محمود درويش يخص مارادونا بمقال مثير
في هذا المقال المثير للشاعر الراحل محمود درويش وكأنه يرثي مارادونا، الذي ودع العالم يوم الأربعاء 25 نونبر الجاري.
المقال نشره الشاعر الفلسطيني على مجلة اليوم السابع المصرية سنة 1986 قبل أن تعيد نشره جريدة ” الخبر” اللبنانية”.
وهذا نص المقال كاملا:
1- ماذا فعلت بالساعة، ماذا صنعت بالمواعيد؟
ماذا نفعل بعدما عاد مارادونا إلى أهله في الأرجنتين؟ مع منْ سنسهر، بعدما اعتدنا أن نعلّق طمأنينة القلب، وخوفه، على قدميه المعجزتين؟ وإلى منْ نأنس ونتحمّس بعدما أدمناه شهراً تحوّلنا خلاله من مشاهدين إلى عشّاق؟ ولمن سنرفع صراخ الحماسة والمتعة ودبابيس الدم، بعدما وجدنا فيه بطلنا المنشود، وأجج فينا عطش الحاجة إلى: بطل.. بطل نصفق له، ندعو له بالنصر، نعلّق له تميمة، ونخاف عليه ـ وعلى أملنا فيه ـ من الانكسار؟ الفرد، الفرد ليس بدعة في التاريخ. يا مارادونا، يا مارادونا، ماذا فعلت بالساعة؟ ماذا صنعت بالمواعيد؟
2- سنتذكر لنسهر أكثر
فراغ الأمسيات يتقدّم منّا كطبل من حديد، فنحن لا ننتظر أحداً. سنجر الخطى الثقيلة في اتجاه بيروقراطية النفس والوقت، وسنضطر إلى قبول مواعيد أخرى، نستعيد فيها الثرثرة اليومية حول المناخ، والعنصرية، والحروب الأهلية. وسنتذكّر، لنسهر أكثر، عصراً ذهبياً عاصرناه: العصر الذي حل فيه مارادونا ضيفاً على لهفتنا، فأقلعنا عن كل شيء لنتفرغ لما مسّنا من طقس: محبة مارادونا، وتسييج قدميه بفضاء الرحمة، والقفز على الشاشة لفك الحصار الألماني الثقيل، الذي يسد الهواء على توتر عضلاته، وهجاء الحكم البرازيلي، الذي كسر قلب مارادونا، كما يكسر الرجل الغليظ القلب قلب طفل بريء.. لا لشيء إلا لأنه يغار من عبقرية الطفولة.
3- يفلت كالصوت
له وجه طفل، وجه ملاك، له جسد الكرة، له قلب أسد، له قدما غزال عملاق،
وله هتافنا: مارادونا.. مارادونا، فنتصبب اسمه عرقاً. ويقتلع الكرة كالقطة البلدية الماهرة، من أرجل البغل. يراوغ كالثعلب المزوّد بقوة ثور، ويقفز كالفهد على حارس المرمى الضخم المتحوّل إلى أرنب: جووول!
مارادونا يرسم علامة الصليب، يبوس الأرض. يقف. يُحاصرْ. يفلت كالصوت. يقطف الكرة. يحاصرْ. يمرر الكرة جاهزة على شكل هدية إلى قدم زميل ساعده في فتح قلعة الدفاع، فيصوّبها الزميل الماهر في اتجاه المدى والجمهور. مارادونا يصفق من الوجع. إن هو لم يسدد، ستموت الأرجنتين من البكاء. وإن هو لم يصوّب سترفع الأرجنتين نصباً لعارها في الفوكلاند. سيتوقف الشعور القومي عن الرقص، وستربح انكلترا المغرورة الحرب مرتين. ولكن مارادونا يتقدم بالكرة من حيث تراجعت السلطة. مارادونا يعيد الجزيرة إلى الأرجنتين. وينبّه الإمبراطورية البريطانية إلى أنها تحيا في أفراح الماضي.. الماضي البعيد.
4- ما هذا السحر الجماعي؟
ما هي كرة القدم هذه؟ ما هذا السحر الجماعي الذي لم يحل لغزه الشائع أحد؟
مارادونا لا يسأل غريزته. سقراط البرازيلي هو المفكّر المشغول بتأملات ميتافيزيقية حول الضربة الركنية. وزيكو يلاحق كابوس ضربة الجزاء، التي طارت من الملعب فطارت البرازيل من الحلم. وبلاتيني يُحسّن شروط التقاعد. وبيليه الخبيث يُجاهد لإخفاء الشماتة التي تصيب الملوك المخلوعين. ولكن مارادونا يعرف شيئاً واحداً هو أن كرة القدم حياته وأهله وحلمه ووطنه و.. كونه.
منذ طفولته الفقيرة في كوخ من تنك، تعلّم المشي على الكرة. كان يلف كرة الخيطان حول علب الصفيح ويلعب. ولعل الكرة هي التي علمته المشي. مشى من أجلها. مشى ليتبعها. مشى ليلعب بها. ومشى ليسيطر عليها. لقد تمحورت طفولته حول كرة الخيطان إلى أن ضحى أبوه براتبه الشهري ليشتري له كرة قدم حقيقية.
وانطلق.. ليكون أصغر لاعب في منتخب الأرجنتين. وهكذا، ارتفع مارادونا ـ الولد المعجزة ـ من أشد البيوت فقراً إلى أوسع الآفاق، إمبراطوراً على كرة القدم. لم يكترث في صباه بشاشة السينما والتلفزيون. ولكنه احتل الشاشة ـ ليشاهده أكثر من ملياري إنسان، كما ترنو العيون إلى نجم في السماء ـ بقدميه. لقد رفعته الكرة، وارتفع بها، إلى أعلى أعالي الكلام.
5- عذاب حارس المرمى وضربة الجزاء
مارادونا هو النجم الذي لا تزاحمه النجوم. دانت له بقدر ما دان، هو، لكرة القدم، التي صارت كرة قدمه. النجوم تبتعد عن منطقة جاذبيته لتفتتن بما تراه، لتراه من الجهات كلها، لتبهر في معجزة التكوين، لتصلي للخالق والمخلوق، لتحتفي بحرمانها المتحقق في غيرها، لتنشد نشيد المدائح لمن جعلها تُهزم بهذا الامتنان: فما أسعد من هزمته قدم مارادونا!
هذه القدم، قدم مارادونا، مع كعب ميثولوجي آخر هو كعب أخيل.. هما أشهر قدمين في تاريخ الأسطورة. فلماذا نخبئ التساؤل المكبوت، الذي يوقده فينا هذا الجنون الجميل، الجنون الذي تنشره كرة القدم، كالعدوى، في ملايين البشر: لماذا لا تكون كرة القدم موضوعاً للفن والأدب؟ أكرر: لماذا لا تكون كرة القدم موضوعاً للفن والأدب؟
ولماذا لا يتعامل الأدب مع هذا البارود العاطفي، الذي يشعل الملايين في علاقتها بالمشهد الذي يحولها هي إلى مشهد درامي؟ ثم: أهناك عذاب أشد، ووحشة أقسى من عذاب حارس المرمى، ووحشته الكونية، أمام ضربة جزاء؟
وأهناك ضغط نفسي أثقل من ضغط الوقوف الدقيق على وتر النجاح أو الفشل، والتحكّم بمصير الأمة المعنوي، حين يقف الهدّاف الماهر لتسديد ضربة الجزاء؟
أليست هذه اللحظات أشد قسوة ورهافة وتفجيراً للعاطفة الفردية والجماعية من اللحظات، التي يواجهها «مقامر» دستويفسكي، مثلاً؟
6- حرب التأويلات
ما هي كرة القدم هذه؟ هي شيء من صراع التأويلات، ومسرح واقعي لتعديل موازين القوى، أو المحافظة عليها، لخلق مستوى آخر للواقع، أو تثبيته. هي شيء من لعبة إعادة تركيب العالم على أسس مختلفة، وعلى جدارة مختلفة. حرب عالمية يمارس فيها خيال الشعوب دوره الغائب أو الحاضر. لا أحد يتفرج على سباق الأجساد، والمهارة، والذكاء، المعبّرة عن طبائع الأمم في الهجوم والدفاع، في العنف والرقص، في الفردية والجماعية. الجميع ينخرطون.
ولعل المشاهدين هم أشد اللاعبين اندفاعاً لأنهم يدفعون بتاريخهم النفسي وتأويلاتهم ورغباتهم في التعويض إلى الملعب، لرفع اللعبة إلى مستوى التعبير التمثيلي المتخيّل عن روح الأمة وحاجتها إلى التفوّق على الآخر. هي الوطنية المتفجرة. شرارة الإفصاح عن الباطن في علاقته بالآخر. وهي حرية الإفصاح المتاحة عن الذات المحرومة من الإفصاح في سياق السياسة أو الجنس أو اللون.
هي انفجار حرية تعبير عن حرية غائبة، أو عن سيادة تسعى لأن تواصل سيادتها. هي شيء من الصراع الاجتماعي أحياناً، وعن وحدة القوى الاجتماعية الداخلية في صراعها القومي مع الخارج أحياناً أخرى.
هي المُتاح للتعبير والتنفيس والتظاهر ضد قمع يتحوّل الحَكم، أو المدرب فيه، إلى رمز لحاكم ظالم، أو لقضاء غير عادل حين تتخذ محاكمة الهزيمة شكل محاكمة السلطة، أو حين يتخذ الانتصار شكل التدليل على أن روح الشعب ووحدته هما اللتان انتصرتا، وأنهما لا يتحملان المسؤولية عن هزيمة عسكرية ليست حتمية.
وأحياناً تتخذ اللعبة معنى الانتقام الجماعي أو التعويض الجماعي عن عدم التكافؤ في موازين القوى بين دول كبرى ودول صغرى. وباختصار، فإنها تمثل ما تبقى من إجماع حول فكرة، أو حماسة، أو قوّة، أو هدف.
إنها حرب التأويلات ومن مظاهرها الوحدة الأوروبية المفاجئة حول ألمانيا في المباراة النهائية التي اتخذت شكل الصراع الأوروبي ـ الأميركي اللاتيني، بينما لم يعبر «العالم الثالث» عن وحدته.
وقد يحمل هذه الدلالة انحياز الحكم البرازيلي السمسار المستلب، الذي بذل جهوداً طائلة للحصول على «البراءة» الأوروبية من تهمة محتملة لأن مقياس النـزاهة هو مقياس أوروبي! فغضّ الطرف عن المخالفات الألمانية الفظة، وعاقب مارادونا بقسوة زائدة، فذكرنا بأن العالم الثالث لا يتوّحد حول ذاته، بل يوّحد استلابه أمام السيد. إنه يرنو إلى نموذجه الآخر، يتملق «غربه» ولا يحب لطرف من أطرافه أن يساويه بغير الهزيمة.
7- الملك الأحمق لا يوقف موج البحر
لكن مارادونا، كما استقر فينا، خفف من انسياق هذه التأويلات إلى ما هو أبعد. لقد رفع كرة القدم إلى مستوى التجريد الموسيقي الشفاف، رفعها إلى الطهارة المطلقة.
لم يحرّك فينا العاطفة القومية، فهو ليس منّا. ولم يحرك فينا وحدة التضامن مع العالم الثالث ممثلاً في الأرجنتين، التي لا تريد هذا الانتماء، وتستمرئ تبعيتها المثقلة بالديون والعنصرية الرسمية، ولكنه حرّك فينا حاسة الدفاع عن النفس أمام هجوم الإشارات العنصرية الغربية، ومنها تعليقات التلفزيون الفرنسي.
لعب مارادونا من أجل اللعب. وحوّل كرة القدم إلى أغنية راقصة. مزيج من السامبا البرازيلية والتانغو الأرجنتيني.
لا يمكن إيقافه ـ كما لا يمكن للملك الأحمق أن يوقف موج البحر. هكذا يقول الخبراء الرياضيون الذين وجدوا في المرجعية الشعرية اللغة الوحيدة القادرة على وصف هذا الشيطان الملائكي، صانع الفرص، نشّال ماهر، موجود في كل مكان، حوّل الملاعب المكسيكية إلى مرتعه الخاص.
المونديال هو مارادونا. قوي كالثور. سريع كالقذيفة.
يدخل الملعب كأنه داخل إلى كنيسة. يغربل الدفاع ويهدّف. نجم هذا العصر. لن يجد الأطباء دما في عروقه ـ سيجدون وقود الصواريخ. يمر كالهواء عبر المساحات الضيقة. ملك الكرة المتوّج الذي قال: «سجلت الهدف الأوّل في مرمى الإنكليز بيد الله ورأس مارادونا».
8- مارادونا، يا بطلي…
مارادونا، يا بطلي إلى أين نذهب هذا المساء؟
مارادونا، ساعد أبويك، ساعدنا على تحمل هذه الحياة، وساعد هذا العصر على الخروج من السأم والدخول في الحنين إلى البطولة الفردية.
مارادونا، متى تحمل اسمك عن شفاهنا لنعود إلى قراءة هيغل ونيتشه؟
مارادونا، مارادونا، مارادونا!!