اربطوا الأحزمة ياعرب :نظام دولي سائل ومتغير وغير متوقع …


نعيش اليوم في ظل نظام دولي يتميز بسرعة الأحداث وتغير المعطيات بشكل دائم. هذا النظام، الذي يمكن وصفه بالسائل (fluide)، يتسم باللايقين، والتغيرات الكبيرة والمفاجئة، وغياب القدرة على توقع اتجاهات الرياح والتحولات داخله. كما يبرز فيه التداخل والترابط العميق بين الملفات، والقوى، والمصالح، والخرائط الجيوسياسية. ولإيضاح بعض هذه السمات، دعونا نتأمل هذه العينة من الأحداث في الشرق الأوسط والعالم العربي :

    يمكنكم الاشتراك في نشرتنا البريدية للتوصل بملخصات يومية حول المقالات المنشورة على الموقع

    الاشتراك في النشرة البريدية

    1. زلزال 7 أكتوبر 2023: البداية المفاجئة
    بدأ الحدث كهجوم محدود من قبل مقاومة غزة بهدف كسر الحصار الإسرائيلي، ووقف مسار التطبيع السعودي، وإعادة القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام الدولي.

    هذا الهجوم، الذي بدا بسيطًا، تحوّل إلى زلزال استراتيجي كبير في ظرف ساعات قليلة :

    • اختراق الخطوط الدفاعية الإسرائيلية في غلاف غزة بسهولة غير متوقعة، مما أسفر عن أسر المئات من الاسرائيليين وخلق صدمة نفسية ورجة استراتيجية داخل إسرائيل لم يكن لها سابق منذ تاسيس دولة اسرائيل سنة 1948.

    • هذه الصدمة قادت إلى ردة فعل عنيفة وهمجية وغير محسوبة من الجيش الإسرائيلي، تمثلت في سقوط آلاف الشهداء من أطفال ونساء وشيوخ في غزة ولبنان وتحولت اسرائيل بسرعة من الدفاع عن النفس إلى مجرمة حرب متهمة باخطر جريمة في تاريخ البشرية ( الإبادة الجماعية ).

    2. زلزال ثاني: مذكرة اعتقال دولية

    ردة الفعل الإسرائيلية العنيفة جدا والدموية جدا تسببت في موجة غضب دولية في الشرق والغرب خاصة وسط الشباب في امريكا وأوروبا والاتجاهات اليسارية والليبرالية حول العالم ، وبلغت ردود الفعل ذروتها بصدور مذكرة اعتقال دولية عن المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت وإلصاق تهمة الإبادة الجماعية بسمعة الكيان الصهيونى .

    هذا القرار فاقم الأوضاع الدولية والإقليمية ، ودفع الأحداث نحو تغييرات مفاجئة على عدة أصعدة :

    3. إيران ومحور المقاومة: الدخول على الخط

    • دخلت إيران، وحزب الله، والحوثيون على خط المواجهة ضد اسرائيل، معلنين دعمهم لغزة مع إعطاء مفعول عسكري وسياسي لمفهوم وحدة الساحات وان بتفاوت واضح بين ساحة وأخرى ومحور وآخر .

    • ردّت إسرائيل بقوة تدميرية غير مسبوقة وغير متوقعة ، ما أدى إلى اغتيال قيادات بارزة مثل إسماعيل هنية، ويحيى السنوار، وحسن نصر الله، وقيادات الصف الأول في حزب الله وهذا ما لم يتوقعه اي احد، سواء في ايران او لبنان او غزة او حتى في اسرائيل .

    هذا التصعيد غير المسبوق تسبب في تراجع قوة حزب الله وأذرع إيران الأخرى في المنطقة. ومع ذلك، جاءت النتائج غير متوقعة:

    • سقوط نظام بشار الأسد، الذي فشل في استيعاب التحولات الإقليمية التي جرت في 15 شهرا الماضية. أدرك الأسد متأخرًا أن إيران لن تنقذه، وروسيا لن تحارب لأجله، وأن تركيا وصلت إلى نهاية صبرها عليه، فخوفها من زيادة نفوذ الأكراد في سوريا مما يهدد امنها القومي، علاوة على ان ملايين اللاجئين السوريين فوق ترابها صارت لهم كلفة سياسية وانتخابية لم يعد حزب العدالة والتنمية التركي يتحملها، لهذا تحركت انقرة بتنسيق أمريكي أوروبي ودفعت المعارضة للاستيلاء على دمشق وانهاء نظام منهك فاقد لكل شرعية في الداخل والخارج .

    • تمكنت المعارضة السورية بقيادة (احمد الشرع )الجولاني من تحقيق إنجازات ميدانية في غضون عشرة أيام فقط، وهو ما عجزت عنه خلال 13 عامًا وذلك فعل ضعف نفوذ ايران وتغير الأولويات لدى روسيا التي بدأت تبحث عن مخرج من الحرب الاوكرانية بعد فوز ترامب بالرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية .

    - إشهار -

    4. أزمة لبنان: الحل تحت الضغط الدولي

    • انهيار حزب الله عسكريًا وسياسيًا دفع المجتمع الدولي إلى التحرك لحل أزمة الرئاسة اللبنانية واستغلال ضعف حزب نصر الله وانشغاله بلعق جراحه ولملمة صفوفه وفهم اسرار اختراقه .

    • بضغط أمريكي وأوروبي، تم اختيار رئيس لبناني يوافق مصالح إسرائيل وربما يتم استخدام الجيش اللبناني لنزع ما تبقى من سلاح حزب الله في الجنوب في خطوة غير مسبوقة.

    5. صمود المقاومة الفلسطينية: إعادة التوازن

    على الرغم من الضربات القاسية التي تلقتها المقاومة الفلسطينية على مدار 15 شهرًا، إلا أنها نجحت في فرض صمودها وانتزاع مكتسبات غالية في طرفية غير مساعدة تماما .

    • هذا الصمود الفلسطيني دفع إسرائيل إلى قبول تسوية معقولة نسبيًا ( محتمل الإعلان عنها في اي ساعة اليوم او الغد )، في ظل ضغط الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي يسعى لإغلاق ملف حرب غزة قبل دخوله البيت الأبيض الأسبوع المقبل لان له أولويات أخرى ونهج آخر وأسلوب مغاير .

    6. إعادة الحسابات الإقليمية والدولية

    الأحداث الأخيرة دفعت الأطراف كافة إلى إعادة تقييم مواقفها:
    • إيران: تتجه بقيادة الإصلاحيين وفي مقدمتهم الثعلب جواد ظريف الذي له تاثير قوي على الرئيس إلى درجة انه يسمى الآن في طهران (صانع الرئيس) ، ايران الآن تدرس إمكانية فتح حوار جديد مع إدارة ترامب حول ملفات السلاح النووي والحصار الاقتصادي والنفوذ الإقليمي ، خاصة بعد تراجع نفوذ طهران في الشرق الأوسط.

    • إسرائيل: نتانياهو يواجه تحديات كبيرة في البقاء في السلطة، حيث تتصاعد الأصوات الداخلية لمحاسبته على التفريط في الأمن الاسرائلي قبل الحرب، والتفريط في سمعة ومكانة اسرائيل بعد الحرب، خاصة إذا نجحت مراحل ارساء التسوية الجاري الآن حياكتها في قطر وأمريكا واسرائيل .

    • الدول العربية: معظم الأنظمة العربية، التي تُعامل كموضوع للعلاقات الدولية بدلًا من ان تكون فاعلا فيها، تراقب بقلق هذه التحولات، وسط خوف من القادم، خاصة بعد ان تعرض الوجدان العربي لجروح وندوب احتقار من قبل اسرائيل، التي لم تحطم غزة بشرا وحجرا وشجرا بل حطمت احترام الشعوب العربية لقادتها ولجيوشها التي وقفت تتفرج على الإبادة الجماعية للفلسطينيين وخاصة النظام المصري الذي فقد آخر إمكانيات لاستعادة دوره الإقليمي في المنطقة …شعوب المنطقة ستصبح اكثر حساسية من اسرائيل، ومن قضايا العدالة، والحرية، والكرامة والاستقلال عن الغرب وثقافته، بعد ان خسر الأخير في المعركة الأخلاقية في غزة وهذا ربما يخلق مع الوقت والوعي وحجم الجرح عرضا سياسيا جديدا وأحزاب جديدة وتيارات جديدة وأنماط من التفكير والفعل جديدة ربما !

    موقف عرب امريكا والليبراليين في الحزب الديمقراطي ووسط الشباب الأمريكي من سياسة بايدن الذي ساند اسرائيل بلا تحفظ في حرب الإبادة ضد الفلسطينيين، كان له اثر ملموس ومقدر على حظوظ كاملا هاريس في الانتخابات الأمريكية حيث فاز ترامب بكل الولايات المتأرجحة وسط امتناع قطاعات مهمة عن التصويت في الانتخابات وهذا صب في مصلحة الجمهوريين الذين انتزعوا الرئاسة والأغلبية في الغرفتين معا الشيوخ والنواب .. وبهذا تكون ارتدادات احداث غزة قد وصلت إلى امريكا ولو بشكل محدود …فكيف سيكون العالم مع دخول ترامب الآن إلى البيت الأبيض وارتفاع منسوب التغيرات السريعة والمفاجئة

    وغير المتوقعة …كيف ؟

    أعجبك المقال؟ شاركه على منصتك المفضلة..
    قد يعجبك ايضا
    اترك رد

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

    يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد