يلعب رئيس الحكومة الجديد، وهو من كبار المستثمرين، دورا قويا في النهوض بالاستثمار، بيد أن ما وقع، منذ الشهر الأول لـ”قفز” عزيز أخنوش على رئاسة الحكومة، هو الاهتمام بتنمية استثماراته الخاصة، التي جعلته يتصدّر عرش مليارديرات المغرب، و”يقفز” درجات في تصنيف مجلة “فوربيس” الأمريكية لمليارديرات العالم، في حين بقيت قضية الاستثمار في البلاد في أسفل سافلين، فليس صدفة أن يوجّه الملك، في خطاب العرش (30 يوليوز 2022)، دعوة مباشرة إلى “الحكومة والأوساط السياسية والاقتصادية”، من أجل “العمل على تسهيل جلب الاستثمارات الأجنبية، التي تختار بلادنا في هذه الظروف العالمية، وإزالة العراقيل أمامها”، قبل أن يشدد، في إشارات غنية عن البيان، على أن “أخطر ما يواجه تنمية البلاد، والنهوض بالاستثمارات، هي العراقيل المقصودة، التي يهدف أصحابها لتحقيق أرباح شخصية، وخدمة مصالحهم الخاصة. وهو ما يجب محاربته”… وليس صدفة، كذلك، أن الملك، في خطاب افتتاح البرلمان (14 أكتوبر 2022)، عاد إلى طرح قضية الاستثمار، مراهنا على “الاستثمار المنتج”، وعلى “الميثاق الوطني للاستثمار”، الذي ينتظر الملك أن يعطي “دفعة ملموسة على مستوى جاذبية المغرب للاستثمارات الخاصة الوطنية والأجنبية”، قبل أن يستدرك، منبّها كل من يعنيه الأمر، أن هذا الهدف “يتطلب رفع العراقيل”، التي شدد الجالس على العرش على أنها “لاتزال تحول دون تحقيق الاستثمار الوطني لإقلاع حقيقي على جميع المستويات”…
من هنا، نفهم جيدا خلفية التعيينات الملكية الأخيرة، التي تُجسّد، بامتياز، المنحى، الذي رسم خطوطه الملك محمد السادس، لتكون عاملا من عوامل التطويق الملكي لأموال صناديق الدولة، حتى لا يقع تبديها في غير ما هي موجّهة إليه…
نبدأ هذه التعيينات بعلي صديقي، الذي عيّنه الملك مديرا عاما للوكالة المغربية لتنمية الاستثمارات والصادرات، تزامنا مع إخراج ميثاق الاستثمار إلى حيز الوجود، إذ صادق عليه المجلس الوزاري، الذي عُيّن خلاله صديقي، الذي يُعتبر من ضمن الفريق الذي ساهم في إعداد الميثاق، مما سيؤهّله للإشراف على تنفيذه بحرص شديد على أهدافه ومراميه، التي يريد الملك، من ورائها، تحقيق الاستثمار المنتج، من خلال توجيه الاستثمارات نحو القطاعات الإنتاجية ذات القيمة المضافة العالية.
في هذا السياق الملكي، سيأتي، أيضا، تعيين عبد اللطيف زغنون على رأس الوكالة الوطنية للتدبير الاستراتيجي لمساهمات الدولة وتتبع نجاعة أداء المؤسسات والمقاولات العمومية، وبالتالي سيكون عبد اللطيف زغنون عين وأذن الملك في تتبّع مآلات أموال الدولة ومستوى أداء المؤسسات العمومية، التي تتكلّف الكثير منها بأدوار كبيرة في عمليات الاستثمار…
ولنلاحظ أن هذا المنحى سيجسّده، بامتياز، الوالي نور الدين بوطيب، الذي عينه الملك رئيسا جديدا للقرض الفلاحي، فهو منتوج الإدارة الترابية، سواء في خلفيته الدراسية كخرّيج للمدرسة المركزية بباريس، وللمدرسة الوطنية للقناطر والطرق، التي تخرّج منها العديد من المسؤولين الذين تولوا مناصب مهمة في الدولة.
هذا المنحى تفصح عنه الأخبار المتواترة عمّا يقوم به بوطيب داخل القرض الفلاحي، فقد تحوّل هذا البنك إلى خلية نحل تزخر باجتماعات متواصلة للمسؤولين وللجان، وبعمليات افتحاص تشمل، على الخصوص، المشاريع والقروض الكبرى، التي قد يكون استفاد منها أشخاص “محظوظون” وشركات خاصة مقربة من مسؤولين نافذين… وفي خضمّ ذلك، بصم بوطيب منذ البداية على عدد من الإجراءات الصارمة، من إعفاءات وتوقيف عقود مستشارين أشباح ووضع حد لعدد من عقود بعض الشركات المملوكة لأقرباء مدراء بالقرض الفلاحي، والتي كانت تستأثر بصفقات هذه المؤسسة المالية العمومية…
المنحى ذاته سيحكم تعيين الوالي خاليد سفير، مديرا عاما لصندوق الإيداع والتدبير، الذي طالما اعتُبر (الصندوق) بمثابة البقرة الحلوب بالنسبة للدولة… في هذا التعيين، كان مطلوبا من خالد سفير أن يخلع جبّة الوالي، ليشمّر على ساعديه ويكمل مهمة سلفه عبد اللطيف زغنون، لكن بطابع “سفيري”، يُنتظر أن يشكّل قيمة مضافة في مواجهة ما تبقى من اختلالات تخترق بنية وهياكل الـ”سي دي جي”، في مساره، الذي فرّخ العديد من الفضائح، التي أضحت على كل لسان، والتي مازال بعضها تنظر فيه محاكم جرائم الأموال في عدة مدن مغربية…
هذه التعيينات الملكية، التي بصم عليها المجلس الوزاري السابق (13 يوليوز 2022)، تعطي فكرة واضحة عن مرامي تعيين محمد بنشعبون، خلال المجلس الوزاري الأخير (18 أكتوبر 2022)… فبنشعبون، بدوره، نتاج للخلفية التكوينية لكثير من المسؤولين الكبار في الدولة، إذ هو خريج المدرسة الوطنية العليا للمواصلات بباريس، وشغل منصب مدير الاستراتيجية والتنمية ومراقبة التسيير في “ألكاتيل ألستوم المغرب”، كما عُيّن مديرا في إدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة، وفي سنة 2003، عينه الملك في منصب المدير العام للوكالة الوطنية لتقنين المواصلات، قبل أن يُعيّنه، في سنة 2008، رئيسا مديرا عاما لمجموعة البنك الشعبي المركزي.
بنشعبون تولى، كذلك، العديد من المناصب في مؤسسات عمومية وبالقطاع الخاص، سواء في المغرب أو الخارج، قبل أن تٌتوّج مسيرته بموقعين حساسين: منصب وزير الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة، ما بين غشت 2018 وأكتوبر 2021، ليمتص تداعيات فضائح سلفه، محمد بوسعيد، التي جرّت عليه غضب الملك وعرّضته للطرد من الحكومة… وفي دجنبر 2021، عين الملك محمد بنشعبون سفيرا في باريس، في ظرفية أزمة خانقة تمرّ منها العلاقات المغربية الفرنسية، وبلغت ذروتها باستقدامه إلى الرباط، ليتولّى صندوق الاستثمار، الذي استحدثه الجالس على العرش، من أجل تمويل المشاريع الاستثمارية الكبرى، التي من شأنها تحقيق انتعاش اقتصادي مستدام وشامل، في مواجهة تداعيات جائحة كوفيد-19…
“صندوق محمد السادس للاستثمار”، هذه هي التسمية، التي أطلقها عليه الملك، في خطاب افتتاح البرلمان، وخصص له مبلغا أوليا بقيمة 15 مليار درهم، وأعرب عن أمله في أن يقوم الصندوق “بدور ريادي، في النهوض بالاستثمار، والرفع من قدرات الاقتصاد الوطني، من خلال دعم القطاعات الانتاجية، وتمويل ومواكبة المشاريع الكبرى، في إطار شراكات بين القطاعين العام والخاص”…
الصندوق، باعتباره شركة مساهمة خاضعة لما تفرضه أحكام القانون رقم 17.95 المتعلق بشركات المساهمة، هو خاضع لآليات المراقبة والالتزام بمبادئ الشفافية والنزاهة، ويرمي، بحسب بلاغ الديوان الملكي، إلى “إضفاء دينامية جديدة على الاستثمار العمومي بتوجيهه لمشاريع البنيات التحتية والاستراتيجيات القطاعية الطموحة، بما يعزز تنافسية المنتوج الوطني، وتقوية السيادة الوطنية، على المستوى الغذائي والصحي والطاقي”.
وبالنظر لهذه الأهمية القصوى، التي أنيطت بالصندوق، يأتي اختيار محمد بنشعبون، كواحد من كوادر الدولة البارزين، أثبت كفاءته واستقلاليته، في تدبيره لوزارة الاقتصاد والمالية، التي حاول عزيز أخنوش أن “يُديرها” من وراء حجاب لتكون في خدمة مشاريعه واستثمارات مقربيه، مثلما كان يفعل محمد بوسعيد، الذي لم ينفعه رئيسه في إنقاذه من عقاب الملك، فيما بنشعبون كان يمارسها لتكون في خدمة المصالح العامة للاقتصاد ولحاضر ومستقبل البلاد، الأمر، الذي أشعل فتيل حرب شعواء بين أخنوش وبنشعبون…
من كل ما تقدم، يظهر أن تعيين محمد بنشعبون، لا يخرج عن سياق التعيينات الملكية الأخيرة لكل من خالد سفير وعبد اللطيف زغنون ونور الدين بوطيب وعلي صديقي، إضافة إلى تعيينات أخرى، تشترك في كون الأسماء، التي تم تعيينها، تحظى بثقة القصر، وترتبط، بشكل مباشر أو غير مباشر، بالإدارة الترابية، والهدف الأساس هو حماية أموال صناديق الدولة من الاستنزاف والهدر والنهب، من خلال تكثيف وتوحيد جهود هذه الأسماء، كل اسم من زاوية الجهة، التي يقودها، لوضع حد لأي نزيف مالي حاصل أو محتمل، ولتوفير الآليات والإجراءات وكل الشروط الضرورية الكفيلة بتحقيق أهداف ميثاق الاستثمار الجديد، لتحقيق أهداف الملك المنشودة.
وليأخذ هذا الصندوق بُعده التنموي، جاءت مبادرة الملك إلى “تعبئة 550 مليار درهم من الاستثمارات، لخلق 500 ألف منصب شغل، في الفترة بين 2022 و2026″، كما جاء في بلاغ الديوان الملكي، مما يُبرهن على أن وعود عزيز أخنوش الانتخابية بتوفير مليون منصب شغل، هي مجرد أوهام في أوهام، بخلاف ما يردده هنا وهناك “بوق” الحزب محمد غيات، الذي لا يَكِلُّ من الركوب على المبادرات الملكية، وإطلاق الكلام على عواهنه، الذي بات الخاص والعام على علم بأنه كذب في كذب مفضوح…
مراد بورجى
إن الآراء الواردة في هذه المقالة، لا تـُعبّر بالضرورة عن رأي موقع "بديل"، وإنما عن رأي صاحبها حصرا.