بين جدران العقل: استبصار اجتماعي- فلسفي في مسرحية “هبل تربح” من تقديم فرقة “كاطرسيس”

في خضم عالم تتلاشى فيه الحدود بين الحقيقة والمزيف، تأتي مسرحية “هبل تربح” التي قدمتها فرقة “كاطرسيس” مرآة تعكس تناقضات الوجود الإنساني المعاصر. إبراهيم ذلك الإنسان المتورط في دائرة الاختلاس، ليس سوى رمز للذات البشرية المعاصرة التي تسقط في هاوية الماديات، ثم تهرب لتبحث عم ملاذ للهروب من تبعات أفعالها.
اختيار مستشفى الأمراض العقلية كملجأ للهروب من العدالة يفتح بابا فلسفيا على ثنائيات العقل والجنون في مجتمعاتنا.
تتجلى عبقرية هذا الطرح المسرحي عندما يجد إبراهيم نفسه محاطا بأشخاص يرون قصصا تعبق بالألم والوجع من صلب المجتمع. هنا تلتقي الفلسفة الوجودية مع النقد الاجتماعي، اذ يتضح أن هؤلاء المرضى المنبوذين عن المجتمع، هم في حقيقة الأمر ضحايا لهدا المجتمع وشهود على تناقضاته وآلامه.
الصراع النفسي الذي يعشه إبراهيم داخل جدران المستشفى يمثل استعارة فلسفية لما يسميه نيتشه “العود الابدي”، حيث يواجه الانسان ذاته في دورة لانهائية من المحاسبة الذاتية والشعور بالذنب والخيبة، هذا الصراع يدفعنا للتساؤل، هل من سبيل للخلاص من دوامة الذنب الا بمواجهة الذات بصدق؟
العبقرية الفلسفية لمسرحية هبل تربح تكمن في توظيفها للفضاء المغلق، الذي هو المستشفى كمختبر للمجتمع بأكمله. والمواضيع التي تطرحها من البيدوفيليا الى الطمع والمصلحة وغدر المقربين ليست سوى أعراض لمرض اجتماعي أعمق تتفشى في جسد المجتمع.
- إشهار -
يذكرنا النقد الاجتماعي اللاذع في المسرحية بمقولة مشيل فوكو حول علاقة السلطة بالمعرفة والجنون، فكل ممارسة للسلطة ترتبط بإنتاج المعرفة، موضحا تغلغل السلطة في الحياة اليومية عبر المؤسسات الاجتماعية. فالمعرفة تستخدم كأداة للسيطرة الاجتماعية، وتتشكل من خلالها هويات الافراد عبر الخطابات والمعايير السائدة، وأكثر تدقيقا فهو يعتبر أن السلطة تمارس من خلال الأنظمة التي تتحكم في السلوك مثل المدارس والسجون والمستشفيات، فهذه السلطة موزعة عبر علاقات اجتماعية متعددة تتواجد بداخلها السلطة، وتسلل في التفاصيل الدقيقة للحياة اليومية مما ينتج لنا سلوكيات وقيم وأفكار. ففي كتابه المراقبة والمعاقبة ناقش فوكو كيف تطورت العقوبة من العقوبات البدنية العلنية الى أنظمة كتجسيد للمراقبة، وخير مثال على ذلك هي السجون كنموذج للسلطة الحديثة التي تعمل من خلال المراقبة المستمرة للأفراد والتحكم في سلوكياتهم، فتتحول مؤسسات الإصلاح الى أدوات الضبط الاجتماعي أكثر من كونها مساحات العلاج والتأهيل.
تخاطب مسرحية هبل تربح بأسلوبها الساخر عقل المتلقي وروحه معا، وتقدم تأملا فلسفيا عميقا في مجتمع معاصر، أنها ليست مجرد عملا فنيا انتجتها فرقة كاطرسيس، بل دعوة للاستبصار الاجتماعي والفلسفي بين عالم يعج فيه مبدا الثنائيات والمفارقات.
كانت هذه المسرحية من تأليف وإخراج لحسن داسي، وتشخيص المهدي الحكيكي، ياسمين الدحماني، المهدي التيت، نورة اختار، غزلان اغريس، هناءء بناي، حمزة النيفر، أفراج رشيد، فؤاد الصحراوي.