الديمقراطية الأمريكية!
عبد الرحيم العلام
سواء تم النظر للولايات المتحدة الأمريكية على أنها رمز للإمبريالية العالمية أو على أنها عاصمة للحرية الكونية، فإنها تبقى في علاقتها بمواطنيها، مثالا يحتدى، ونظاما مستقرا، واقتصادا يأمل الملايين كسب ورقة العيش في أجوائه.
إلى حدود انتخابات نونبر 2020، أثبتت الديمقراطية الأمريكية أنها قادرة على تجنيب الشعب ويلات الحروب الأهلية، وقادرة على تقديم الإجابات الضروية للأسئلة المُلحّة. ديمقراطية أبانت على مر القرون أنها قابلة للتطور والتحسّن، رغم أن هذا التطور لم يأت أحيانا كثيرة إلا بعد حروب طاحنة، راح ضحيتها مئات الآلاف من المواطنين الأمريكيين، مثل الحرب التي راح ضحيتها أكثر من 600 ألف عسكري، ما بين 1860 و1865، وانتصر خلالها الرئيس ابراهام لينكولن (اغتيل بسببها)، عندما استطاع أن يرغم المدافعين عن العبودية، على تمرير التعديل الدستوري رقم 13، الذي نص على أن: “تُحرّم العبودية والخدمة الإكراهية، فيما عدا كعقاب على جرم حُكم على مقترفه بذلك حسب الأصول، في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أي مكان خاضع لسلطتها”، وهو النص القانوني الأول في تاريخ البشرية الذي يأتي صريحا بتحريم العبودية وتجريمها بموجب القانون.
ولأن الولايات المتحدة الأمريكية هي في الأصل ولايات دستورية، أي أن وحدتها واستقلالها ارتبط بوثيقتين مهمّتين؛ الأولى صدرت سنة 1776م، وبموجبها طالب الشعب الأمريكي باستقلاله عن الاحتلال القادم من وراء البحار. وبعد عشر سنوات على إعلان المطالبة بالاستقلال، صدرت الوثيقة الثانية، وهي التي أضحت بعد نقاشات مطوّلة واختلافات متعددة الأوجه، دستورا لجميع الولايات المتحدة الأمريكية (حتى الولايات التي لم توقّع عليه التحقت به بعد إقراره، وكانت هاواي آخر ولاية صوت الكونجرس على قبول انضمامها للولايات المتحدة الأمريكية سنة 1900).
لقد طُرِح على الأمريكيين مشكلة اقتسام السيادة بين الاتحاد والولايات، وبين الحفاظ على الوحدة التي كانت العنصر القوي في مواجهة بريطانيا، فخلصوا إلى ابتكار الديمقراطية الإتحادية المبينة على مؤسستين تشريعيتين؛ الأولى تمثل الولايات بصرف النظر عن حجمها (مجلس الشيوخ، بعدد أعضاء يساوي 100عضو، بمعدل شيخين عن كل ولاية)، والثانية تمثل الشعب من خلال التمثيل النسبية (مجلس النواب بعدد أعضاء يساوي 435، ترسل كل ولاية عدد نواب يتناسب طرديا مع عدد السكان)، وأما العاصمة واشنطن (ليست هي ولاية واشنطن) فهي لا تُمثَّل في الكونجرس، وإنما هي أرض محايدة تبرعت بها ولايتي ميريلاند وفيرجينيا (تمثل بثلاثة مندوبين داخل المجمع الانتخابي الذي يضم الناخبين الكبار للرئيس= يُنتخب الرئيس عبر مرحلتين: انتخالات عامة من أجل انتخاب 538 ناخبا/مندوبا، ثم يجتمع هؤلاء في عاصمة كل ولاية من أجل التصويت ووضع البطائق في أظرفة وترسل إلى مجلس الشيوخ لكي يعلن رسميا عن اسم المرشح الفائز، الذي يتسلم السلطة في 20 يناير).
منذ وضعه سنة 1787، لم يتم تغيير الدستور الأمريكي، وهو يعد أقدم الدساتير العالمية وأكثرها استقرارا، (عرف 27 تعديلا جزئيا). وذلك بسبب وجود محكمة عليا مستقلة وقوية، رغم أن قضاتها التسعة (حسب العرف لأن الدستور لم ينص على العدد) يعينون من طرف الرئيس، لكنهم يبقون في مناصبهم مدى الحياة (إلا في حالة العجز أو الخيانة)، ولا يمكن تنصيبهم إلا إذا وافقت على ذلك أغلبية مجلس الشيوخ. إضافة إلى تَميُّز الديمقراطية الأمريكية بوجود محاكم قوية، تعتمد في معظمها على هيئة المحلفين، وفي إمكان قضاتها الامتناع عن تطبيق القوانين التي يشكون في مخالفتها للدستور (منذ سنة 1803، مع قضية ماربوري ضد ماديسون).
وما يمنح القوة للاتحاد الأمريكي أيضا، هو صمود الحكم المحلي، حيث تطور هذا الأخير واستقر قبل المقاطعات، وقبل الولايات وقبل الاتحاد الأمريكي. وقد جعل الدستور اختصاصات الولايات هي الأصل واختصاصات الاتحاد هي الاستثناء، على أن تتولى المحكمة العليا الفصل في المنازعات الطارئة. وعلى غرار السلطة الاتحادية، توجد في كل ولاية سلطة تشريعية منقسمة إلى مجلس نواب (سنة واحدة) ومجلس شيوخ، وحاكم منتخب، ومحكمة عليا للولاية. ومن صلاحيات الحكومة المركزية: إعلان الحرب، عقد الصلح، فرض الضرائب العامة، تجييش الجيوش..أي كل ما له علاقة بالخارج، أم الشؤون الداخلية فهي متروكة لاختصاص الولايات.
ولأن الديمقراطية مفهوم، وبما أن من طبيعة المفاهيم التراكم والتطور، فإن الديمقراطية الأمريكية لم تحد عن هذا المسار، وإنما كانت في بدايتها تمييزية ضد النساء، وعنصرية ضد السود، وطبقية ضد الفقراء، فالتصويت كان حكرا على الأغنياء من دافعي الضرائب، ولم تنل النساء حق التصويت إلا مع التعديل رقم 19 (1920)، كما تم إقرار حق التصويت بالنسبة للزنوج سنة 1870 (بموجب التعديل رقم 15)، قبل أن يُسحب منهم عمليا بناء على تحايلات قانونية من قبيل: معيار ضريبة التصويت، والمِلكية (لم يكن يسمح بالتصويت إلا للذكور من أصحاب الأملاك)، ومستوى الدارسة والقراءة.
ولأن الاتحاد الأمريكي، هو كيان مدين لحركة الهجرة، فإنه كان سيكون بؤرة للصراعات الدينية والمذهبية، نظرا لتعدد أديان ومذاهب المهاجرين إليه، لولا أن اهتدى الآباء المؤسسون لأفكارٍ وحلولٍ، استطاعوا بموجبها تجنيب الكيان الوليد الصراع الطائفي، مما أدى إلى خلق ما أسماه “دي تكوفيل” حكومة أكثر علمانية ومجتمعا أكثر تدينا، يقول “توماس جفرسون” (ربوبي الاتجاه): “لا يضرّني أن يقول جاري بوجود عشرين إلها أو بعدم وجود إله. فهذا لا يثقب جيبي ولا يكسر رجلي”. ووفق نفس المنوال نسج “جون ليلاند” (المعمداني المتشدّد) قائلا: “إن التعديل الأول للدستور سمح ‘‘لكل إنسان بأن يتكلم بحرية ومن دون خوف’’، مُعلنا تمسكه بالمبادئ التي يؤمن بها و أن يمارس عبادته بحسب دينه، لإله واحد، لـثلاثة آلهة، لإله أو لعشرين إلها، وأن تقوم الحكومة بحمايته في ذلك”.
لقد وثق الآباء المؤسسون الأُوّل بالفطرة السليمة للشعب كما كان يقول “بنيامين فرانكلين”، وجعلوا من إرادة الشعب مصدرا وحيدا للحكومة. ودعوا إلى صنع القرار المسؤول والمبني على العلم والحكمة والمتخذ من قِبل نواب منتخبين. وذلك من خلال ما يسمى “الديمقراطية الذكية”، حيث الحكم المباشر المصحِّح للحكم النيابي، التي تثق بالنواب المنتخبين معظم الوقت، لكنها لا تثق بتركيز السلطة في أيدي مؤسسة واحدة أيا كانت هذه المؤسسة. لذلك جعلوا جانبا مهما من السلطة في يد الرئيس (وكيل السيادة) وخولوا “الكونجرس” (صاحب السيادة) النصيب الأكبر، دون أن يستطيع أي منهما التدخل في صلاحيات الآخر، بحيث لا يمكن للبرلمان سحب الثقة من الرئيس (إلا في حالة العجز أوالخيانة)، ولا يمكن للرئيس أن يحلّ الكونجرس أو يدعو إلى انتخابات سابقة لأوانها أو يؤجلها، وهو ما يسمى في الأدبيات الدستورية بالفصل الصلب بين السلط، رغم نسبية هذا الوصف. فالرئيس غير مستقل تماما وإنما يخضع لرقابة مجلس الشيوخ في السياسة الخارجية وإعلان الحرب والطوارئ والتعيينات، إذ قد يلغي هذا الأخير بعض أعمال الرئيس، لكنه لا يمكن إجباره على اتخاذ قرارات معينة. فهو ينفذ القانون فقط، وليس في مقدوره إقافه، أو يتعبير دي توكفيل: “الرئيس وكيل السيادة وليس جزءا منها”، لذلك ليس من حقه أن يتقدم بمشاريع قوانين أمام البرلمان إلا من خلال نواب حزبه بطريقة غير مباشرة. وفي إمكانه معارضة بعض التشريعات “الفيتو”، وإن كان من حق البرلمان كسر “الفيتو” بأغلبية الثلثين.
ولأن فلسفة الديمقراطية الأمريكية “تثق بقرار عموم الشعب أحيانا، لكنها لا تثق برأي الأغلبية في أحيان أخرى”، فإنها جعلت ولاية مجلس النواب سنتين فقط (كان النواب قديما يتنقلون إلى العاصمة، مقر الكونجرس، عبر العربات المجرورة بالخيول، ويستقرون فيها طيلة مدة ولايتهم)، حيث ينتخب مع كل انتخابات رئاسية، وخلال نصف ولاية الرئيس (التجديد النصفي)، أما ولاية ملجس الشيوخ (يُنتخَب من طرف الناخبين مباشرة بناء على التعديل 17 لعام 1913) فهي على امتداد ست سنوات، على أن يتم تجديد ثلث المجلس كل سنتين. بيما مدة ولاية الرئيس أربع سنوات، قابلة للتجديد مرة واحدة، وذلك بفضل العرف الذي رسّخه الرئيس الأول للبلاد “جورج واشنطن” الذي رفض الترشح لولاية ثالثة، مفضلا ترك الفرصة لغيره، من أجل تجديد الدماء وبعث الطاقة. وهو العرف الذي تم تقنينه دستوريا بعد الحرب العالمية الثانية، خوفا من أن يتعرض للكسر، بسبب الولاية الثالثة لروزفلت، التي فرضتها ظروف الحرب.
وأما الأحزاب السياسية في أمريكا فهي ليست بالتعدد الذي يوجد في باقي دول العالم، ولا هي وفق النمذجة المشهورة؛ فمنذ الانقسام الذي عرفه حزب توماس جيفرسون سنة 1824، والذي على إثره أسس “أندرو جاكسون” الحزب الديمقراطي، الذي ترشح باسمه لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية عام 1828 وفاز بها، اتسمت الحياة الحزبية الأمريكية بالقطبية السياسية والثنائية الحزبية، حيث تَسيّد حزبان قويان المشهد الحزبي، وانقسم المواطنون الأمريكيون في عمومهم بين ديمقراطيين (شعارهم الحمار) وجمهوريين (شعارهم الفيل)، دون أن يعني ذلك غياب أحزاب أخرى، أو غياب “اللاانتماء”، بل هناك أحزاب أخرى تنشط في العديد من الولايات وإن كانت تبقى ضعيفة مقارنة مع الحزبين الكبيرين، ونادرا ما استطاع مرشح ينتمي للتيار الثالث الوصول إلى الدور الثاني في الانتخابات الرئاسية (وحده جورج واشنطن الذي وصل إلى البيت الأبيض دون انتماء حزبي)، علما أن هناك منتخبون مستقلون في مجلس النواب (غالبا ما يصوتون مع الديمقراطيين).
في الواقع، يمكن القول أنه من الصعب الحديث عن حزب جمهوري واحد وحزب ديمقراطي واحد، وإنما الأمر أشبه بأحزاب داخل الحزب الواحد، حيث غياب الصلابة التنظيمية، وأيضا افتقاد الأحزاب السياسية لهيكلة تنظيمية قوية داخل الولايات، كما أن الانتساب إلى الحزب يتم فقط من خلال التعبير عن الرغبة في التصويت له، دون الحاجة إلى بطاقة العضوية أو أداء واجبات الاشتراك. وإن كان القاسم المشترك بين الجمهوريين والديمقراطيين هو التوجه الليبرالي، مع وجود تمايزات قليلة فيما بينهما، كأن يتصف الحزب الجمهوري بالمحافظة، بعد أن تحول نحو اليمين واصبح يدافع عن الأخلاق المسيحية من قبيل رفض: زواج المثليين، الإجهاض، تجريم حمل السلاح وإلغاء عقوبة الإعدام، بينما يتصف الحزب الديمقراطي بالتقدمي والاجتماعي، كونه يدافع عن حقوق الأقليات (رغم أنه كان في البداية مدافعا عن الرّق، عندما كان الجمهوريون بزعامة لنكولن يناضلون ضد العبودية)، والانتصار للحريات الفردية، ودعم الطبقات الاجتماعية الدنيا. أخذا في الاعتبار أن الأحزاب ليست هي الفاعل الوحيد في الحياة السياسية، بل هناك جماعات الضغط التي تؤثر بشكل كبير على توجهات الناخبين وتخترق عمق مواقع القرار.
باختصار، هذه ملامح النظام السياسي الذي يراقبه العالم منذ أشهر، ويتابع فصول انتخاباته ومناظراته الرئاسية، ويحصي أصواته أولا بأول. نظام سياسي، الرئيس فيه مجرد موظف كبير، لديه راتب سنوي يعادل 400 ألف دولار (حوالي 360 مليون سنتيم) إضافة إلى 50 ألف دولار (مصروفات إضافية)، يتخذ من البيت الأبيض سكنا له، واستراحة بمنتج “كامب ديفيد”، ويحق له استخدام الطائرة الرئاسية، ومروحية وسيارة كاديلاك مصفحة، على أن يتقاضى بعد انتهاء فترة حكمه معاشا قدره 160 ألف دولار سنويا (حوالي156 مليون سنتيم)، بالإضافة إلى أداء تكاليف مكتبه وأجور بعض مساعديه لفترة زمينة لا تتجاوز 4 سنوات.
إنها الديمقراطية الأمريكية التي قد لا تروق للشعوب التي تعاني من ويلات الإمبريالية، لكنها الديمقراطية نفسها التي تجعل أقوى رجل في العالم، لا يستطيع أن يفوز تزويرا بولاية ثانية، بل يثير شفقة العالم عندما يتحدث عن أن النظام يحاربه، وأنهم زوروا الانتخابات ضده، وأنه سيلجأ للمحاكم من أجل الحصول على حقه.
بفضل النظام الديمقراطي الذي أسسه الآباء، وطوره الأبناء بما يخدم مصالحهم، ويحفظ أمنهم وحرياتهم، لم تتأخر الانتخابات عن موعدها ولو بساعة واحدة، ولم يتعذر النظام السياسي بالأزمة الوبائية، والظروف الخاصة من أجل إلغائها أو تأجيلها، بل لم يمنع خوف الأمريكيين من العدوى من أن يتوجهوا بالملايين نحو صناديق الاقتراع ومكاتب البريد من أجل تحقيق واحدة من أعلى نِسَب التصويت في تاريخ انتخاباتهم. لأن الشعب الأمريكي لا يملّ من الانتخابات التي تكاد تكون روتينا شهريا بالنسبة لهم، حيث هناك حوالي مليون منصب منتخب في البلاد (الحاكم، الشريف، القاضي، السيناتور، النائب، البرلمان الإتحادي، البرلمان الاتحادي، ..) إضافة إلى الانتخابات التمهيدية داخل الأحزاب.
رُبّ متسائلٍ: أي ديمقراطية هذه التي تسمح لدولة بتجويع ملايين المواطنين العراقيين، وتدعم الحروب في كل مكان، وتُؤيد كيانا صهيونيا غاصبا يقوم على عقيدة دينية إحلالية، وتشجع الانشقاقات، وتناصر الأنظمة المستبدة التي تقمع الحريات؟
قد تسغرب شعوب “العالم الثالث”، حيث سيادة التخلف والاستبداد، كيف أن رئيسا لديه أكبر جيش في العالم، ويضع يده على زر صغير يمكّنه من إهلاك نصف سكان الكرة الأرضية، ومع ذلك لا يستطيع تزوير الانتخابات، أوالتأثير على القضاء من أجل السماح له بإيقاف إحصاء الأصوات. ولا يمكنه إدخال المعارضة إلى السجون، ورفض النتائج وإحراق أوراق التصويت، والتلاعب في الانتخابات، وتجييش أتباعه لحمل صوره، ولهتاف باسمه في الشوارع والأزقة، متأبّطين أسلحتهم على طريقة “رعاة البقر”، يرمون بالرصاص كل من يطلب من “ترامب”، تسليم المفاتيح والعودة إلى بيته.
ولأن شعوب العالم اللاديمقراطي، تستغرب ذلك، وتتحصّر على “جُبن” ترامب”، فإنه لم يبقَ بيدها إلا تأليف النكت الساخرة، التي تجعل ترامب يتحججّ بنسيان “شاحن هاتفه” لكي يلقي إطلالة أخيرة على البيت الأبيض، وتُظهر بايدن وهو يتصل بترامب، يسأله عن كلمة سر “الوايفي”، بينما تسأل زوجة بايدن زوجة ترامب عن مكان وضع الأطباق التي وقّعها روزفلت!
وجوابه: هي الديمقراطية التي يحبّذها شعب أمريكا ما دامت تخذم مصلحته، وتحقق قوته وريادته عالميا. ولْتبحث باقي الشعوب عمّا يحقق نهضتها.