نكوصُ العقل العربِي علّة أفولِ لغة العرب
ما الذي يحدث عندما تتوقف أمّة من الأمم عن إنتاج المعرفة العلمية؟ ربما تلجأ إلى اجترار تاريخها وأمجادها أو تنصهر في أحلام اليقظة الضيقة التي تتسلح باللغة لتشكيل معالمها، فتأفل لغتها يوما بعد يوم، وقد تموت لتظهر لغة منافسة، فَتُفْقِدَهَا مكانتها حتى في نفوس المتكلمين بها.
الإنسان مجبول على التواصل، ولا يمكن أن نفترض أفول التواصل الإنساني، بينما يمكن افتراض أفول لغة لصالح لغة أخرى في الأمة الواحدة بله في ريادة العالم وتسيير شؤونه السياسية والاقتصادية.
تمتد علاقة جلّ العرب بلغتهم إلى الرسائل الأولى التي قاموا بخطها لزميلاتهم في الفصل الدراسي، لقد انكبّ معظمهم على اختيار أرقى أبيات الشعر للتعبير عن نزوات طفولية مرتبطة بمرحلة معينة، ماذا لو كان اهتمام العرب بلغتهم مرحليا أيضا، أي: أنهم يعبرون عن قوة العربية وقدرتها على مواكبة التقدّم العلمي في مرحلة معينة، أي: في يومها العالمي، ثم يعودون بعد ذلك إلى سباتهم.
كثيرة هي التصريحات المدافعة عن قيمة العربية الثقافية والبنيوية، عديدة هي المؤسسات والمجامع التي تدعي الدفاع عن العربية، لكن ألا تغدو هذه التصريحات والمؤسسات مجرّد ردة فعل مرحلية تأفل بأفول أسبابها، ما أبعد تلك المؤسسات عن الدفاع عن العربية، فالنيّة وحدها لا تكفي.
ما الذي يتذكره المهندس المعماري والطبيب الجراح من لغته غير تلك الرسائل الغرامية؟ إنّ ما يجعل العربية لغة نزوة طفولية أو خطابات سياسية هو غياب نية الفعل، إننا لا نرغب في تطويرها، نريد أن تكون علاقتنا بها علاقة حميمية، ذكرى طيبة، لحظة سرمدية تحضر لنعبر به عن الحنين والحب والمواساة، الحنين الذي يجعل من الزمن الماضي جميلا رغم مأساويته، والمواساة التي تعيدنا إلى الأصل.
يعيش الإنسان في كنف اللغة، يعبر بها عن حاجاته البيولوجية والفيزيولوجية والسيكولوجية والسوسيودينية، يحلم بها ويغيّر بها مجرى التاريخ، إنّ ما ننتجه من خطابٍ لمؤسس على قدرتنا التواصلية، قدرتنا على إنتاج الكلام وفهمه.
القدرة التواصلية علّة تطور الإنسان وتكيّفه مع الظواهر الطبيعية والاجتماعية التي تحيط به، وهي كذلك منطلقُ إغناء معجم اللغة بمصطلحات جديدة. فلتحقيق الفهم والإفهام يحلل المخاطَب بنى تركيبية معينة ويصوغ المتكلّم جملا لا محدودة انطلاقا من عدد محدود من القواعد التي تسهم بدورها في صياغة المفاهيم والمصطلحات، وذلك بإسهام من التكثيف الدلالي الذي تمتاز به الألفاظ اللغوية، إذ يُنقل اللفظ من دلالته المباشرة والعامة ليحمل دلالة خاصة في سياق معرفي محدد، ما هي الأشياء التي نستعمل فيها قدرتنا التواصلية ؟!
المصطلحات مفاتيح العلوم ولا يمكن تصور نموذج علمي لا يستند إلى جهاز مفاهيمي لبناء إطاريه النظري والتطبيقي، لهذا يتعين على كل باحث عربي في أي حقل معرفي أن يهتم بمصطلحات ذلك الحقل المعرفي قصد الإبانة والتأطير، ذلك أنّ أفول اللغة يأتي من عجزها على مواكبة التقدم العلمي وبناء مصطلحات دقيقة للتعبير عنه.