من الفقر والقهر إلى جوف البحر
استيقظ المغاربة مجددا على كارثة إنسانية جديدة حين ابتلع البحر أرواحا بشرية بريئة خطفها الموت، دنبها الوحيد حلم تحقيق الذات والهروب من البؤس والفقر والحكرة. بعد استنزاف وتبديد وهدر الثروات الوطنية واحتكار خيراته، وها هي ثرواته البشرية بدورها تستنزف بين أمواج البحر العاتية.
سئمنا من تكرار هذه الكوارث اللاإنسانية الناجمة عن نهج سياسة المماطلة والتضليل والوعود الوهمية الكاذبة التي توزع بسخاء يمينا وشمالا عند كل مناسبة انتخابية وتهطل السماء ذهبا وتعيش المدن والقرى على إيقاع البهرجة الانتخابية التي تفوح منها رائحة الموت.
شباب جلهم من إقليم قلعة السراغنة أغلقت في وجههم كل الآفاق ومصادر الرزق، شباب هجروا أراضيهم وأغنامهم ودراستهم وأهلهم بعدما تذوقوا مرارة العيش وعلقم الحياة في بلد تغيب فيه فرص الشغل والمساواة وتكافؤ الفرص، والعدالة في توزيع ثرواته. ناهيك عن الاختلالات القائمة بتغييب عدالة مجالية بالمناطق النائية والقروية التي لم تستفد بعد من مخططات تنموية هادفة تمنح للمواطن فرصة الانعتاق من قبضة البطالة القاتلة وتكسير الروتين اليومي.
فتغييب الخدمات الضرورية العامة لمصلحة هؤلاء الشباب دفعت بهم للارتماء في أحضان شبكات منظمة لا تؤمن إلا بالمال وتغرق في الإجرام وافتراس الأجساد والمتاجرة في بؤس ضحايا قاسمهم المشترك الفقر والحاجة، شبكات تبيع لهم وهم الحلم الإسباني والثروة والرفاه لترسلهم إلى مثواهم الأخير.
فكيف استطاعت مافيا الإتجار بالبشر أن تتلاعب بعقول المرشحين للهجرة السرية وإقناعهم بركوب قوارب الموت؟
فهل من تكتيك جديد تنهجه هذه العصابات في مراوغة حرس السواحل، وخاصة بعد إحكام قبضته على السواحل الجنوبية للمتوسط والسواحل الجنوبية للمحيط الأطلسي بتنسيق الجهود بين الرباط ومدريد؟
يبدو أن المقاربة الأمنية وحدها لا تكفي للقضاء على هذه الظاهرة، بل يجب العودة لجذور هذا الارتماء الأعمى لهؤلاء الشباب في أحضان مافيا التهريب والتجارة في البشر وفتح نقاش موسع يؤطره السياسي والسوسيولوجي والإعلامي والمفكر والفاعل الاقتصادي للوقوف عند اشتغال ميكانيزمات مجتمعنا وكشف الاختلالات التي تعرقل المسار التنموي الذي لم يستجب بعد لمتطلبات سوق الشغل رغم جهود الدولة التي يراها المتتبعون للشأن السياسي بالمغرب جهودا خجولة لا تلبي طموحات وتطلعات الشباب المغربي التواق لخدمة ورفعة وتقدم بلده في شتى المجالات التنموية.
ربما بعد هذا قد يحب أبناءنا بلدهم ويلغون أي تفكير في الهجرة إلى أوروبا بحثا عن عمل يكفيهم مرارة ما يعانونه من حيف وتعسف وإقصاء ومحسوبية في بلد ضحى فيه آباءهم وأجدادهم بالغالي والنفيس من أجل الانعتاق من براثن الاستعمارين الفرنسي والإسباني على مدى عدة عقود.