“دولة الوالي” بين “تعنّت” قادة الأحزاب، ومفهوم القيادة الجماعية للبام
الأغلبية “التحكُّمية” للمجالس الجماعية والجهوية، التي انبثقت عن التحالف الحكومي، بقيادة “مْعلم الشكارة” الملياردير عزيز أخنوش، اتضح أنها عجزت عن تأدية المهام التي تسابقت على تحملها، فدخل الملك محمد السادس على الخط، في خريف 2023، ليعين ولاة جددًا بتعليمات واضحة هي أن يأخذوا بزمام الأمور لتأهيل مدن المغرب لاحتضان كأس أفريقيا 2025 وكأس العالم 2030، حيث جسّدوا، بحركيتهم وفعاليتهم، ما يمكن أن نسميه “دولة الوالي”، حتى أن ما استطاع فعله هؤلاء الولاة والعمال، لم تستطع الأحزاب فعله خلال سنوات عديدة من تسيير منتخبيها للشأن العام، قبل أن يتبين أن عددا مهما من هؤلاء المنتخبين تراموا على الأحزاب من أجل النهب والاغتناء اللامشروع…
لماذا استعملنا صيغة “دولة الوالي”؟ الجواب بسيط جدا، وهو أن الولاة والعمال، هم الذين اعتمد عليهم الملك في تسيير البلاد خلال جائحة كورونا، وكانت تجربتهم تلك، في تسيير الشؤون المحلية والجهوية، تحت نظر وتوجيهات الملك، فرصة للجالس على العرش لتدبير تعيينات جديدة لولاة وعمال راكموا خبرات تنظيمية، بخلفيات اقتصادية واجتماعية وسياسية، كفيلة بتحقيق نتائج مثمرة في الإشراف السليم على المشاريع والأوراش التنموية الكبرى التي أطلقها الملك في البلاد، والتي لا يمكن تركها رهينة لمنتخبين، بينهم برلمانيون ورؤساء جماعات ومستشارون، تلاحقهم ملفات ذات صلة بقضايا الفساد المالي والإداري، والذين قال فيهم الملك إنهم “يستغلون التفويض، الذي يمنحه لهم المواطن لتدبير الشأن العام، في إعطاء الأسبقية لقضاء المصالح الشخصية والحزبية، بدل خدمة المصلحة العامة”…
هذه شهادة إدانة قوية وشديدة من ملك البلاد لهؤلاء الفاسدين، الذين تسلّلوا إلى المشهد الحزبي، وأصبحت لديهم اليد الطولى في شؤون الحزب، سلاحهم في ذلك هو “الشكارة”، فأموالهم تفتح لهم أبواب الحزب الذي يريدون، وإذا أبدى الحزب ولو بعض الممانعة في تلبية طلباتهم وتنفيذ إرادتهم، فإنهم “يرضخون” الباب دون انتظار، وينصرفون إلى “أرض الأحزاب الواسعة”، وتعدادها يفوق الثلاثين حزبا، ثلثاها يكاد لا يعرف أسماءها أحد، ففيها يجدون ضالتهم مما “يشتهون” و”يشترون” من “تزكيات”، فاحتلوا بها الجماعات والبرلمان والانتخابات والأصوات، وتكاثروا، دون أن “يلهيهم التكاثر” عن تصدّر الحياة السياسية.
من هنا نفهم “الفرملة”، التي تعرض لها حزب الأصالة والمعاصرة، خلال مؤتمره الأخير، الذي أفرز قيادة ثلاثية يتساوى فيها الجميع في المسؤولية، لتظل كذلك طيلة مدة الولاية، بدل أمين عام واحد كما هو المعتاد، وهي “رجة” يراد منها إعادة طرح سؤال “الوجود”، الذي أسس من أجله صديق الملك فؤاد عالي الهمة حزب الأصالة والمعاصرة، وقال إنه اضطر لتأسيسه بعد رفض الأحزاب وقتها التعامل مع حركته لكل الديمقراطيين، التي جاءتها بمشروع شامل لتتدبّر به هذه الأحزاب كيف تتصدى للأعطاب، التي تعرضت لها، وليساهم من خلاله في تطوير العمل السياسي وتخليق الحقل الحزبي…
ولعل أبلغ مثال على ذلك، زمنئذ، عندما تداول الرأي العام حالة حزبية شبه نادرة في الحياة السياسية، حين رفض البام، في عهد الهمة، منح التزكية للعديد من “الأشخاص”، الذين لجأوا إلى حزب التراكتور للترشح باسمه في انتخابات تجديد ثلث مجلس المستشارين سنة 2009، بسبب “اشتباه توظيفهم للمال المشبوه في العمل السياسي”، كما ورد حرفيا في بلاغ للمكتب السياسي لحزب الأصالة والمعاصرة يوم 24 شتنبر 2009…، قبل أن يضطر الهمة إلى مغادرة سفينة البام، معترفا، في رسالة الاستقالة، أن الحزب تعرّض إلى “انحرافات كثيرة”، من شأنها جرّ “تجربتنا إلى وضع المأزق، مما يشكل انهيارا للآمال المعلقة عليها في لحظة سياسية دقيقة تمر منها بلادنا”…
سؤال الوجود طرح نفسه مرة أخرى قبل مؤتمر البام الرابع “للتخلص” من حزب الأصالة والمعاصرة بعد الخطاب الملكي الصريح في ذكرى عرش 2017، والذي أدّى إلى “استقالة” (طرد) إلياس العمري من الأمانة العامة للحزب، ودار في الكواليس إمكانية اندماج البام بحزب الأحرار كي يتمكن عزيز اخنوش من الحؤول دون استمرار حزب العدالة والتنمية على رأس الحكومة لولاية ثالثة، وهو ما رفضه رفضاً باتا رئيس اللجنة الوطنية للانتخابات داخل البام، محمد الحموتي “العلبة السوداء لإلياس”، فخاض “الممتنعون” حربا شعواء على الأمين العام حكيم بنشماس ومن معه من المؤسسين، وعمد من وصفهم بنشماس، في رسالته للمؤتمر التي بعثها من دولة الإكوادور بـ”المليارديرات الفاسدين”، إلى أسلوب “الإنزالات” التي غمرت المؤتمر، فاضطر محمد الشيخ بيد الله إلى الانسحاب من الترشّح للأمانة العامة وغادر المؤتمر غاضباً، وسحب باقي المرشحين ترشيحاتهم “مكرهين”، و “أُنزل” عبد اللطيف وهبي على كرسي الأمانة العامة للبام، وهو ما حذّر منه بنشماس، في رسالته، حيث وصف ما يقع في الحزب بـ”الفساد ومحاولة اختطاف الحزب” و”الإعداد للاتجار في التزكيات الحزبية للاستحقاقات المقبلة”، وأعتبر أن البام يخوض معركة بين إرادتين: إرادة السطو على مؤسسات الحزب وعلى رصيده النضالي وتوظيفه لتنمية الأرصدة المعلومة، وإرادة الشرعية وتصحيح المسار وإعادة تعريف مفهوم المسؤولية وتنقية عتبات الباب وجنبات البيت؛ هي معركة نتشابك فيها مع قوة نشأت وترعرعت في سياق الانحرافات، التي وقعت في صفوفنا؛ في غفلة منا أو بسبب تواطؤات لم يكن لأنبهنا وأشجعنا -باعتبار ازدحام أجندة الحزب بالمهام المعلقة وتعدد وتنوع ضربات الخصوم- القدرة على التصدي لها، في الوقت المناسب، قبل أن تتغول وترتدي لبوس الشبكة أو الأخطبوط ذي الأذرع المتعددة”، حسب نفس الرسالة.
عبد اللطيف وهبي، الذي حلم بالاستوزار فبعث، قبل انتخابه، “لايكات الهوى” لحزب العدالة والتنمية، بعدما اعتقد أن البيجيدي سيفوز بالانتخابات التشريعية لاقتراع 8 شتنبر، فقال إن مؤسسة إمارة المؤمنين ليست إلاّ إسلام سياسي، مثلها مثل حزب البيجيدي، وهو تصريح يشكّل خرقا سافرا للأعراف وللدستور، وتوالت تصريحاته الخرقاء، إذ ما أن خرج من الاستقبال الملكي، بعد انتخابه أميناً عاماً للحزب، وتجمّعت عليه الميكروفونات، حتى قال إنه والملك محمد السادس “يجمعهما الاحترام المتبادل”… وشخصيا، منذ هذا التصريح، غسلت يدي، بالمرة، من أي إمكانية وأي أمل لعودة الأمور إلى سكة المؤسسين، لأن الوضع الدقيق، الذي عاشه البام، في ظل أمانته العامة السابقة، كان يحبل بكثير من عوامل الانفجار، كنتيجة طبيعية لسلوكات وقرارات ارتكبها عبد اللطيف وهبي، منذ وجد نفسه أمينًا عاما للحزب الذي “أسسه صديق الملك”، خصوصا مع إصراره المبين على انتهاك القيم والمبادئ، التي بُني عليها الحزب، ولعلّ أبلغ “تشريح” لهذا “الانحراف” و”الانتهاك” هو ما عبّر عنه البيان المشترمك للمؤسسين، الذين دعوا إلى طي صفحة عبد اللطيف وهبي، مستنكرين “أداءه وتصريحاته وتهديداته وسلوكاته اللامسؤولة”، قبل أن يعلنوا عن “رفضهم القاطع لها باعتبارها تنكرا غير مقبول وانحرافا خطيرا بالنسبة للمشروع المؤسس للحزب وقيمه وأخلاقياته المنتصرة للممارسات الفضلى في العمل السياسي وفي أداء المهام والمسؤوليات العمومية”…
حزب الأصالة والمعاصرة، كما هو مفترض وِفق الأرضيات المرجعية للمؤسسين، كان منتظرا أن يشكل تأسيسه إجابة “متقدمة” عن أوضاع “متأخرة” تهيمن على الساحة السياسية، لقد حلِم الهمة أن يمضي حزبه على نهج حركته (حركة لكل الديمقراطيين) التي حرّك تأسيسها العديد من البرك الراكدة في حقل ألغام السياسة، وتمكّنت من إطلاق نقاشات سياسية ومجتمعية، في مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية والتنموية والثقافية. لكن سرعان ما نفض يديه مما آلت إليه حالة الحزب، الذي عوض أن يغيّر ما هو كائن، تحوّل إلى مجرّد رقمٍ في حلقات “كان يا ما كان”.
واليوم، ونظراً لما أسمته هذه القيادة الثلاثية الجديدة القديمة، بـ”الطعنة من الخلف”، والكثير من الطعنات المحتملة قادمة، فإن الحزب مطالب بإلحاح أن يكون سبّاقا لمراجعة معمقة لقانونه الأساسي، ليتضمن، بغض النظر عن قرينة البراءة، نصوصا “أخلاقية” تحد بها هذه القيادة من تزكية المتابعين قضائيا ضمن صفوفه للترشح لأي منصب كان، وأي استحقاقات انتخابية مقبلة، بل وأن تتعدى “جزاءات” الحزب من “رفض التزكية” إلى مستوى “تجميد العضوية” لكل الوجوه، التي تحوم حولهم شبهات فساد، أو صادرة في حقهم أحكام ابتدائية بتهم سوء التدبير، وإبعادهم من التسيير إلى حين حصولهم على البراءة…
لمحاربة هؤلاء، في ما أعتقد، أفرز البام هذا النموذج من التسيير (القيادة الجماعية) ليشتغل، خلال ولايته، أولا على استرجاع “الثقة” التي فقدها الملك فيه، وفي باقي الأحزاب، ثم ثانيا الانصراف عن البحث عن المناصب والمكاسب، والاتجاه نحو العمل على محاربة البلقنة، كما فعل الحزب حين نشأته، بفتح نقاشات جادة مع باقي الأحزاب لإحياء فكرة “ج8″، ولمَ لا البحث عن اندماجات جديدة، فالمغرب في حاجة ملحة اليوم إلى أقطاب حزبية ديمقراطية قوية (يسار ويمين ووسط)، بما أنه لا حزب اليوم يمكنه الاشتغال على برنامج انتخابي خاص به في أفق انتخابات 2026، في ظل وجود برنامج ضخم يتجلى في تنزيل النموذج التنموي، ومواكبة الأوراش الملكية المفتوحة لتنزيلها على أرض الواقع، واحتضان المغرب لكأس العالم في حلّته الثلاثية، بالإضافة إلى الإسراع بحل ملف الصحراء المغربية…
من الطبيعي أن تكون لـ”فقدان ثقة الملك والشعب” مضاعفات خطيرة على مصداقية الممارسة السياسية، التي أدت بالكثير من المغاربة إلى العزوف عن السياسة، وكذا العزوف عن الانتماء إلى الأحزاب، واللجوء إلى وسائل أخرى “غير حزبية” للتعبير عن أصواتهم ومواقفهم وتوجهاتهم، بعدما وجدوا ضالّتهم في وسائل التواصل الاجتماعي، من الواتساب والتيك توك وصولا إلى الفضاء الأزرق، حيث تحوّلت إلى أكبر معارضة داخل البلاد، إلى درجة إطلاق أكبر حملة افتراضية على الإطلاق قادها نشطاء ورواد مواقع التواصل الاجتماعي، في مواجهة الغلاء والارتفاع الصاروخي في الأسعار، ومطالبة رئيس الحكومة الملياردير بالرحيل، واتهامه بنهب جيوب المغاربة عبر خلط المال بالسياسة.
فقدان الثقة ذاك، إضافة إلى التأثير والفعل في مواقع التواصل الاجتماعي، أدّى أيضا إلى بروز “حراكات” اجتماعية، خارج وضد الأحزاب القائمة، عبارة عن احتجاجات شعبية في عدد من المناطق المغربية، من قبيل الحسيمة وزاكورة وأوطاط الحاج وجرادة… ثم توّجت هذه الحركية ببروز “التنسيقيات”، خلال “معركة التعليم”، ليتعدى فقدان الثقة من الأحزاب إلى النقابات…
وفي كل هذه الحالات، بدت الأحزاب عاجزة، عجزت عن الحضور الفاعل والمؤثّر في مواقع التواصل الاجتماعي الذي يحرك “الحراكات” و”التنسيقيات”، وهو ما انعكس على وزنها ومواقعها في الساحة، إذ فشلت في استقطاب نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، وأخفقت في استعادة المبادرة منهم.
خارطة الطريق، التي عبّر عنها الملك محمد السادس في خطاباته، التي تعدّت مائة خطاب وخطاب، تعكس رؤية استراتيجة وإرادة سياسية ملكية، سيمكّن اتباعها وإعمال مقتضياتها من تأسيس تيار سياسي واضح المعالم من حيث الاتجاه الفكري، يقطع مع السائد اليوم، عبر الانكباب على مراجعة الذات والتوجهات والآليات، من أجل أن تلبي انتظارات الشعب، وتفهم أن المغرب في حاجة إلى أحزاب قوية تكون في مستوى متطلبات اللحظة السياسية، وقادرة على تدبير المرحلة وتحصين الممارسة السياسية، ومؤهّلة للارتقاء إلى مرحلة أعلى من الممارسة الديمقراطية، لتكون حاضنة لأفق الملكية البرلمانية.