الوضع السياسي العالمي.. التحقيب الواقع والتحولات
يعيش العالم تحولات عميقة تحمل في أحشائها عدة تناقضات، هذه الأخيرة تعتبر نقطة البداية في بناء سيرورة جديدة تعكسها “الحركية المستمرة” لعالم يبحث عن توازن منطقي ما.
لفهم التحولات العالمية الحالية، يجب تجاوز منطق أرسطو، باعتباره حبيس الأشكال الأولية للتفكير والتحليل، والقائم على عنصري ” الشكل والسكون” ومنطق صراع “خير/شر” من جهة، وتجاوز المنطق الصوري الذي يفصل بين الأشياء والديناميات ويعتبر التناقض بمثابة علاقة تضاد وعداء بين القوى من جهة أخرى.
لفهم الوضع العالمي اليوم، وبناء التحليل على أساس الجدل الماركسي المعتمد لجدل هيغل الذي لخصه إنجلز في ثلاثة عناصر تعتبر لب الجدل المادي: التناقض، والتراكم الكمي والتغير النوعي، ونفي النفي. إن الجدل المادي يقوم على فهم الواقع المادي الملموس من خلال فهم آليات هذه العناصر المرتبطة ارتباطا وثيقا لكونها تشكّل معاً النقلة النوعية في صيرورة حركة التاريخ.
الدينامية التي هي المطلق حسب الماركسية. فلا يستقيم فصل السيرورات عن طابعها التاريخي، وعن حركية الواقع، وعن انتقال الواقع من ماضٍ إلى راهن إلى مستقبل. و أي تحليل في حاجة إلى استحضار حركة التاريخ، باعتبارها قوانين التي لا بد للواقع من أن يحتكم لها ويذعن. هذا هو مسار تطور الفكر، وهو مسار حركة المجتمعات.
منذ بداية القرن 20، يعيش العالم حقبة استثنائية من تاريخ الجنس البشري، إذ يشهد، سلسلة من الحروب والثورات التي قلبت حياة الشعوب رأسًا على عقب بشكل مستمر، مما حرم الناس من العيش بطريقة طبيعية:
بداية من الحرب الروسية – اليابانية ذات الطبيعة الإمبريالية (1904)، الثورة الروسية الأولى (1905)، حرب البلقان (1912)، الحرب العالمية الأولى (1914-1918) التي تلتها سلسلة من الثورات: الثورة الروسية (فبراير وأكتوبر1917)، الثورة الألمانية (نوفمبر1918) وانهيار الإمبراطورية النمساوية-المجرية وتمرد في الجيش الفرنسي.
ثم الثورات والثورات المضادة بعد الحرب: في المجر سنة 1919، في إيطاليا ( 1919-1919)، في ألمانيا 1923، في الصين (1925-1927)…
ابتداءً من عام 1929 ، أدت الأزمة الإقتصادية العالمية إلى فتح الطريق نحو حرب إمبريالية ثانية، من خلال سلسلة جديدة من الصراعات الداخلية في مختلف البلدان الرأسمالية، والتي انتهت بانتصار البرجوازية: سقوط الملكية في إسبانيا ( 1931)، انتصار الفاشية في ألمانيا (1933)، تمرد عمال فيينا (فبراير1934)، الإضراب العام في فرنسا (1934-1938)، الثورة العمالية في إسبانيا (يوليو1936).
وبعد 20 عامًا من الحرب العالمية الأولى ، اندلعت الحرب العالمية الثانية في عام 1939 والمفتوحة تداعياتها إلى غاية اليوم، حيث كانت الحرب الإيطالية-الحبشية (1935) والحرب الصينية-اليابانية (1937) أحدى مسبباتها.
بناء عليه، من الواضح، لأي فاعل سياسي يساري، أنه بفعل الحروب الامبريالية والثورات والثورات المضادة ارتفع منحنى الصراعات بشكل مذهل في ظرف ثلاث عقود فقط. فالأمر لا يتعلق، اليوم، بمجرد نزاعات أسر حاكمة أو أطماع في الاستيلاء على بلد ما أو أمن الحدود، أو حروب تسمح للمجتمع الإنساني لمتابعة مسيرته نحو التقدم والنماء على الرغم من النكسات والكوارث والفقر.
ما يميز عصرنا الحالي هو تصاعد تمزق المجتمعات، عبر تحولات متواصلة تدمر الثروات والقيم التي راكمتها البشرية، يحدث ذلك على المستوى القطري والإقليمي والكوكبي. تنزف وتجوع الجماهير وتخضع للعبودية والاستلاب. فعالم اليوم فقد “مركز ثقله” وبالتالي توازنه رغم مرور ثمانية عقود على الحرب العالمية الثانية، ولأن التاريخ لا يعيد نفسه إلا بشكل تراجيدي وكارثي، فالعالم قد يسترجع توازنه بشكل “فوقي” ليبقى ما تسميه الإمبريالية ب “الفوضى الخلاقة”.
إن هذا الاختلال في التوازن والحروب المتزايدة وضحاياها هي “عقاب لخطايانا” بتعبير رجال الدين، وبالفعل فإن ممثلي البرجوازية الذين قادوا الشعوب إلى المذبحة في الحرب العالمية الأولى (1914-1918) كـ “آخر الحروب” وضحوا بأكثر من 10 ملايين إنسان في الحرب العالمية الثانية ( 1939- 1945) من أجل “الديمقراطية” أو من أجل تأمين “مجالها الحيوي”، ما فتئوا يتحدثون عن حرب عالمية ثالثة. وكأن “الحرب” ظاهرة طبيعية متأصلة في المجتمع البشري.
القوى اليسارية والعمالية في العالم، في تحليلها لـ “سنوات ما قبل الحرب العالمية الأولى”، حقبة من الموت والاحتضار، وتعتبرها نهاية الرأسمالية وبداية الإمبريالية: “الرأسمالية تحمل الحرب في طياتها كما تحمل السحابة العاصفة” (جان جوريس).
وبالفعل، منذ بداية القرن 20، غيرت الرأسمالية بنيتها بشكل جذري. انتهى عصر الرأسمالية القائمة على “المنافسة الحرة” و”دعه يمر ودعه يعمل”، فعلى الرغم من الأزمات والصراعات والبطالة المؤقتة، قامت الرأسماليىة بتشييد البنى الصناعية (مكننة المعامل، وبناء السكك الحديدية والطرق والأنفاق والسفن وما إلى ذلك) وطورت نمط الحياة من خلال تطوير قوى الإنتاجية، أي سيطرة الإنسان على الطبيعة. كما أدى تفوق الصناعات الكبيرة إلى إفلاس الصناعات الصغيرة وإلى الاحتكار الرأسمالي.
التغييرات في البنية الرأسمالية جردتها من أي طابع تطوري وجعلتها أكثر تخبطا وارتباكا. فالتدخلات الكبرى، بدلاً من اعتنائها برفاهيته الإنسان والحفاظ على الطبيعة، اتجهت للتدمير والموت من أجل استمرار نظام رأسمالي مدمر.
في المجتمعات الرأسمالية التي يُزعم أنها متحضرة، نشاهد ملايين العاطلين عن العمل وعائلاتهم يعانون من العوز والجوع، بينما كان الرأسماليون يقومون بحروب الإبادة وبتدمير المحاصيل بشكل منهجي للمحافظة على استقرار الأسعار: في الولايات المتحدة، يتم تربية الجراد لتدمير مزارع القطن؛ في أمريكا الجنوبية يتم حرق القمح والقهوة كوقود المحركات؛ وفي فرنسا، يتم تقديم مكافآت للمزارعين لاقتلاع أشجار العنب، وللصيادين للتخلص من أسماكهم في البحر…
تدفع الإمبريالية (الرأسمالية الاحتكارية) إلى إتلاف الثروات المتراكمة، أليس هذا الفعل يعكس وضاعة الحضارة والثقافة الامبريالية؟ لأن الحرب هي مبرر وجودها وانتعاشها، بينما السلام مجرد “هدنة بين حربين” كما يقول لينين.
هذا واقع التطورات السياسية الناتجة عن التوجهات الكبرى خلال القرن العشرين من خلال تحليل سياسي مؤسس على الوقائع التاريخية من حروب وثورات وثورات مضادة ومقاومات. فماذا عن بداية القرن 21؟
الوضع العالمي اليوم وضع اليقين، فالوضع العالمي خلال القرن 21 تحصيل حاصل لما قبله خلال القرن السابق واستمرارية له. وضع عالمي يتميز ببروز نظرية ” اشتراكية القرن 21″ التي يجسدها ” الحراك الشعبي المواطناتي” الذي اتخذ طابعا عالميا، حيث الحراك واقع بكل القارات الإفريقية والأسيوية والأوروبية الخ، وضمه الربيع الديمقراطي بشمال افريقيا وبالشرق الأوسط.
لقد كان الهدف من ذلك مواجهة القوى الامبريالية في نسختها الجديدة ” النيوليبرالية” المتوحشة المسيطرة على العالم بتدفق رؤوس أموال هائلة تحت طائلة ” الاستثمار” بالبلدان المتخلفة في شكل ديون خارجية إما مباشرة أو عبر أدرعها المالية الشيء الذي أثقل كاهل تلك الدول بالديون وصادر سيادتها الوطنية لإدامة تبعيتها للقوى المالية العالمية.
كما أن نفس القوى النيوليبرالية تستعمل أشكال جديدة لمواجهة نهضة الشعوب بقيادة حراكها المواطناتي التواق للحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية بالأقطار وعلى المستوى الكوكبي. أشكال يتم توظيفها في إطار ما سمي بـ “الفوضى الخلاقة” والضغط الإعلامي الرقمي المغرض والبروباكاندا الموجهة لهذا الغرض .
العالم اليوم يعيش، إذن، يقينا، فترة تاريخية عنوانها ” الحراك الشعبي المعولم” حراك اجتماعي بعمق سياسي، مناهض للاستبداد والتسلط، حيث أسقطت الشعوب سلميا حكام الاستبداد بالعديد من الدول وأرجعت بعضهم الى جحورهم بعد تقليم أنيابهم وأظافرهم.
ببلدنا عشنا حراك الريف وقبله حراك 20 فبراير وبعده الحراك المناطقي والفئوي، فترة ماتت خلاله التنظيمات جميعها ودخلت لغرف الانعاش. التنظيمات التي دأبت على استعمال الشعوب/الجماهير وكذا المناضلين ككومبارس و” مريدين”. لقد دأبت على الاشتغال بأساليب المساومات والتماس الهدنة والانفراج من المخزن. كما أصبحت، مؤخرا، أصوات تنتقد حركة 20 فبراير بدون خجل مع كامل الأسف، بل وتتنكر لحراكات فئوية ومناطقية خاصة منها حراك التعليم حيث تم اقصاء أكبر التنسيقيات وأكثرها تجربة ( تنسيقية المفروض عليهم التعاقد) وحراك الصحة وطلبة الطب والصيدلة باعتبارها مدارس للنضال.
والحقل السياسي ببلدنا لا يخرج عن هذا السياق. فقبل 60 سنة وقع تحول في الممارسة السياسية بالمغرب عنوانها بداية تأسيس اليسار الجديد على اثر انتفاضة 23 مارس 1965 مع المواجهة الأولى مع الاستبداد بقطاع التعليم الذي اقصى الطبقة الشعبية من حق متابعة الدراسة، وحاليا مع الحراك الشعبي بقطاع التعليم، يعيد التاريخ نفسه.. في مواجهة جديدة مع الاستبداد المتحالف مع قوى الخنوع والمساومات والخيانة. فإما أن نستعد للتأقلم ومسايرة حركة التاريخ أو نزول.
الفترة الحالية عنوانها ” اشتراكية القرن 21″ ، حين كان العالم كله يعيش فترة مخاض عسير، ومنعطفا حقيقيا تمظهرت أهم تجلياته في الحراك الشعبي العالمي ضد الامبريالية والنيوليبرالية القذرة، مطالبا بالكرامة للشعوب والمساواة بين الناس والحرية للجميع وما دونها باطل.
الوضع العالمي الحالي وضع اليقين.. فالشعوب تقاوم بقيادة حراكها المبارك ليس لها من خيار سوى ” الموت ولا المذلة”، حراك عالمي بلغ من النضج ما جعله يبلور له برنامجا مطلبيا مشتركا شاملا ” له ، ووجد له قوى عالمية في صفه : الصين والاتحاد الروسي والهند والبرازيل وجنوب افريقيا وإيران، وانضاف لهذا التحالف دولا من افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، لتشكل تحالفا سياسيا شاملا ببعد عسكري وبعد مالي/ البريكس وبعد ثقافي/قيمي”( ثقافات بلدان الجنوب والشرق على المستوى العالمي).
كانت أرض أوكرانيا الساحة الأولى المركزية للصراع، صراع انفجر توتره فيما بعد بأفريقيا ( جسدته طرد فرنسا المستعمرة وحمل صور بوتين …) وحاليا بالشرق الأوسط بفلسطين/غزة، حيث انفجر الصراع بين إيران وحلفائها بلبنان واليمن والعراق وسوريا بدعم وتنسيق مع الصين وروسيا وحلفائهما. هنا أصبحت القضية الفلسطينية، لأول مرة، تقطع مع بعدها الديني/العرقي لتلامس بعدها الكوني حيث ستجد حلا يتلاءم وميزان القوى الدولي.
لقد كان الحكيم الفقيد ابراهيم ياسين محقا ودقيقا في وصف المرحلة الحالية والمستقبلية بعمق المؤرخ ويقظة المناضل الملتزم من خلال مقالته ” حراك الريف فتح طريقا جديدا للنضال بالمغرب”.
العالم اليوم يعيش لحظة يقين وحسم.. فلا وقت للترددات ولا مكان للجبن. السياسة علم قائم الذات، والحقل السياسي لا ينبني على الغموض، بل على دراسات واستنتاجات يقينية مستقاة من دراسة حركة التاريخ البشري وعلى ضبط علمي للأنساق السياسية بمداخلاتها وتغذيتها العكسية. فاللايقين هو توجه غيبي ميتافيزيقي. وحده حقل الغيبيات حيث يزرع الخوف يمكن فقط الحديث عن اللايقين، وفي فترات الكوارث الطبيعية كلحظة فيروس كورونا على سبيل المثال حيث لا يوجد أدنى يقين حول أصل الفيروس ولا حول أشكاله، وساد الخوف من الموت والفناء، وفي لحظة الموت حيث يحس الإنسان بنهايته يأتيه اللايقين من خلفه ويترك الإنسان فريسة لشكوك اللايقين حول وضعه ومستقبله بل ومستقبل العالم ككل .
من المؤكد أن العلم الماركسي جزء لا يتجزأ من عالم اليقين، في سياق المنطق التاريخي الذي غيرت فيه الثورات المجتمعات، اعتبرها (الثورة) نتيجة حتمية للتطور الرأسمالي. وفي هذه الاستمرارية المتناقضة سينشأ نفي النفي.
ما هو في حكم اليقين أن النظم الاجتماعية السائدة الآن تتأسس لتأخذ مكان النظم التقليدية المتوارثة التى تتراجع وتتآكل بسرعة رهيبة أمام المستجدات التى يأتى بها العلم الحديث.
العلمي الحروني – قيادي بالحزب الاشتراكي الموحد