ندوب غائرة في نفوس مالين الحوانت المنكسرة!


مُستمرّاً في نفث سموم الزمن القاهر، لعلّها تشلّ حركة الظّلم، فتصيبه في مقتل! ما فتئتُ أكتبُ من محبرةٍ مدادُها سنواتٌ من العُمر، قضيتُها جاثياً على ركبتاي خلف كونتوار الحانوت، مثل سجينٍ يعجز عن الوقوف، من شدة العقوبات الجاثمة على عاتقه!!

    يمكنكم الاشتراك في نشرتنا البريدية للتوصل بملخصات يومية حول المقالات المنشورة على الموقع

    الاشتراك في النشرة البريدية

    أتـصوّرُ كيف كانت ستبدُو عليه نفسية “مالين الحوانت”، لولا مواقع التواصل التي يفرغون فيها طاقاتهم السلبية! فلا شك أنهم اليوم سيصيرون على أقل تقدير، مع توالي الضغوطات، مثل بالونات قابلة للإنفجار في أي لحظة!!

    لـطالما انشغل “مالين الحوانت” بالتّدَبّر في أدوار غرف وتنظيمات مهنية، وفي مدى انعكاس اشتغالها على المشهد الواقعي لأحوالهم اليومية، حتى يتأكد لهم يوما بعد يوم، مع الهدر المتواصل لفرص نجاتهم من الهواجس المؤرقة لبالهم، أنهم بصدد رعاية مَرَدَة من العالم السّفلي، وَوُحوشٍ خرافية تقتات على أوهامهم بشرهٍ جنوني!!

    فـعندما أقدَمَ البروفيسور الوردي وزير الصحة سابقا على إغلاق ضريح بُويَا عُمر، لم يكن يدرك أو غاب عنه أنّ “مول الحانوت” هو مَن يأوي أكبر عدد من المصابين بجنون تردّي القدرة الشرائية! وهُم أكثر الحمقَى شيوعا وانتشارا حسب إحصائيات كنّاش الـكـريدي!!

    فـلكي يفهم المرء تفاصيل محيط “مالين الحوانت” بشكل أقرب من الواقع المزري الذي يتخبطون فيه، يتعين عليه أن يغطس إلى أعماق القطاع، وأن لا ينتهي عند ذلك الحد فحسب، بل أن يستمر في الغوص إلى أن يخترق ظلمات الدرك الأسفل، المعزولة عن أضواء الشمس بحُجب التهميش، حيث ترقد الكثير من علامات الإستفهام وألغاز مبهمة! تحرسها كائنات شبيهة بديدان البلوط، تمتاز بشفاه طويلة جداً، تجعلها قادرة على رصد أبسط تحرك من مكان بعيد. لديها أسنان وأنياب قادرة على سحق كل شيء يثير انتباهها. فهي تحتاج دوما إلى تناول أيّ شيء، وفي كل وقت، لتبقى قيد حياتها غير قادرة على إغلاق أفواهها الكهفية الممتلئة بأسنان تشبه الخناجر!! ثم ماذا بعد؟

    ثـم بعد ذلك، عليه أن يغادر هذا العالم بشكل مؤقت، يخضع بغرض الإنفصال عنه إلى عمليات تنظيف وتعقيم، يتخلص بموجبها من جميع الشوائب والطفيليات. حينها يشرع في التحليل وفي القياس، بعيدا عن المؤثرات ومختلف أنواع الجاذيية المتشكلة على أساس العوامل المتداخلة في ما بينها، بما فيها القائمة والظرفية والطارئة والمتحولة! ريثما تنضج لديه فكرة أو مشروع ينوي بهما إصلاح الواقع، فيعاود من جديد تكرار نفس المراحل تباعا. الغطس ثم الخروج ثم التحرر، سواء أكان ذلك عند إجراء عملية التجريب، التي لا ينبغي تعميمها على الكل، وإنما اختيار مؤهلين من هذا الكل، تظهر عليهم بوادر التعاون، بهدف خلق نموذج يُقتدى به، أو سواء عند العزم على التنزيل النهائي، الذي لا ينبغي اعتباره بشكل قاطع تنزيلا نهائيا، حتى تتحتدم المنافسة حول الإقبال عليه!

    قـطاع تجارة القرب مجتمع فريد من نوعه، يتميز بمزاج متقلب، يصعب الإقتصار على إصلاحه من الخارج فقط، كما يصعب أيضا الإكتفاء بإصلاحه من الداخل فحسب، ولهذا عجزت غرف وتنظيمات مهنية على المضي بعيدا في هذا المشوار، حتى لا نقول أنها وُلدت بلا طموح من الأصل! لأنها وعلى ما أوتيت من هيلمان، تشفط مجمله بالوعات التبذير، لم تسع قط إلى التدبير المعقلن، لما يمكن اعتباره اللّامنطق، الذي يجمع بين بريق الواجهة وعفونة الباطن، في أبشع مظاهر الشدود العصية على الإستيعاب!!

    - إشهار -

    الـقطاع مُثقل بتراكمات وراثية من جيل لآخر، ومكتظ بالتناقضات فوق المتوقع. واهمٌ من يتصور إصلاحه بمحض إرادة فردية دون بلوغ الجماعية، وبهلوان متنكر في زيّ عارف من يراهن على أجهزة التحكم عن بعد لإخراجه من وحل العشوائية. ولذلك بقيَ متروكا للوقت وللظروف! مع أن الوقت لا يرحم، كما أن الظروف تطرأ وتتحول بدون سابق إنذار!!

    أمـور شتى تطوّرت في القطاع بحُكم إكراهات باطنية، تمخضت عنها حلول فطرية من رحم المعاناة، وأمور أخرى سادت، وصمدت، فتطورت معها مناعة تقاوم إلى حد اليوم ضروريات خارجية، إكتسبت مع الوقت ظاهر المحضورات المحيطة من الخارج. ولأن الطبيعة لا تقبل الفراغ، لا تتوقف الظروف عن تغيير جلودها باستمرار، وكل فكرة كانت قابلة للتحقيق بالأمس القريب عن يُسر، تصبح في الغد الوشيك قانونا مفروضا بلا مشاورات، لا يُعذر الجاهل به، ولا يُحمَى الغافل عنه، بل الجميع سواسية مسؤولون في ظل هذا القانون، سواء تعلق الأمر بمَن صنعه على المقاس لغرض في نفس يعقوب أو مَن سوّق له عن دراية أو عن جهل، فضلا عن المقصود به، وهو إما في حالة شرود دائم أو على الهامش دون جدال!!

    مـا أعمقها ندوب، تلك التي يُخلفها الظلمُ غائرةً في النفوس المُنكسرة، وما أقساها صورة، تلك التي يُناول فيها لزبنائه من خلف القضبان فاقدُ الشيء كل شيء، بينما يظل هو قابعا بزنزانته، لا يبارحها إلا محمولا على نعش. وإذا حالفه الحظ يأتيه الإفراج الأبدي قدرا مكتوبا، فيُشيع مباشرة إلى المقبرة، ثم يدفن مكرما، يواري جثمانه النسيان. فقد أضحى السوق أشبه ما يكون بحقول مزروعة بالألغام، مفخخة بلا سياجات تثير الحيطة والحذر، لا يكاد يخلو فيها ركن من قنبلة إفلاس مدفونة!

    مـا أغرب مصير مول الحانوت، كل ما حوله أو ما يُعتقد أنه يُنسب إليه أو مرتبط به، يكاد يكون بلا قيمة، أصوله مبعثرة يجمع شتاتها حول أضحية على رأس كل عيد! لسانه مربوط بحرف لخص ثراته في لوحات فلكلورية! أما تجارته فحكايات من الصدف الماضية بلا عودة، ليس فيها مضارع ينحو أو يقتفي الأثر، ولا مستقبل في الأفق يبدو أو يفتح شهية السفر!

    الكاتب: الطيب آيت أباه من تمارة

    عضو سابق بغرفة التجارة والصناعة والخدمات لجهة الرباط سلا القنيطرة..

    أعجبك المقال؟ شاركه على منصتك المفضلة..
    قد يعجبك ايضا
    اترك رد

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

    يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد