كيف تذيل المغرب الترتيب الدولي في ميدان التعليم العالي والبحث العلمي؟


“ليس في بلادنا تعليم مجاني، إنما هو تجهيل باهض الثمن”
نجيب محفوظ

بعد الصدمة التي تعرضت لها المنظومة التعليمية الوطنية برمتها بتصنيفها في أسفل الترتيبات الدولية بل وتذيلها التصنيف عربيا، نعتقد أنه من واجب الفاعلين الأساسيين في منظومة التعليم العالي، وعلى رأسهم الأساتذة الباحثون، فتح نقاش حول الأسباب العميقة لهذه الوضعية التي لا تليق بالوطن وبالجامعة المغربية على الخصوص.

هذا لا يعني أننا سكتنا أو لزمنا الصمت في الماضي عما كنا نعتبره غير صالح ولا يخدم مصلحة التعليم العالي لكن، للأسف، اختارت الحكومات والوزرات المتعاقبة المضي قدما وتجاهل كل التحذيرات التي يوجهها لها أصحاب الاختصاص من أساتذة ونقابيين من ذوي الخبرة والتجربة في الميدان.

عموما بالرغم من أن ترتيب الجامعات على المستوى الدولي يعتمد على عدة مقاييس ومعايير منها مجلات النشر وعدد المقالات وكذلك عدد الإحالات المرجعية وبراءات الاختراع… سنتعرض في هذا الجزء الأول للإصلاح البيداغوجي نظرا لما تعرض له هذا الورش الكبير، الذي عمر لمدة أزيد من عشرين سنة، من تدخلات متضاربة، متباينة وكذا لما خلفه من خيبات أمل لدى شرائح واسعة من الأساتذة الباحثين بالمؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح على الخصوص.

ولعل ما حدث بخصوص الإصلاح البيداغوجي في صيغته الحالية (2023/2024) المطبق بشكل أحادي والمنزل بشكل فوقي بالمؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح، ليعتبر أبلغ دليل عما يعتري المقاربات الوزارية من خلل ولافتقادها البعد التشاركي واختيارها السير بعيدا عن هموم الأجيال القادمة.

أجل، لقد تكلم الأساتذة من خلال مختلف المواقع البيداغوجية والعلمية والبحثية والنقابية كالمسالك والشعب والمختبرات ومراكز تكوين الدكتوراه، لكن لا حياة لمن تنادي. كل ذلك موثق وموجود رهن إشارة الباحث ليطلع على هذا الكم الهائل من اقتراحات السيدات والسادة الأساتذة كفاعلين أساسيين في المنظومة التعليمية والبحثية. بالنسبة لنا لقد اخلى السيدات والسادة الأساتذة ذمتهم بعدما أصدروا البيانات والبلاغات وكونوا تنسيقيات للشعب والمسالك على الصعيد الوطني ليبدوا ملاحظات قيمة وثمينة حول مشروع الإصلاح لكن ووجهوا بآذان صماء وعناد غريب الأطوار من طرف الوزارة الوصية. كما واكبت النقابة الوطنية للتعليم العالي هذه الصحوة بعقد عدة جموعات محلية وجهوية للتعبير عن تطلعات السيدات والسادة الأساتذة ومنظورهم لإصلاح بيداغوجي يستجيب لمتطلبات المرحلة.

جاء الإصلاح البيداغوجي الجامعي وبدأ العمل به خلال موسم 2003/2004 باعتماد نظام المسالك والوحدات والفصول والمجزوءات عوض نظام السنوات في النظام القديم وعرف هذا الإصلاح الجديد بنظام ال الم دي (LMD)، ليسانس، ماستر والدكتوراه وتستمر مدة الدراسة به على التوالي 3 + 2 + 3 = 8 سنوات.

هكذا فابتداء من الموسم الجامعي 2003/2004 تبنت الجامعة المغربية وعلى الخصوص المؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح Etablissements d’accès libre ou ouvert (المؤسسات المعنـية هي كليات الآداب والعلوم الإنسانية كليات الحقوق والعلوم الاجتماعية كليات العلوم الحقة، كليات الشريعة والمؤسسات المتعددة التخصصات التي ستخلق فيما بعد) هذه المنظومة الجديدة أي LMD كاختصار إجازة ثلاثة سنوات، ماستر في سنتين ودكتوراه ثلاثة سنوات أو أكثر. وقد تم اقتباس هذا النظام عن الاتحاد الأوروبي وفرنسا على الخصوص لأنه يختلف عن المنظومات الأنكلوساكسونية. ويروم نظام LMD على تنظيم الأسدس semestre أو الفصول على شكل أسدسين في السنة الجامعية وستة فصول إلى غاية الحصول على الإجازة. كما يقوم هذا النظام على الوحدات Module التي تتكون من مجزوءات éléments de module. وقد تم تبني دفتر للضوابط البيداغوجية يحدد كيفية تنظيم الدروس وكذلك طريقة توزيع الحصص وكيفية إجراء التقييم والامتحانات وغيرها من الأمور التنظيمية الأخرى.

ينبني النظام الجديد على استيفاء الوحدات validation وتلك التي لم يتم استيفاءها تبقى للسنة الموالية. كما يوجد نظام تعويض compensation بين الوحدات شريطة عدم الحصول على نقطة أدنى حدده دفتر الضوابط البيداغوجية، في أغلب الأحيان، بخمسة على عشرين 5/20 بالنسبة للوحدات. كما جاء الإصلاح بفكرة مد الجسور Passerelles بين مختلف التخصصات لإتاحة الفرصة للطالب لتغيير المسلك أي الانتقال إلى مسلك آخر أو لتحصيل وحدات اختيارية في مسالك أخرى. لكن هذه الفكرة الطموحة لم تلق النجاح المتوخى منها نظرا لأنها تتطلب تشبيكا للتكوينات وكثافة في نوعية الوحدات لكي تتضاعف التقاطعات بين المسالك ويسهل على الطالب الانتقال وتغيير المسالك بكل سلاسة. هكذا نجد أن عدد المسالك بقي محدودا نظرا للخصاص الكبير في الأطر التدريسية والتخصصات وبالتالي وكأنه تم الاكتفاء بإفراغ النظام القديم في هندسة بيداغوجية بتسميات جديدة مختلفة وبقيت الفجوة بين المسالك فجة يستحيل معها الحديث عن جسور مبنية على أساس تقاطعات معرفية وإيبستيمولوجية مشتركة تسهل الانتقال المتبادل والمرن.

- إشهار -

كان المأمول من هذا الإصلاح، منذ انطلاقه في موسم 2003/2004، الحد من عدد الطلبة الذين يغادرون الجامعة بدون شهادة وكذلك تقليص عدد السنوات التي يقضيها الطالب للحصول على ديبلوم أي بتعبير آخر محاربة الهدر الجامعي. لكن هذا الإصلاح خضع بدوره لعدة تعديلات تمثلت أساسا في تقليص عدد المجزوءات من ثلاثة في كل وحدة سنة 2004 إلى واحدة فقط في كل وحدة سنة 2014. كذلك تم في كثير من الأحيان التخلي التدريجي عن بعض الوحدات مثل المعلوميات نظرا لغياب القاعات والتجهيزات لتغطية الحاجيات وكذلك عدم القدرة على القيام بالتفويج أمام الأعداد الهائلة من الطلبة التي تلتحق بالمؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح Etablissements d’accès ouvert …فأين هي روح الإصلاح أمام هذه التراجعات المتتالية والمستمرة سواء من حيث الكم المعرفي أو جودة التكوينات أو من حيث عدد المجزوءات المكونة للوحدات؟ وأسباب هذا التقليص كانت تعزى باستمرار لقلة الموارد البشرية وشح الإمكانيات المادية بالأساس. فكيف يعقل إصلاح بدأ بثلاثة مجزوءات في كل وحدة في البداية مع الوزير نجيب الزروالي (‪2002-2004‬) أنتهى به الأمر إلى مجزوءة فقط لكل وحدة مع الوزير لحسن الداودي (‪2012-2017‬ ). كان هذا التعديل الأخير، الذي اكتفى بمجزوءة لكل وحدة، بمثابة تخلي غير معلن عن الإصلاح كما تم الشروع فيه ولم تبق منه سوى التسمية فتم التخلي التدريجي عن المجزوءات وكان الاحتفاظ بتسمية الوحدات شكليا فقط.

بعد ذلك جاء الوزيرسعيد أمزازي( ‪2017-2021‬) ليقترح مشروع إصلاح مغاير وجديد بنفحة أنكلوساكسونية هذه المرة أي الباشلور أو الباكالوريوس. لكن تم التخلي عنه قبل البدئ بالعمل به من طرف الوزير الحالي. فما هي الأسباب الذي جعلت السيد الوزير يتخلى عن إصلاح تم قطع أشواط مهمة في التحضير له من اجتماعات واقتراحات ومشاورات؟ وقد لاحظ الرأي العام الجامعي ومختلف المتتبعين أن مجهودات وموارد قد أهدرت في إصلاح تم التخلي عنه لمجرد تغيير في الوزارة الوصية وكأن الفاعلين الأساسيين الأخرين كالأساتذة والهيئات البيداغوجية لا دور لها سوى أن تكون تابعة تدور في فلك كل ما ينزل من فوق.

بعد ذلك اقترحت الوزارة في عهد الوزير الحالي مشروع إصلاح جديد أنزل بشكل فوقي متخليا، في أغلب سماته، عن الإصلاح الذي سبقه دون تقييم جدي لهذه العملية، مشروع الإصلاح الذي لم يعرف الطريق إلى التطبيق وأجهض في المهد بشكل غريب ومريب. هذا يطرح كذلك سؤال حول كيفية ارتباط الإصلاحات بالأشخاص والوزراء المتعاقبين وأين استمرارية المؤسسات والأوراش من ذلك وكذلك التراكمات التي يجب أن تحدث بدل أن يجب الحالي كل ما سبقه. هذا الإصلاح قلص من عدد الوحدات الأساسية المكونة للحقل المعرفي الرئيسي للمسالك لتحل بدلها ما يسمى المهارات الناعمة أو العذبة Soft Skills أي إكتساب الطالب مهارات حياتية وتواصلية مع هزالة في التكوين الرئيسي. هكذا حلت الوحدات العرضية modules transversaux مكان البعض الوحدات الأساسية التي تشكل صلب الحقل المعرفي . كما أقدت الوزارة في صيف سنة 2023 على التخلي عن تسمية الإجازة الأساسية licence fondamentale لتحل محلها إجازة عامة غير ذات محتوى معرفي أساسي مرتبط بأحد الحقول المعرفية الأساسية كما هو متعارف عليها علميا ويمكن أن نطلق عليها كلمة باختصار وبدون تعسف كلمة “هجين”. هكذا قضى المرسوم رقم 2.23.668 الصادر في يوليوز2023 بتغيير وتتميم المرسوم رقم 2.04.89الصادر في 18 من ربيع الآخر 1425 (7 يونيو 2004) واعتمد تسميات جديدة للشهادات الوطنية التي تختص المؤسسات الجامعية بتحضيرها وتسليمها، وذلك من خلال تسمية شهادة “الإجازة” عوض شهادة “الإجازة في الدراسات الأساسية” وشهادة “الإجازة المهنية”.

وقد بلغ الأمر لدرجة أن الهندسة البيداغوجية الجديدة أصبحت تهدد بعض الحقول المعرفية بالاندثار نتيجة تفقير الحقول المعرفية وتقليصها إلى أقصى درجة. وهنا نتذكر خروج أحد أساتذة القانون الدولي متوجها إلى الرأي العام والمسؤولين كيف تم تهميش مادة القانون الدولي في مختلف مشاريع المسالك المستحدثة في إطار الهندسة البيداغوجية الجديدة. وإن كان السيد الوزير قد تفاعل مع ما ورد عن هذا الأستاذ وطمأنه لكن بقي المشكل مطروحا بالنسبة للعديد من المسالك التي تعاني من التفقير لبعض المجالات المعرفية الأساسية وتحويل الإجازة إلى شهادة لا تخول ولا تضمن تكوينا رئيسيا في أحد الحقول المعرفية الأساسية. كما حذف الإصلاح الأخير مشروع البحث PFEالذي كان يقوم به الطالب في الفصل الأخير أي السادس كتتويج لدراسته بالإجازة. وكان هذا المشروع عبارة عن إنجاز عمل شخصي يكون بمثابة صلة الوصل بين التدريس والبحث المبني على الاجتهاد. فالتراجع عن الإجازة الأساسية وعن مشروع البحث يجعلنا نتساءل هل هذه الإجازة في صيغتها الأخيرة تؤهل للبحث العلمي في المستقبل؟ باختصار فالهندسة البيداغوجية الجديدة تفتقد التناسق الداخلي بين الوحدات وتعمل على إفقار الحقل المعرفي للمسالك بحذف وحدات أساسية والتخلي عنها بكل بساطة وتعويضها بأخرى ثانوية.

كما اعتمد هذا الإصلاح إدخال اللغات إلى كافة الفصول من 1 إلى 6 . مع العلم أن الجامعة المغربية تفتقد للإمكانيات البشرية لتدريس مثل هذه المواد بهذا الكم مع اقتراح الوزارة أن تدرس اللغات عن بعد أو عن طريق Plateforme منصات وهو ما اعتبره العديد من الأساتذة ضربا من العبث مرددين عبارة “هل يصلح العطار ما أفسده الدهر”. بمعنى كيف للتعليم العالي أن يتدارك النقص المتراكم عند التلميذ في اللغات الأجنبية (فرنسية، إنجليزية، إسبانية) بالابتدائي والثانوي …فقط عن طريق المنصات أو غيرها من الإجراءات الشكلية. ناهيك عن المشاكل التقنية والأعطاب التي أصابت المنصات مثل Rosetta وقد تناول الرأي العام الجامعي والصحافة هذا الموضوع في العديد من المناسبات موضحين الصعوبات التي تعترض الطلبة. فمشكل اللغات الأجنبية مشكل بنيوي يجب معالجته في كل المراحل التعليمية بحزم فلا يعقل أن يدرس التلميذ 13 سنة لغة أجنبية ولا يجيد الكتابة بها ولا يفهمها في مستوى الباكالوريا (اللغة الفرنسية كمثال) لاسيما عندما تكون اللغة الأجنبية هي لغة تدريس الحقل المعرفي من المفروض أن يكون التلميذ قد تمكن منها بشكل جيد قبل المستوى الجامعي. الأكيد أن اكتساب المهارات اللغوية الأجنبية يجب أن يكون هاجسا في مختلف الأسلاك التعليمية من ابتدائي وإعدادي وثانوي لأن التعليم العالي يفترض أن لغة التعلم والتلقين لا تطرح مشاكل لدى الطالب.

في الأخيرالسؤال الذي يطرح بكل تجرد وصراحة: هل صارت المؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح حقل تجارب لإصلاحات يتم تنزيلها بشكل فوقي؟ هل خضعت المشاريع الأولى التي انطلقت منذ سنة 2004 لتقييم حقيقي وعقلاني أم أن كل وزير يحمل مشروعا جديدا فقط من اجل الكلام عن الإصلاح؟ أكيد أن هذه التراجعات تشكل نكوصا عن الإصلاح الذي كان في بدايته طموحا وجاذا بتطلعاته ونواياه لكن أفرغ من محتواه مع توالي السنين وصار هزيلا معرفيا بإقرار ذوي الاختصاص أي الأساتذة. ثم لماذا لا ترصد للإصلاحات الإمكانيات الضرورية لنجاحها ونكتفي في نهاية المطاف بجعل الإصلاح يتأقلم مع ما هو موجود وبالتالي نكون قد ضحينا به. فمنذ بداية الإصلاح البيداغوجي بالمؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح كان الهاجس الأساسي المسيطر هو ضرورة توفير الإمكانيات المادية والبشرية لمسايرة متطلبات الإصلاح وتطبيقه دون أن يتحقق هذا الأمر نهائيا بشهادة الجميع وبقي بالتالي بعيد المنال. فالدور التاريخي للمؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح في تكوين الأطر أصبح في مهب الريح بعد ضرب الأساسات التي ارتكزت عليها في الماضي أي التكوين الأساسي والبحث العلمي.

عبد العزيز الماحي

الجديدة في:23/06/2024.

أعجبك المقال؟ شاركه على منصتك المفضلة..
قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد