الولايات المتحدة الأمريكية واستقلال المغرب


ارتبط المغرب في تاريخه بالدول الأجنبية ارتباطا كبيرًا، وهو ما جعل تاريخه معها منذ أقدم العصور تاريخ مواجهات وأزمات وحروب، خاصة وأن موقعه الجغرافي وبعديه الأطلنتي والمتوسطي جعلا منه نقطة تقاطع للمصالح الأجنبية وحلبة صراع بالنسبة لها[1]، غير أن هذا لم يكن دوما تاريخ حروب مادية دموية كما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة حين نسمع كلمة “حرب”، بل إن علاقة المغرب بهذه الدول الأجنبية تخللتها اتفاقيات شراكة وتعاون في المجال الاقتصادي والسياسي على حد سواء. ومن الأمثلة التي تؤكد ذلك علاقة المغرب بالولايات المتحدة الأمريكية التي تربطه بها علاقات تاريخية خارج نطاق “الحرب”، إذ كانت مرتبطة أساسًا بعلاقات اعتراف سياسي متبادل وبعامل اقتصادي أمني يتجلى في الخدمات الأمنية والاقتصادية المرتبطة بالقرصنة. فالعديد من الكتابات الأمريكية التي درست تاريخ العلاقات المغربية الأمريكية تؤكد على أن عامل القرصنة كان المحدد الرئيسي الذي شكل المرحلة الأولى لهذه العلاقات، حيث كانت القرصنة “مصدرا رئيسيا لمداخيل الدولة المغربية، وعاملا مهما في اقتصادها، وكان منح حماية ما من خلال إبرام المعاهدة باهظ الثمن[2]، ففي هذا الإطار تعتبر الكاتبة الأمريكية Luella J. HALL بأن “المسألة الأولى التي أدت إلى ربط العلاقات الدبلوماسية بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية هي القرصنة[3]“. إن القرصنة إذن هي التي شكلت بشكل من الأشكال الإطار التاريخي الأول للعلاقات المغربية الأمريكية. ولهذا يحظى البعد التاريخي في العلاقات المغربية الأمريكية بأهمية بالغة في الخطابات الرسمية لكلا الدولتين، بحيث يكاد لا يخلو أي بيان أو تصريح أو لقاء رسمي من التطرق لهذا البعد[4]. ومع ذلك، ورغم أهمية هذا البعد فإنه لم يحظى بكثير اهتمام في الدراسات والأبحاث بنفس الوثيرة التي حظيت به علاقة المغرب بالدول الأوروبية[5]، مع العلم أن المغرب ظل على الدوام حاضرا في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية منذ استقلالها، حيث يعد أول دولة اعترفت باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1777، ليدخل بالتالي إلى الحوليات التاريخية الأمريكية، خصوصا بعد عقد اتفاقية الصداقة والسلم بين البلدين الموقعة في العام 1786[6]، وبالمقابل فقد ظل الموقف الأمريكي من عقد الحماية الفرنسية على المغرب ملتزما ومحايدًا، بحيث أنها لم تعترف بالحماية الفرنسية على المغرب، ولم توقع أي ميثاق مع فرنسا بشأن المغرب، بالرغم من المحاولات الفرنسية، مما أبقى مسألة الاعتراف الأمريكي بالحماية الفرنسية على المغرب موضوعا معلقا حتى حصول المغرب على استقلاله في أواخر عام 1955.[7]

إن روابط الصداقة المغربية الأمريكية تجسدت في الكثير من المعاهدات والاتفاقيات والشراكات في قطاعات متنوعة، فالمغرب ظل بشكل مستمر حاضرا في الأجندة الأمريكية سواء في علاقتها به مباشرة أو في العلاقات الأمريكية الأوروبية، بل إن المغرب كاد في بعض المناسبات أن يصبح طرفا في قضايا أمريكية كالحرب الأهلية (1851-1865) والحرب الأمريكية الإسبانية على جزيرة كوبا (1896) كما أنه كان مجالا لتطبيق مبدأين من أهم مبادئ السياسة الخارجية الأمريكية؛ وهما مبدأي “مونروMonroe” ومبدأ “الباب المفتوح”، ناهيك عن كونه كان منطقة لأكبر عملية إنزال في شمال أفريقيا ضد دول المحور، وبعدها أصبح واجهة من واجهات الحرب الباردة ضد المد الشيوعي في شمال أفريقيا، وهو إلى الآن يعتبر حليفا استراتيجيا للولايات المتحدة الأمريكية[8].

بعد إعلان الولايات المتحدة الأمريكية استقلالها في 04 يوليوز 1776 بادر المغرب إلى دعم استقلالها الفتي و الاعتراف بها، وقد ساهم هذا الاعتراف في توطيد العلاقات بين البلدين وعززها أكثر عقد مجموعة من الاتفاقيات و المعاهدات، إذ تعتبر معاهدة الصداقة و الملاحة و التجارة التي أبرمت في مراكش في 23 يونيو 1786 من طرف السلطان محمد من جهة ” وطوماس باركلاي” قنصل الولايات المتحدة بباريس من جهة أخرى، أول معاهدة مغربية أمريكية في تاريخ البلدين وقد تم تجديدها لاحقا بمكناس في شتنبر 1836 على يد السلطان المولى عبد الرحمان[9]، وهي المعاهدة التي تتميّز في نظر “جونديميس” المتخصص في علاقات الولايات المتحدة الأمريكية بكونها ” العلاقات المستديمة في تاريخ أمريكا” وقد تضمنت 25  بندًا تتناول مختلف المواضيع: منها إقامة مواطني البلدين، وحرية التجارة، ونظام السفن في الموانئ وفي أعالي البحار، وضبط المعاملات أثناء الحرب بين الطرفين، ومراعاة الحياد في حالة نشوب حرب بين الطرفين ودولة أجنبية أخرى[10].

إن هذه المعاهدة تعتبر أقدم معاهدة من نوعها تبرمها الولايات المتحدة في تاريخها مع بلد أجنبي، وأشار “بيتر فام” أنه في 15 يوليوز 1786، استقبل المبعوث الأمريكي توماس باركلي من طرف مخاطبه المغربي الطاهر بن عبد الحق فنيش، الذي سلمه البروتوكول النهائي لمعاهدة السلام والصداقة بين البلدين. هذا وقد تم في ما بعد توقيع ترجمة معتمدة لبنود تلك الوثيقة من قبل جون أدامس وتوماس جيفيرسون، بصفتهما وزيرين مفوضين، اللذين أصبحا في ما بعد على التوالي الرئيسين الثاني والثالث لجمهورية الولايات المتحدة الأمريكية الفتية، وفي 18 يوليوز 1787 وضع الكونغرس الأمريكي ختمه مصادقا بذلك على المعاهدة المذكورة. وأكد بيتر فام أن “النجاح بعيد المدى للشراكة المغربية-الأمريكية يحمل في طياته دروسا ما تزال صالحة إلى اليوم، في الوقت الذي تسعى واشنطن إلى تمتين الروابط مع البلدان الإفريقية ولاسيما تلك الواقعة على طول الساحل الأطلسي للقارة السمراء”[11].

وفي نهاية القرن التاسع عشر أعلنت الولايات المتحدة رسميا وعلى رؤوس الإشهاد، تضامنها مع المغرب في مواجهة الأطماع الاستعمارية لبعض الدول الأوروبية. وقام الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت حينها بالعديد من الخطوات في هذا الاتجاه، حيث رفض الاعتراف بالحماية الفرنسية في حينها، وبذلك حافظت الولايات المتحدة على الامتيازات الخاصة التي كانت تحظى بها بموجب معاهدة 1836 الموقعة مع المغرب، فرغم مطالبة فرنسا المتكررة لأمريكا بالاعتراف بالحماية، فإن هذه الأخيرة لم تعترف بذلك إلا بتاريخ 20 أكتوبر 1917 بعد دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى[12].

وخلال الأزمة الكبرى 1929-1930 سعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى الحفاظ على سوقها الخارجية عن طريق مدها بإنتاج أكثر نموا، ولم تكن السوق المغربي بمنأى عن ذلك، فما بين 1912و1939 بلورت الولايات المتحدة تدريجيا مبادلاتها مع المغرب، ففي عام 1913 كانت حصتها من الواردات المغربية غير ذات قيمة (0.6 بالمائة من مجموع الواردات المغربية)، وفي عام 1939 انتقل هذا الرقم إلى 5.9 بالمائة، بحيث احتلت الولايات المتحدة المرتبة الثانية بعد فرنسا مباشرة[13]. ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية أصبح المغرب بحكم وضعيته الجغرافية، منطقة حيوية لأمن الولايات المتحدة وحقلا متميزا لبلورة وتطبيق سياسة جديدة إزاء حركات التحرير في العالم الثالث، بل و”صمام الأمان” الذي يضمن كسب الحرب أو خسرانها، وبتعبير الملك الحسن الثاني كما جاء في كتابه التحدي “إن والدي فهم أنه منذ أكتوبر 1940 من سيخسر البحر الأبيض المتوسط سيخسر الحرب”[14].

ورغم أن العلاقات المغربية الأمريكية في فترة ما عرفت ركودا وخاصة بعد توقيع المغرب لمعاهدة الحماية، إلا أنها عادت من جديد لتطفو سنة 1939 على سطح الأحداث، بحيث تم في أواخر سنة 1942 إنزال القوات الأمريكية بالمغرب، وبادر الرئيس “فرانكلين روزفلت” إلى اللقاء بالسلطان محمد الخامس بأنفا بمعية الوزير البريطاني ” ونستون تشرشل”(Winston Churchill) و الجنرال “شارل دوكول”(Charles de gaulle)، وذلك في 22 يناير 1943، وفيه أكد الرئيس الأمريكي للملك “بأن النظام الاستعماري قد عفا عليه الزمن وأن الولايات المتحدة الأمريكية لا تكتفي يوم تضع الحرب أوزارها بدعم استقلال المغرب فحسب، بل ستخصه بمعونات اقتصادية مناسبة. وفي العام 1944 أرسل المغرب وثيقة المطالبة بالاستقلال للولايات المتحدة الأمريكية بقصد حشد تأييدها، فنصحت الولايات المتحدة الأمريكية فرنسا بعد تصاعد العنف في المغرب عام 1955 ضد الاستعمار الفرنسي بأن الحل يجب أن يكون دبلوماسيا عن طريق الحوار وان السلطان (محمد الخامس)  المخلوع سيكون المفتاح الوحيد القادر على تهدئة الوضع. وإزاء هذا الموقف بدأت الحكومة الفرنسية مفاوضات سرية مع السلطان أفضت إلى استقلال المملكة المغربية العام 1965[15]، وبعد حصول المغرب على الاستقلال بادرت الولايات المتحدة الأمريكية لتكون أول دولة تعترف رسميا بالمغرب المستقل وكان ( ديفيث إيزنهاور Eisenhower) أول رئيس دولة يعين سفيرا له في المغرب. وفي العام 1961 تولى الحسن الثاني العرش المغربي خلفا لوالده، فسار على نفس منوال السياسة المتبعة في العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما أدى إلى تعميق التواجد الأمريكي بالمغرب في المجال العسكري والاقتصادي والأمني، إذ تصاعد اعتماد المغرب على الولايات المتحدة الأمريكية في تمويل مشاريعها البنيوية وفي تسليح جيشها وتدريبه خاصة أثناء حرب الصحراء[16].

لقد عبرت الولايات المتحدة غير ما مرة عن دعم استقلال المغرب وتحريره من نيل الحماية الفرنسية، فقد أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية بتاريخ 22 أكتوبر 1952 تأييدها لطرح المسألة بالأمم المتحدة[17] رغم المعارضة التي تبديها فرنسا على الخطوة، وفي سنة 1953 أعلنت الولايات المتحدة رسميا من على منبر الأمم المتحدة دعوتها إلى استقلال المغرب، وأكد سفير الولايات المتحدة “كادو لودج” حينها أمام منظمة الأمم المتحدة أن “ما نريده هنا، هو الإعراب عن الأمل في أن تتجه كل من فرنسا والمغرب نحو تحقيق تطلعات الشعب المغربي”، وهي التطلعات التي تحققت بالفعل سنة 1955 مع حصول المغرب على الاستقلال[18].


[1] بنهاشم محمد، ” العلاقات المغربية الأمريكية:دراسة في التمثيل الدبلوماسي الأمريكي بالمغرب(1786/1912)، دار أبي رقراق،ط2009،ص7.

[2] رحيمي مونية، نزاع الصحراء في إطار السياسة الخارجية الأمريكية، المطبعة السريعة، الطبعة الأولى 2010،  ص 205.

[3] Luella j. hall. The United state and Morocco (1776-1956). The scanecrow Press, INC, mutucheni, N.J.J, 1971.p39.

[4] رحيمي مونية، مرجع سابق، ص، 205.

[5] بن هاشم محمد، مرجع سابق، ص 7.

[6]  حموشة أحمد، “المغرب في السياسة الخارجية الأمريكية بعد 11 شتنبر2001 “، رسالة لنبيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون العام ،جامعة محمد الخامس السويسي-سلا- الموسم الجامعي 2007-2008، ص14

- إشهار -

[7]  الحسوني عبد الكريم، “المغرب في السياسة الخارجية الأمريكية”، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون العام، محمد الخامس أكدال، الموسم الجامعي 2005-2006. ص34

[8] بن هاشم محمد، مرجع سابق، ص 7.

[9] حموشة أحمد، مرجع سابق، ص 10.

[10] نفسه، ص 11.

[11]  ميغل هرناندودي لارامندي، “السياسة الخارجية للمغرب”، ترجمة عبد العالي بروكي، ط، 2005، ص 45.

[12] رحيمي مونية، مرجع سابق، ص، 227.

[13] Luella. J. HALL. IBid. P 39.

[14] Hassan II. “Le défi”. 1976,p30 .

[15] 3 مجيد كامل حمزة، “العلاقات المغربية الأمريكية ما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 وآفاقها المستقبلية”، مجلة المستنصرية للدراسات العربية والدولية، العدد 36، ص 123.

[16] نفسه، ص 136.

[17] رحيمي مونية، م سابق، ص 232.

[18] الحسوني عبد الكريم، مرجع سابق، ص 34.

أعجبك المقال؟ شاركه على منصتك المفضلة..
قد يعجبك ايضا
7 تعليقات
  1. walid allouani يقول

    تحياتي استادي

  2. نبيل يقول

    جميل أستاذ رشيد. بالتوفيق إن شاء الله. 🤝👍👍💪🤗

    1. حمادي يقول

      تحية تقدير وٱحترام أستاذ والزميل رشيد الذي لطالما أبان على رقيه الفكري ،مقال يعتبر إضافة نوعية فمزيدا من الفكر .
      ..

  3. نبيل يقول

    جميل ما شاء الله سي رشيد. بالتوفيق إن شاء الله 🤝👍💪🤗

  4. Awatif hafiane يقول

    مزيدا من العطاء

    1. Insaf Ou يقول

      جميل جدا ما شاء الله. بالتوفيق و المزيد من العطاء.

  5. Insaf يقول

    جميل جدا ما شاء الله . بالتوفيق و المزيد من العطاء .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد