ترامب يزرع الفوضى غير الخلاقة في بلاده وفي العالم

ماذا يحدث في أمريكا / ترامب هذه الأيام؟
الرجل المثير للجدل، والخوف، والإعجاب عند البعض، والاحتقار عند البعض الآخر، وقع أكثر من 100 قرارًا رئاسيًا منذ أن وضع يده على مفاتيح البيت الأبيض في أقوى دولة في العالم.
وهذا رقم قياسي غير مسبوق، كما هي حال كل قرارات ومسارات ترامب، غير مسبوقة تمامًا.
هذا رجل قلب دفة السياسة الخارجية لبلاده بزاوية 180 درجة، وهذا أمر غير مألوف، لأن السياسة الخارجية تختلف عن السياسة الداخلية، إذ لا يكون التغيير فيها مفاجئًا وسريعًا وعنيفًا (brutale).
ترامب الآن يتصرف كديكتاتور منتخب، يهدد أسس الديمقراطية في بلاده كما لم يفعل أحد من قبله، مستغلًا موجة الشعبوية العاتية التي حملته إلى الرئاسة، متحديًا كل الأحكام القضائية الصادرة ضده، وهي أحكام بعضها جنائي، ومستغلًا قبضته على الكونغرس بغرفتيه، ووجود أغلبية محافظة في المحكمة العليا، علاوة على تحالفه مع كبار مليارديرات وادي السيليكون، يتقدمهم إيلون ماسك، الذي يقوم بمذبحة حقيقية في وسط الإدارة والاستبلشمنت الأمريكي تحت شعار: “تقليص النفقات الفيدرالية وتوفير مليار دولار كل يوم”.
خارج تفاصيل العناوين الإخبارية، وتسارع الأحداث، وكثرة التحليلات لما يقوم به ترامب بسرعة غير مسبوقة، لا بد من الانتباه إلى عدة نتائج لسياسات ساكن البيت الأبيض الجديد:
أولًا: ترامب يخرج من القرن الواحد والعشرين ويرجع بنا إلى القرن التاسع عشر
حيث النزعة الاستعمارية القومية المتشددة، والمصلحة الاقتصادية المتوحشة، وغياب القانون الدولي والمؤسسات الدولية، وحيث سيادة الدول تُقاس بقوة أساطيلها وجيوشها.
نعرف إلى أين قادت هذه السياسة العالم: قادته إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما خلفتهما من ضحايا بالملايين، ومن صعود للفاشية والنازية والستالينية والفركاوية، وبقية القصة معروفة.
ترامب يدفع العالم إلى الفوضى الآن.
ثانيًا: ترامب يهدم صرح الديمقراطية الأمريكية
التي عمرها أكثر من 200 سنة، عن سبق إصرار وترصد.
هو الآن يحول البيت الأبيض إلى مزرعة خاصة، وفريقه إلى أتباع بلا رأي ولا حول ولا قيمة، علاوة على دخوله في صراع مفتوح مع الدولة العميقة: وزارة الدفاع، مجمع المخابرات الداخلية والخارجية، ثم وزارة الخارجية والإعلام.
نعم، جل الديمقراطيات الغربية عرفت مراحل انتكاسة ديمقراطية؛ فرنسا عرفت هذه الردة عدة مرات مع نابليون وعودة الملكية بعد الثورة، بريطانيا عرفت تراجعًا ديمقراطيًا مع كرومويل، ألمانيا عاشت انتكاسة مع صعود النازية، وكذلك إيطاليا مع الفاشية.
وحدها أمريكا لم تعرف هذه الظاهرة، والآن جاء وقتها، وعلى يد ترامب، الذي يمسك بمعول ويهدم الصرح الديمقراطي حرفيًا.( المشكلة ان ما يقع في امريكا لا يبقى داخلها أبدا بل يعمم نفسه وينتشر حول العالم بفضل قوة اقتصادها وإعلامها وتقنيتها وتكنولوجيتها وأفلامها وقوة نموذجها
pour le meilleur et pour le pire
ثالثًا: ترامب يزرع الفوضى حول العالم
ويقلب تحالفاته، ويضع المصلحة الاقتصادية المباشرة لإدارته فوق كل اعتبار قانوني، أو بيئي، أو أخلاقي، أو دبلوماسي، أو إنساني.
وهذا السلوك المتوحش لن يبقى في حدود أمريكا، بل سيعمم نفسه على دول وقادة آخرين سيصعدون عن طريق صناديق الاقتراع لهدم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
لنتأمل في هذه القرارات والتصريحات ودلالاتها:
* ترامب يزعزع استقرار كندا، جارته الديمقراطية المتقدمة جدًا وحليفته منذ عقود طويلة، ويطالب بضمها إلى الولايات الخمسين التي يحكمها، وكأنها لا تمتلك سيادة ولا قانونًا ولا شعبًا ولا مؤسسات حكم (نزعة توسعية).
- إشهار -
* يستولي أسمياً في البداية على قناة بنما، تمهيدًا للاستيلاء عليها.
* يعلن نيته في سرقة أرض غزة وبناء ريفييرا فوقها، وتشريد أهلها إلى الأردن أو مصر لزعزعة استقرار هذين البلدين.
* يقايض زيلينسكي بمعادن بلاده مقابل ما أخذه من مال وسلاح من أمريكا في عهد بايدن، ويعلن صراحة أنه سيتوقف عن توريد السلاح إليه حتى قبل بدء المفاوضات مع بوتين.
* يدير ظهره لحلفائه في أوروبا، وينتقص من قوة وجدوى الحلف الأطلسي، الذي حمى أوروبا الغربية على مدار 80 سنة، ونشر السلم والأمن في القارة العجوز كما لم تعرفه في تاريخها يقول ريجس دوبري Régis Debray l adresse de l Occident est la Maison Blanche / (عنوان سكنى الغرب هو البيت الأبيض )
* يمد يده إلى بوتين وكأنه صديق حميم/ أو شريك استراتيجي، ويصف زيلينسكي بأنه ديكتاتور، وهي صفة لم يطلقها حتى ألد خصومه في الكرملين عليه.
إنه يجرب تمرير أخطر قرار بعد الانسحاب من مجلس حقوق الإنسان في جنيف، ومن اليونسكو في باريس، وعقاب قضاة المحكمة الجنائية الدولية، إذ يجرب الآن الانسحاب من الأمم المتحدة نفسها.
وهناك اليوم مقترح قرار قدمه نواب يمينيون في مجلس النواب الأمريكي بإيعاز منه.
.ترامب يخوض صراعًا قويًا مع وسائل الإعلام الأمريكية
إذ يقاضي بعضها، ويريد حجب المعلومات عن بعضها الآخر، وذلك من خلال وضع معايير جديدة لاختيار قائمة الصحافيين الذين يحق لهم دخول وتغطية الأخبار في البيت الأبيض.
* أقدم جيف بيزوس، مالك أمازون، على تعميم مذكرة على هيئة تحرير جريدة واشنطن بوست، يمنع من خلالها نشر أي رأي في صفحة الرأي لا يؤيد الحريات الشخصية والأسواق الحرة، وهو ما قابله إيلون ماسك بالقول: “Bravo”.
* وكان بيزوس قد حظر على الصحيفة تأييد كمالا هاريس ضد ترامب، كما تفعل جل الصحف في أمريكا، وهو ما فُهِمَ منه نوع من التأييد لترامب ومشروعه.
الخلاصة:
أمريكا تغلق الأبواب على نفسها، وتقول للعالم: “مصلحتي الاقتصادية المباشرة مقدمة على كل شيء؛ على القانون الدولي، على المنظمات الدولية، على قوانين المنافسة ومدونة التجارة العالمية، على تاريخ حلفائنا كل هذا يقوده شخص شكك في جدوى اللقاحات، ودعى مواطنيه لحقن انفسهم بالكلور وجافيل ،
رئيس لا يقرأ شيء فقط يغرد ويشاهد فوكس نيوز ومحاط بوزراء لا يقولون له لا أبدا ويتجنبون إغضابه او معارضته
رئيس سئل سنة 2016 من قبل الصحافة اي من الخبراء والمستشارين تستعين بهم لرسم سياساتك وقراراتك في المجال الخارجي فاجاب ترامب على الفور : أنا أتكلم مع نفسي بالأساس لان لدي عقل جبار ومستشاري الاول هو أنا لأني أتمتع بحس عالي اتجاه هذه الأشياء …”.
لكن، هل هذا قائد امبراطورية عظمى ؟ هل سلوك الانغلاق واحتقار العالم سيودي لاستعادة امريكا أمجدها؟ ، أم ان هذا سلوك دولة في بداية انهيار، دولة خائفة من المنافسة و تحمي نفسها بما بقي لديها من قوة لمنع المزيد من التدهور؟
هذا سؤال للتفكير والتدبر/ فغالبا ما كانت الاسئلة هي التي تنير الطريق وليس الأجوبة
وكل رمضان وأنتم بصحة وعافية، والسلام عليكم.