القضية ليست المهدوي.. بل مستقبل الصحافة

تفجّرت في اليومين الماضيين مواجهة جديدة محورها هو الصحافي ومدير نشر صحيفة “بديل” الإلكترونية، حميد المهدوي، وفي الطرف الآخر منها رئيس اللجنة المؤقتة لتسيير شؤون المجلس الوطني للصحافة، يونس مجاهد.
هذا الأخير نشر مقالا يدافع فيه عن مبدأ الدفاع عن الشرف في الصحافة وباقي الحرف، ليتبيّن بعد تفاعل الصحافي حميد المهدوي معه، أن هناك متابعات إضافية خضع لها هذا الأخير أمام اللجنة المؤقتة، علاوة على المحاكمات التي يواجه فيها خطر السجن بناء على شكاية (أو شكايات) من وزير العدل.
وبصرف النظر عن تفاصيل هذا الملف أو حيثيات تلك القضية، فإن ما يحصل مع المهدوي منذ أكثر من عام، لا يشرّف المغرب ولا عدالته ولا مؤسساته التنفيذية والمهنية، لسبب واحد هو أنها تنطوي على محاولات غير مفهومة لإسكات صوت يعبّر بشكل مختلف عن المألوف.
فحميد المهدوي، ومهما اختلفنا معه أو كانت لدينا ملاحظات على أسلوبه، لم يكن يوما مجرد صحافي اختار أسلوبا مغايرا أو خطًا تحريريا مختلفا، بل هو ظاهرة تفضح أزمة الإعلام في المغرب، حيث لم يعد المشهد يتسع إلا لأصوات محددة، وحيث تُحدد قواعد “اللعبة الإعلامية” وفق ميزان حساس من المصالح والاعتبارات السياسية.
في بيئة إعلامية أرهِقت بالضغوط الاقتصادية، واستُنزِفت بسياسات الضبط والتحكم والكسر والإخضاع، استطاع المهداوي، مباشرة بعد استعادته لحريته إثر ثلاث سنوات قضاها خلف القضبان، أن يكسر هذا الحصار بأسلوبه المباشر والعفوي، فجعل من نفسه مرآة تعكس الغضب الشعبي والتساؤلات الحارقة التي كان الإعلامان الرسمي والخاص يفضل عدم الخوض فيها. وهو دور يستحق وبدون أية مبالغة، التعبير له عن الشكر والامتنان.
أذكر أنه وفور استئنافه نشاطه الإعلامي بعد محنة السجن، لم يكن هناك ترحيب بوجوده، حتى داخل الوسط المهني.
فالرجل فرض نفسه في فضاء مستقل، خارج الحسابات القديمة، وصنع منصته الرقمية ووصل إلى فئات كانت تشعر بالتهميش الإعلامي. ولم يكن أسلوبه يُشبه الصحافة الكلاسيكية التي تحسب كلماتها وتحرص على التوازن في خطابها، بل كان صوتا يشبه جمهورا لم يكن يجد صوته في المنابر الرسمية أو حتى في الصحافة المستقلة التي أُنهكت اقتصاديا وسياسيا حتى أصابها الشلل شبه الكلي.
في هذا السياق، لم يكن استهداف المهدوي مجرد مسألة شخصية، بل كان امتدادا لمعركة أوسع وأقدم حول من يملك حق الوجود في المشهد الإعلامي. فحرية التعبير في المغرب لم تُبنَ على أسس راسخة، بل ظلّت محكومة بتوازنات هشة، حيث تُمنح المساحات بقدر ما يتم ضبطها، وحيث يمكن السماح بوجود بعض الأصوات المستقلة، لكن بشرط ألا تتجاوز الخطوط الحمراء غير المعلنة.
وعندما قرر المهدوي ألا يعترف بهذه الخطوط، وواصل مساره بأسلوب صدامي لم يكن مقبولا داخل منظومة إعلامية تعودت على التكيف بدل المواجهة، فأصبح هدفا لتحركات متواصلة تهدف إلى تطويقه أو إسكاته أو تخويفه.
والمقلق اليوم، أن استهداف هذا النموذج لم يتوقف عند محاصرة تجربته، بل امتد إلى تصفية كل ما تبقى من فضاء للنقاش الحر، عبر آليات تضييق متعددة، تبدأ بالضغوط المالية، وتمتد إلى المتابعات القضائية، ولا تنتهي عند الفراغ القانوني والمؤسساتي الذي يعيشه قطاع الإعلام، والذي يوظّف لإشعال “الفتنة” داخل بيت الصحافة بدل ترميمه وإعادة بنائه.
إن ما يحدث اليوم لا يتعلق فقط بصحافي اسمه حميد المهدوي، بل بمشهد إعلامي يواجه تحديات وجودية.
والدولة تقول لنا بوضوح اليوم إن الصحافة المستقلة، التي يمكن أن تلعب دورا في كشف الفساد، وفتح النقاش العمومي، وإبقاء الرأي العام في قلب التطورات، هي عبء غير مرغوب فيه. ولهذا السبب، يتم دفعها نحو الاختناق البطيء عبر أزمات مالية مدروسة، تُغلَق معها قنوات التمويل النزيه، وتُترَك وحدها في مواجهة “سوق الإعلانات” الذي تتحكم فيه جهات ذات حسابات سياسية، أو منصات أجنبية عملاقة لا ترحم.
في المقابل، لم يكن تنظيم المهنة أبدا أولوية حقيقية، بل العكس هو الذي يثبت يوما بعد آخر. فمطلب إنشاء هيئة مستقلة لتنظيم الصحافة مُعلّقا لسنوات بعد صدور الدستور الذي نص عليه بوضوح. وبدلا من رعاية وتطوير البذرة الأولى التي شكّلها المجلس الوطني للصحافة، تم خلق لجنة مؤقتة يُفترض أنها جاءت لتدبير المرحلة الانتقالية، لكنها تحولت اليوم إلى وضع دائم بلا مبرر قانوني أو منطقي.
في مثل هذا السياق، سأفترض أن رئيس هذه اللجنة، يونس مجاهد، قد تعرّض بالفعل لإساءة أو تجاوز أو ضرر، لأنني لا أعرف حيثيات الملف المفتوح بينه وبين المهدوي. ومع حفظ حقّ الجميع في الانتصاف والتصحيح والتشكي، فإن مسؤولية من حجم رئاسة لجنة وصية على مؤسسة التنظيم الذاتي للصحافة، تتطلّب قدرا من الترفع والاكتفاء بوسائل الرد والتصحيح التي نعرفها جميعا، وتأجيل أية معركة شخصية، لأن الصحافة المغربية تخوض معركة أوسع من أجل البقاء.
- إشهار -
إن إحدى الإشكاليات الكبرى في قضية المهدوي، وكثير من الصحافيين الذين سبقوه إلى المعاناة والمكابدة، هي أن النزاعات مع الصحافة يتم جرّها إلى ساحة العقاب، ليس كآلية إنصاف، بل كأداة لمحاصرة الصوت المخالف.
نعرف جميعا كيف يمكن لأي مسؤول أو جهة متنفذة أن ترفع شكاية، وسرعان ما سيجد الصحافي نفسه متابعا في سلسلة من القضايا التي تستنزف وقته وجهده وموارده، حتى وإن لم تؤدِ بالضرورة إلى الإدانة.
لقد حذرت الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، في تقريرها السنوي الأخير، من خطر استحواذ المنصات الرقمية الأجنبية على المشهد الإعلامي المغربي. وهو تحذير بالغ الأهمية، لأنه يكشف عن مستقبل قاتم، حيث لن يكون في الساحة سوى منصات أجنبية تتحكم في تدفق المعلومات دون أية قدرة وطنية على التوجيه أو التدقيق أو الرقابة المهنية المستقلة.
وفي عالم أصبحت فيه المعلومات سلعة استراتيجية، لم يعد الإعلام مجرد نافذة لنقل الأخبار، بل أصبح ساحة معركة تُدار فيها التوجّهات العامة. والدول التي تفهم ذلك، تعمل على خلق بيئة إعلامية قوية ومستقلة، ولا تقدم على خنق الصحافة الوطنية وإضعافها.
إن المغرب يبدو اليوم وكأنه يدفع بصحافته نحو الهاوية، عبر تركها فريسة للأزمات المالية، وعرقلة محاولات إصلاحها، واستعمال أدوات القمع والتخويف كأداة لإخماد ما تبقى من أصوات حرة فيها.
ما لا يدركه البعض، هو أن الصحافة حين تُعامل كعدو، فإن الدولة نفسها تخسر. حرية الإعلام ليست ترفا أو مسألة كمالية، ولا يمكن أن تكون رهينة مزاج سياسي أو ترتيبات ظرفية.
في التجارب الديمقراطية الحقيقية، تُعتبر الصحافة سلطة قائمة بذاتها، تُحاسب وتراقب، لكنها لا تُخنق. والدول التي تفشل في استيعاب هذا الدور، تجد نفسها في نهاية المطاف غارقة في العزلة، محاصرة بآلة دعاية رسمية لا يصدقها أحد، ومنفصلة تماما عن نبض شعوبها.
إن الصحافة في المغرب لا تحتاج إلى مزيد من القضايا والمتابعات، بل تحتاج إلى ورش إصلاحي حقيقي يعيد الاعتبار للمهنة، ويوفر لها إطارا قانونيا يحميها من التحول إلى هدف سهل لأي جهة نافذة. والحكومة، التي لا تزال تماطل في تفعيل الإصلاحات الضرورية، تتحمل مسؤولية مباشرة في هذا الوضع.
إذا كانت هناك إرادة حقيقية لحماية حرية التعبير، فإنها تبدأ بتوقف السلطة عن التعامل مع الصحافيين كخصوم، والاعتراف بأن إعلاما حرا ومستقلا ليس خطرا على استقرار الدولة، بل هو شرط أساسي لوجودها.
حين يختفي الصحافيون المستقلون، لن يبقى في الساحة إلا الضجيج، وحين يُدفن الإعلام الحر، يصبح المجتمع كله أعمى.
والسؤال الذي يجب أن يُطرح اليوم هو: هل يريد المغرب أن يكون مجتمعا يرى ويسمع ويتحدث، أم أنه اختار، طوعا أو كرها، أن يعيش في الظلام؟.
المصدر: موقع “صوت المغرب”.