حين تبكي السماء.. يضحك الوطن: العرس السماوي


على مدى سنوات كان المغرب يحاور السماء بعينيه العطشى يترقب سحابة عابرة، يمد يده إلى الأفق كمن يستجدي الغيث من بين أصابع الغيب. الحقول التي كانت تضحك بالأخضر أصبحت وجوهها شاحبة، والأودية التي كانت تروي الأرض صارت مجرد أخاديد جافة كأنها ندوب على جسد الزمن. الأشجار وقفت صامتة لا ظل لها سوى انتظار المطر والبحيرات نضب ماؤها حتى بدت كعيون فقدت دموعها. كأن الأرض تهمس للسماء كأنها تناجيها بلهفة الظامئ في صحراء لا نهاية لها.

    يمكنكم الاشتراك في نشرتنا البريدية للتوصل بملخصات يومية حول المقالات المنشورة على الموقع

    الاشتراك في النشرة البريدية

    كان الفلاح يحدق في أرضه بوجل كأنها طفل مريض لا حيلة له في شفائه، الرعاة يتنقلون بين المروج اليابسة، يقرؤون الخراب في عيون مواشيهم، وينصتون إلى صمت الأرض حيث لا عشب ينبت ولا قطرة تهبط. حتى الآبار، تلك التي كانت تحفظ سر الماء في عمقها أصبحت تئن تطلق صدى الفراغ في وجه كل من يقترب. الجفاف لم يكن مجرد قلة مطر بل كان امتحانًا لصبر الأرض وأهلها، لوعد الحياة التي تتأخر لكنها لا تموت.

    في المدن كان العطش يزحف ببطء. صنابير تنضب كأنها أنفاس تحتضر. خزانات خاوية تنتظر قطرة إنقاذ. شاحنات تجوب الشوارع محملة بالماء، تسد رمق العطشى لكنها لا تكفي. وجوه الناس تحولت إلى مرايا للحيرة والقلق، فالكل يدرك أن الماء ليس مجرد سائل ينساب من صنبور، بل هو روح تسري في جسد الوطن. هو الأمان الذي يروي الأرض والإنسان.

    حين كاد اليأس أن يطرق الأبواب جاء صوت الملك محمد السادس في عيد العرش كغيمة تحمل بشرى المطر. لم يكن حديثًا عن أزمة عابرة، بل كان رؤية ممتدة تجعل من الماء قضية وجود، ومن تدبيره مسؤولية أمة. بناء السدود ليس مجرد مشروع هندسي بل هو بناء لمستقبلٍ لا ينحني للعطش. تحلية مياه البحر ليست رفاهية بل هي وعد بأن يظل النبع متدفقًا حتى وإن جفت السماء. كان الخطاب ملكيًا، لكنه كان أيضًا صوت الأرض نداءها المكتوب بحروف الحكمة والبصيرة.

    تدفقت المشاريع كأنهار تهزم الجفاف. محطات التحلية أخذت طريقها إلى الأفق. مشاريع إعادة التدوير شقت مساراتها في الرمال. التحسيس بأهمية الماء صار ثقافة تطرق الأبواب والمدارس والإعلام. بات الحديث عن كل قطرة مسؤولية لا شعارًا عابرًا. واستوعب الجميع أن المستقبل لا يُبنى بالانتظار، بل بالتخطيط والعمل.

    وحين جاء الغيث، لم يكن مجرد مطر بل كان نشيدًا يعزف على أوتار القلوب. انفتحت أبواب السماء كأنها تستجيب لدعاء طال انتظاره. سالت المياه في الوديان كأنها رسائل من الغيب تخبر الأرض أن الفرج قد آن أوانه. البيوت خرجت بأهلها كبارًا وصغارًا يرفعون وجوههم نحو المطر كأنهم يرونه للمرة الأولى. النساء زغردن تحت الغيث والرجال رمقوا الحقول بعين تلمع بالأمل والأطفال ركضوا بين الشوارع يضحكون كما لو أن الفرح عاد إليهم محمولًا على أجنحة الماء.

    السهول ارتدت حلتها الخضراء وكأنها عروس كانت تنتظر هذا الثوب منذ سنوات. الأشجار تراقصت بفخر وكأنها تستقبل الحياة من جديد. الجبال احتضنت الثلوج بلهفة والمواشي عادت إلى مراعيها كأنها كانت تحلم بهذا اليوم. حتى البحر رغم هيجانه بدا وكأنه يشارك الأرض فرحتها يرسل موجه إلى الشواطئ كمن يصفق لهذا العرس السماوي.

    فرح الوطن ليس في المطر وحده بل في وعي أبنائه بأن الماء كنز لا يفنى إن حفظوه وصانوه كما يصونون أرواحهم. أدرك الفلاح أن كل قطرة تستحق أن تُحرس. أدرك الساكن في المدينة أن الاستهلاك الواعي ليس ترفًا بل هو حياة. أدرك الصغير قبل الكبير أن الماء هو سر الوجود، وأن الحفاظ عليه ليس مسؤولية الحكومات فقط بل هو واجب كل يد تلمس الحياة.

    المستقبل لا يُبنى بالغيث وحده، بل بحكمة تدبيره. لا يمكن للسماء أن تمنح أكثر مما تستحق الأرض، وإن لم نكن أهلاً لهذا العطاء عاد الجفاف ينحت ملامحنا من جديد.

    زبدة القول

    المطر وإن كان نعمة، فإن الحكمة في حفظه أكبر من فرحة نزوله. الماء ليس مجرد عطية تهطل بل هو عهد بين الأرض وأهلها. من لا يصونه يكتب عطشه بيديه. المغرب الذي صبر طويلاً عليه أن يكون وفيًا لهذه النعمة، أن يجعل من كل قطرة وديعة لا تُهدر ومن كل نبع عهدًا لا يُخلف. فالمطر فرحة لكن الحكمة أن نجعلها فرحة تدوم.

    - إشهار -

    قصيدة: حين رقّت السماء على الثرى

    رقّت سماء الله فانهمرت ندى
    وسقت بلاد الصبر ماءً مُفتدى

    يا رحمة الأمطار عودي فرحةً
    زفّي البشائر للنخيل وللندى

    كنا نناديك الفصول جميعها
    حتى استجابت غيمة بالمددا

    هذا الثرى قد نام صبراً صامتاً
    والنهر يشكو في الجفاف مجدداً

    والزهر أغلق مقلتيه مودعاً
    والعشب مات وما استطاع تجلداً

    حتى أتيت على جناح بشارة
    فسقى المطر أرضي فصارت مورداً

    يا سعد أرضي حين تبتسم السماء
    حين المراعي كطريق بالخير معبدا

    يا نعمة الرحمن دومي نعمةً
    نبني بها مجداً ونحسن مقصداً

    الشاعر: سعيد ودغيري حسني

    أعجبتك المقالة؟ شاركها على منصتك المفضلة
    قد يعجبك ايضا
    اترك رد

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

    يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد