تأملات في “موجة” احتفاء التلاميذ ببعض أساتذتهم
“موجة الاحتفاء من فكرة خلاقة إلى تقليد محمود فميوعة مرفوضة”
لا أعتقد بأنه قد يوجد إنسان عاقل يعارض مبدئيا أية مبادرة تهدف إلى الاحتفاء بأطر هيئة التدريس، أو الاعتراف لهم بفضلهم علينا، أو بإعادة الاعتبار لمكانتهم الرمزية، خاصة في الوقت الراهن، الذي يتسم بالهجوم الشرس على “صورة الأستاذ”. فبعد عقود طويلة من استهجان وظيفته والتنمر على شخصيته والسخرية من مدخوله الشهري إما عن طريق وسائل الإعلام الرسمية أحيانا، وإما عبر نسج نكث تمس بقيمته وكرامته ومكانته الاجتماعية، وإما عن طريق ضربه وسحله في الشوارع وجرجرته إلى المحاكم أو اعتقاله وطرده من عمله، بل وتوقيف أجرته لمجرد أنه طالب بتحسين وضعيته الاقتصادية وشروط عمله.
إن مجرد استحضار هذا السياق العام، يدفعنا إلى التنويه والمطالبة جهرا وبملء الفم للقيام بمبادرات تعيد القيمة الاعتبارية للأستاذ. لكن كل ما نخشاه هو أن تتحول هذه المبادرات أو بعضها إلى أداة جديدة للنيل من قيمته والسخرية منه والتنمر عليه، والتلاعب بمشاعره، أو آلية من آليات موضة السوق في المجتمع الاستهلاكي، أو تحويلها إلى “استراتيجية الالهاء” بغية التغطية على بعض المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإنسانية وغيرها التي يشهدها المغرب والعالم في الزمن الراهن.
من بين أهم المبادرات التي انتشرت مؤخرا بقوة في وسائل التواصل الاجتماعي، نجد “موجة” احتفاء مجموعة من التلاميذ ببعض أساتذتهم. ونعتبر أن هذه الفكرة في الأصل مبادرة نبيلة وغير مسبوقة، لكنها في نظرنا تحولت بسرعة رهيبة من فكرة إبداعية إلى تقليد محمود فميوعة مرفوضة. وللأسف، فهذه السيرورة تميز تعاملنا كمغاربة مع مختلف المبادرات سواء كانت فكرية أو سلوكية، وهو ما سنعمل على توضيحه في الفقرات الآتية:
اطلعت عن طريق الصدفة منذ أزيد من سنة على شريط فيديو مضمونه أن مجموعة من التلاميذ أحدثوا ضجيجا في القسم بالقرب من مكتب الأستاذ، وهم يشخصون بكيفية احترافية مشهد الاعتداء على أحد زملائهم. فجاء الأستاذ مسرعا، والذي يبدو أنه كان خارج القسم لضرورة ما، فلما اقترب من التلاميذ المشتبكين وحاول انقاذ زميلهم المعتدى عليه، فإذا به يجده جالسا وسط أصدقائه وبيده باقة ورد كهدية جماعية له من تلاميذ القسم.
في الحقيقة لما شاهدت شريط الفيديو، أُعجبت بمضمونه الذي يبرز بجلاء الانسجام القوي بين تلاميذ القسم، وخاصة أنهم اتفقوا على تقديم هدية رمزية واحدة باسمهم جميعا، وأَثنيت على اختيارهم الذكي لنوع الهدية، بحيث أن الورد كان دائما رمزا للتعبير عن مشاعر الحب القوية في معظم الحضارات البشرية. لكن تحفَّظتُ على شكله، إذ كان بإمكانهم في نظري أن يقدموا هديتهم لأستاذهم بكيفية مباشرة أو اختيار طريقة أفضل دون تصنع وضعية الشجار بينهم واثارة الضوضاء والضجيج في وضعية لم يكن الأستاذ المعني موجودا بالقسم.
بعد ذلك، صادفت فيديوهات أخرى بنفس الطريقة، هنا أدركت بأن الفكرة تحولت من مبادرة إبداعية إلى تقليد محمود، لا سيما أنه تم تكرارها كما هي شكلا ومضمونا، علما أن الفكرة في ذاتها كانت ما تزال بحاجة إلى تطويرها على الأقل من حيث الشكل. لكن أرجح هنا والآن وبكل آسف، أن الفكرة وصلت إلى مرحلة الميوعة المرفوضة نظرا لعدة اعتبارات أهمها:
– المبادرة لم تعد حدثا مفاجئاً كما كانت عليه في المرة الأولى، نظرا لانتشارها الواسع على مواقع التواصل الاجتماعي. وأرجح أن معظم الأساتذة قد اطلعوا عليها أو سمعوا بها على الأقل، وبالتالي أصبح بإمكانهم توقعها، هذا إذا لم يطلبها أحدهم ولو بكيفية غير مباشرة. ما يجعلنا نرجح ذلك، هو أن بعض الأساتذة أنفسهم أصبحوا يوثِّقون هذا الحدث بالصوت والصورة، وينشرون بعض تفاصيله على صفحاتهم بمواقع التواصل الاجتماعي، بينما كان التلاميذ في مرحلة الابداع والتقليد هم مَنْ يوثقونها وينشرونها. إن توثيق ونشر بعض لحظات هذا الحدث من طرف بعض الأساتذة قد يحيل عند البعض بأنه يحظى بحب وتقدير كبيرين من طرف تلاميذه أكثر من غيره، بحيث من الممكن أن تخلق مثل هذه المبادرات تنافسا بين الأساتذة أو تغذي مشاعر الحقد والحسد عند بعضهم، أو تُنمي مشاعر الانتقام عند البعض الآخر من تلاميذهم لكونهم فضلوا أحد الأساتذة في هذه المبادرة المحمودة.
– الانتقال من هدية واحدة باسم جميع تلاميذ القسم إلى هدايا منفردة، أي كل تلميذ أو تلميذة يقدم هدية باسمه، وإن كانت في الغالب عبارة عن علبة من الشكولاتة أو البسكويت أو كتابة بعض الجمل أو العبارات على أوراق الدفاتر كتعبير منهم عن حبهم لأستاذهم، مع غياب مشموم الورد الواحد الذي هو رمز المحبة والانسجام كما أسلفنا. إن تعدد الهدايا، في نظرنا، قد يكون آلية لضرب وحدة وانسجام تلاميذ القسم أو تعبير عن غيابها أصلا، أو قد يكون هذا الفعل تعبيرا سطحيا عن انسجام تلاميذ القسم، أو ادعاء مجانيا بحبهم لأستاذهم، هذا إذا لم يكن الاحتفاء نفسه مجرد استراتيجية “لإرشاء” الأستاذ من طرف تلاميذه، حتى يمنحهم نقطا اضافية سواء في المراقبة المستمرة أو في الاختبارات الكتابية.
– إذا سلمنا بأن التلاميذ أبدعوا حقا في مضمون الهدية، أي انتقلوا من هدية جماعية واحدة (اعطاء مشموم الورد) إلى هدايا منفردة (أنواع كثيرة من البسكويت والشكولاتة)، إلاّ أننا نتحفَّظ جدا على أسلوب تقديمها، لأن التلاميذ يطلبون من الأستاذ المحتفى به أن يجلس في مكتبه رافعا يده إلى السماء كأنه في وضعية الدعاء، وأحيانا يطلبون منه اغماض عينيه كما رأينا ذلك في بعض أشرطة الفيديو التي وثَّقت بعض هذه المشاهد، ليأتي التلاميذ بعد ذلك يتسارعون ويتدافعون أحيانا من أجل اعطاء أو “رمي” هداياهم على مكتب أستاذهم بعد أن امتلأت يداه دون مراعاة اتيقا تقديم الهدايا في هكذا مناسبات، ما عذا إذا استثنينا سلوكيات بعض التلاميذ، فالإناث مثلا يخطفن قبلة محتشمة من بعض أستاذاتهن أما الذكور فيكتفون بعناق سريع ومتردد لأساتذتهم بعد تسليم الهدية.
نشدد في الختام، بأننا مع جميع المبادرات التي تعيد القيمة الاعتبارية للأستاذ حتى ولو كانت رمزية كما سبقت الإشارة إلى ذلك آنفا. كما أننا مع ضرورة تغذية الذوق الفني والجمالي للتلاميذ، وحثّهم على تعديل بعض سلوكاتهم التي ينبغي أن تحفظ قيمة الأستاذ ومكانته. وهذا لا يعني أننا نشكك في نبل سلوكياتهم المومئ إليها في مضمون هذه التأملات، لكن نحن مع تعديلها، وتجويدها، حتى تتطابق مع مضمون الهدية ورمزيتها، وتعبر بكثافة عن مشاعرهم النبيلة لأساتذتهم.